أ. د. عبد المجيد صديقي: صفحات خالدة لـ”هاني بعل الكنعاني” في رواية صبحي فحماوي
أ. د. عبد المجيد صديقي:المصدر:رأي اليوم
يعرض صبحي فحماوي صفحات خالدة لشخصية فريدة في التاريخ (الكنعاني – القرطاجي- العربي التونسي) في روايته” هاني بعل الكنعاني” بصفته قائدا عسكريا، بطلا شجاعا ومقداما، لا يجود الزمن كثيرا بأمثاله، أريد لها الإقبار والنسيان، إنه” البطل الكنعاني المذهل الذي قاد حروبا متواصلة لمدة أربعين عاما، وذلك لمقاومة بطش الرومان المندفعين في حروب همجية للسيطرة على العالم آنذاك، فانتصر عليهم في عشر معارك كبرى، خلدها التاريخ، إذ قضى خلالها على اثنى عشر قائدا عسكريا من كبار قناصل الرومان، وبقي يحتل إيطاليا لمدة خمسة عشر عاما، في الوقت الذي لم يستطع إقناع مجلس شيوخ مملكته القرطاجية للوقوف معه، لدرء الخطر المحدق بوجودهم، بينما تجاهله العرب الكنعانيون، وتطاول عليه الأعاجم”( ).
وفي ضوء ذلك، يؤثث التخييل العالم الروائي لـ”هانيء بعل الكنعاني” بجزئيات وتفاصيل ودقائق عديدة تعكس الواقع المعيش وتغذيه. ” جزئيات تلمح إلى علاقة تلازم من نوع ما بين ما حصل في قرطاجنة منذ عشرات القرون وبين ما يحصل الآن على الأرض العربية. هكذا، يقود” ماثو الليبي” و”العبد الكمباني سبنديوس” حركة المرتزقة التي تلكأت حكومة قرطاجنة في دفع مرتباتهم، “وهم يتصايحون: اقتلوهم.. ـ اغتصبوا نساءهم.. ـ اختطفوا أطفالهم… ـ الويل الويل لقرطاجنة اليوم، وكل يوم حتى تدفع حقوقنا”( ). وحيث إن فشل الحكومة في إيقاف بشاعة هذا القتل الجماعي ينم عن ضحالة وعيها السياسي وعن عجزه عن الوقوف في وجه الموت الزاحف على مملكة قرطاجنة. فأعتقد أن توظيف هذه الجزئيات بقدر ما يمنح السارد فسحة لكشف الوضع المزري الذي صارت إليه قرطاجنة جراء ضعف حكومتها وجشعه، بقدر ما يوجه نظر القارئ، في اعتقادي، إلى واقعه المعيش، ودفعه، تبعا لذلك، إلى عقد مقارنة بينه وبين زمن البدايات الأولى للتعبير عن حنينه العارم والدفين إليه وإلى أبطاله وأمجاده. إنها صيغة أخرى ليقول ـ للقارئ ـ ما أشبه حالنا اليوم بالبارحة، وما أشد حاجتنا إلى أبطال لا يحصون، أبطال من طينة” هاني بعل الكنعاني”. بل إنه يروم، إضافة إلى هذا وذاك، أن يقول: إن القوة تنبثق من الوحدة مثلما ينشأ الضعف والانسحاق من التشتت والتفرقة وتغليب المصلحة الخاصة على مصالح المجتمع الإنساني جملة وتفصيلا. فقيام الدول لا يستقيم دون احترام الدساتير والمؤسسات وتفعيل الديمقراطية والوحدة والاتحاد والتحالف والتكتل والاندماج وغيرها بين جماعاتها تفعيلا مباشرا.
وفي ضوء ذلك، ففي عملية تشييد شخصية” هاني بعل الكنعاني” نجد السارد يميزه بأنه استلم مشعل مقاومة السيطرة الرومانية على البحيرة الكنعانية من أبيه” هاملكار البرق”، وأنه سليل” عشيرة صيداوية نشيطة اسمها البرق” تفوقت في قرطاجنة خلال مداها التجاري النشيط، كان أفرادها، يقول الحكواتي:” يتسلحون بنشاط عظيم، وبشعور بالمسؤولية الوطنية، إذ كانوا ينطلقون جيئة وذهابا وفعلا وعملا كالبرق.. ولسوء الحظ ـ وكما هي عادة الخلق المتعادي بالغريزة ـ خالفتها العشيرة الأخرى في المملكة ذات النهج الأرستقراطي الثري من عوائد التجارة وترسيخ الفساد في المملكة، والتي تسمى عشيرة هانو، إذ كانت تسعى للتمتع بالحياة، وتحقيق الربح التجاري، وتميل إلى ركوب الموج الدافق بأي شكل، وبأي وسيلة، من دون رغبة في مواجهة الآخرين، حتى في الدفاع عن النفس”( ). لهذا، فالمحن والتحديات والانجازات التي خلدها” هاني بعل الكنعاني” منفردا، لم تحل دون ما تعرضت له قرطاجنة والعرب الكنعيانيون معا من نكسات، وما آلت إليه أحوالهم ومصائر وجودهم من نكبات ، بعد ما لم يحسنوا تقدير الأخطار التي كانت تهددهم، والتي كان” هاني بعل الكنعاني” بنظرته الثاقبة إلى المستقبل، وإلى قوة إيمانه بـ”التقدم المحتوم للتاريخ نحو نهاية سعيدة”، ولعلها هذه” الرسالة النبوئية”، على حد تعبير ميشيل زيرافا، التي تنجزها أسطورة/ شخصية هاني بعل الكنعاني، هي ما تروم الرواية، الماثلة أمامنا، نقله إلى القارئ.
التخييل في رواية ” هاني بعل الكنعاني”:
يعرض صبحي فحماوي أسلوبه الفني الخاص القائم على معالجة الموضوع وفق” رسم تخطيطي للسرد” يخاطب ذهن القارئ وعواطفه معا، و من ثم، يدعو من خلاله الأجيال الحالية والقادمة معا، للمشاركة في كتابته انطلاقا من أن الوجود الإنساني يقوم على تفشي قيم السلام والتعايش بين الشعوب، وعلى الحوار البناء بين الثقافات والحضارات، فضلا عن ضرورة الاستقرار والأمان والازدهار تقوم على عقد تحالفات وتكتلات واتحادات سياسية واقتصادية بين الأمم، بدل نشر قيم الحرب والقتل والاعتداء والصراع والنزاع والتخالف واصطناع الأزمات. مثلما يمنح هذا الاستدعاء، في اعتقادي، السارد فسحة للتخييل الروائي وهو يحبك رواية تمتح من الأسطورة، استدعاء يميط اللثام عن ظروف المفارقة التي أحاطت بحياة هاني بعل الكنعاني، فجعلت من نهايته العسكرية والسياسية والفعلية نهاية مأساوية، مثلما جعلت منها عرضة للتزييف والتشويه اللذين دأب عليهما أعداؤه الرومان.
فهاني بعل يتميز عن غيره، كما ينقل السارد على لسان شخصية سمعها تتحدث عنه، أثناء حلم الليلة الرابعة، بكونه” حارب مقاوما احتلالات الرومان حوالي أربعين سنة متواصلة، من دون توقف، وأنه انتصر على أكثر من ثمانية عشر قائدا من كبار قناصل الرومان، وهزمهم في أكثر من عشر معارك، بل وحطمهم، فمات معظمهم بين يديه. وخلال تلك الحروب الطويلة لم يسبق لقائد أن تحمل أوزار استمرارها، كان متميزا بمرونة الحركة، وقوة لياقة بدنية جعلته يتصرف بالأدوات الحربية بكل رشاقة وخفة”( ).
وهكذا، فإدراك هاني بعل الكنعاني لشخصية القائد التي ورثها عن أبيه القائد العسكري” هاملكار بعل البرق” الذي أقام في إيبريا، ومن خلالها ورث مسؤولية القيادة العامة لجيش قرطاجة في مقاومة الغزو الروماني للبحيرة الكنعانية، يعد دعوة ونداء إلى مغامرة الحرب، وربما إلى المغامرة بالحياة ذاتها، مثلما أن هذا الإدراك يلقي به إلى فراق أسرته وخروجه، رفقة جيشه، من مجتمعه إيبريا. ويواجه” هاني بعل الكنعاني” سلسلة من العوائق والأهوال التي تحول دون اقتحامه روما بسبب تحصينها الشديد. بالإضافة إلى المعارك التي خاضها والمحن التي صادفها وهو يعبر الأنهار ويقاتل الأعداء ويتسلق جبال الألب، حتى” اعتبرت مسيرة جيش هاني بعل عبر جبال الألب مغامرة جنونية لقائد مقدام يبتسم له الحظ، حيث استغرق مرور جيشه ثلاثة وثلاثين يوما كانت أغرب وأصعب أيام العبور العسكري في التاريخ”( )، فيدخل إلى إيطاليا متحديا، ويمكث هناك عقدا ونصف العقد.
غير أنه بدل أن يلتقي بمساعد في شخص أخيه” صدر بعل البرق” الذي لقي مع جيشه حتفه غدرا أثناء قدومه لدعمه، أو يتلقى مساعدة من مجلس مدينة قرطاجنة الذي كان يغدق عليه بالشواقل الفضية انطلاقا من مناجم إيبيريا، ويركب الأهوال والمخاطر للذوذ عنه وعن كرامته ورفاهيته وعزته، ونتيجة للإعياء والإنهاك الشديدين اللذين تعرض لهما ما تبقى من جيش” هاني بعل الكنعاني، فقد كان الغدر والمكر والخذلان وشح الموارد المالية، عواملا ساهمت جميعها في انكساره أمام نفسه، وفي تأجيله دخول روما التي صارت تطارده. ويعود هاني بعل إلى مجتمعه/ أسرته قرطاجة، فيصل انكساره إلى ذروته بتنكرهم له واتهامه بالخيانة وبدفع الجيوش الرومانية التي صارت تطارده إلى الإغارة عليهم.
إن حنين السارد إلى ماضي البحيرة الكنعانية وتوقه إلى مشروع “هاني بعل الكنعاني” اللذين تشي بهما، معا، مقاطع الرواية يفوح من الحديث الذي ينقله إلينا السارد مثلما سمعه في” حلم الليلة الرابعة”، وهو حديث يدور بين ثلاثة أشخاص من عامة الناس حول” من هو أعظم قائد في العالم؟، فقال أحدهم:” قرأت في كتب أحد المؤرخين قصة عن اجتماع بين هاني بعل وكورنيليوس سكيبييو الأفريقي اللذين التقيا صدفة في عام 193 في أفسس إحدى مواقع مملكة انطيوخس الثالث وجرى بينهما حديث نادر من نوعه، إذ سأله كورنيليوس سكيبييو:( ترى من هو أعظم قائد في التاريخ؟) قال هذا لعله يسمع من غريمه المستضعف في نهايات عمره أن كورنيليوس سكيبييو هو القائد الأعظم.. ولكن هاني بعل قال:” إنني أعتبر أن الإسكندر المقدوني أشهر قائد في التاريخ، رغم أنه لم يكن يحارب بشرف الحرب، وإنما كان يقتل الناس والحيوانات، ويقطع الشجر، ويصدم الحجر أمامه.. وأضع الملك بيروس في المركز الثاني، وأتخيل نفسي في المركز الثالث”. وأضاف قائلا:” ولو تمكنت من هزيمة الرومان، فسأعتبر نفسي متفوقا على الإسكندر الأكبر، وعلى بيروس نفسه، وعلى جميع القادة الآخرين. كأنه بقوله هذا متجاهلاً كورنيليوس سكيبييو”( ).
نكبة قرطاجنة وتلوث البحيرة الكنعانية:
قصد الدخول، رفقة القارئ، في تاريخ” هاني بعل الكنعاني” الرهيب، وقصد إبراز الوظيفة السردية والرمزية معا لفضاء رواية” هاني بعل الكنعاني” ينطلق السارد من لحظة زمنية أولى معيشة هي التاسعة ليلا من أول أيام العرض، ومن فضاء مكاني ملموس هو بناية مسرح الحكواتي جوال، ثم ينتقل بنا إلى لحظة زمنية ثانية افتراضية هي التاريخ القديم، ومن ثم إلى فضاء قديم وافتراضي هو عبارة عن صور من مدينة صور الكنعانية القديمة. والحال أن اهتمام السارد بلفت انتباه القارئ إلى أن إدراك الفضاء الحسي( البصر، السمع، الشم، الخ) لما يسرد، بقدر ما يتحدد” عن طريق رابطين أساسيين: المكان والزمان”( )، بقدر ما يبتغي ـ أي السارد ـ من وراء توظيف هذا الفضاء الحسي عرض نصه الروائي وفق رؤية سردية واسعة تتخذ من تحركات وتنقلات الشخصيات من حدث إلى آخر، أو من موقع إلى آخر” هدفا تسعى الشخصية إلى تحقيقه”( ).
هكذا، يتابع القارئ افتتاح السارد العرض الروائي بسهرة أولى داخل” مسرح الحكواتي جوال”، افتتاح أنبهر خلاله بضوء ينبثق عن ظلمة حالكة، وتصدر منه بتقنية خاصة مناظر بانورامية تقرب الجمهور” من بيوت قديمة في مدينة صور” يعلوها” الهيكل الكنعاني، مثلما تسمعهم دعوات ابتهالات سكانها اللاهجة إلى الإله الكنعاني” بعل روح الشمس”، و تصلهم تشكراتهم له على عطاياه ونعمه التي يغدقها عليهم. كما يلفت السارد نظر القارئ نحو زاوية من جبل صور حيث المقبرة الكنعانية قبل أن يوجهه إلى مينائها حيث كانت تصنع هناك من أشجار الأرز، وعلى يد حرفيين كنعانيين مهرة، السفن التي تاجروا بواسطتها مع أهالي ضفاف البحيرة الكنعانية الأربع.
وبعد برهة من تمعن السارد وتمتعه، داخل عتمة المسرح، بتلك المناظر والمشاهد الكنعانية المبهرة، يخبرنا بظهور” الحكواتي الكنعاني جوال”، وكأنه بقامته وزيه معا امتداد” لأحد مشاهير حكواتيي مسارح صور الكنعانية القديمة”، فيسلمه السرد ليشرع، بطريقة تمثيلية، في سرد قصة” أليسار”، التي تبدأ مع أطماع أخيها بجماليون بعد وفاة أبيهما” ماتال” ملك صور الذي كان قد أوصى بتقسيم الحكم بينهما معا مناصفة بعد وفاته. فلجأ، قصد الانفراد بالحكم، إلى قتل زوجها وابن خالها رجل السلطة الدينية،” زيكار بعل” الذي ظهر على “أليسار”، يضيف الحكواتي وفق ما تقول الأسطورة، ” في الحلم وأخبرها بالحقيقة، وأرشدها إلى مواقع صناديق ملآى بشواقل الفضة كان قد دفنها في التراب، وطلب منها أن تهجر مملكتها الأم، لأنها ستكون هي التالية على قائمة القتل”( ).
وهكذا، يضيف الحكواتي، اضطرت” أليسار” إلى أن تغادر مكرهة مملكتها التي بدأت شمسها تأفل بعد رحيل” أليسار”، بعدما أوهمت أخاها برغبتها بالعيش في جواره، بعد أن صارت أرملة، فاتجهت بسفنها وأتباعها، عبر قبرص، إلى الساحل الإفريقي حيث اشترت قطعة أرض من ملكها” هيرابس”، جعلتها، قبل أن تتكون روما” مدينة عظيمة وعالما حضاريا ثريا ومتفوقا، بل” درة متلألئة على ميناء طبيعي يعتبر مركز التوجهات نحو الجهات الأربع، وموقعا بحريا قريبا لعبور سفنهم إلى إيبيريا، ومنها إلى ما بعد بحر الظلمات، وهي محملة بالبضائع التجارية التي تطلبها قبائل تلك البلاد والعودة من هناك محملة بالثروات الطبيعية والمواد الخام والفضة التي يصنعون منها عملاتهم النقدية من الشواقل القرطاجية (الأفريكنعانية)”( ).
وبعد أن أسست” أليسار” مدينة قرطاجنة وثبتت، عبر المصاهرة التي أقامتها بين أهل مملكتها وسكان شمال إفريقيا، مفهوم الشعب الكنعاني الافريقي، حتى صارت هي المدينة، نفسها، التي يحكي منها الحكواتي جوال وهو يشير إلى أنها” تداخلت مع تونس العاصمة، وقد كانت بعيدة عنها حوالي 20 كيلومترا”( )، بعدما شهدت على” حكاية شعب جديد نشيط ومقدام”، فقد ابتليت” أليسار” هذه المرة بلعنة أطماع الملك” هيرابس” الذي رغب في ضم ثروتها إلى ثروته بالترغيب والترهيب معا، لكنها، في الأخير، افتدت مملكتها وشعبها وذكراها بحياتها، لما رأت الخطر المحدق بهم جميعهم. فعاشت قرطاجنة بعدها قرونا تجارية وحضارية طويلة، ازدهرت خلالها تجارتهم فأسسوا مراكز تجارية عديدة على محيط البحيرة الكنعانية، لم تعكر صفوها إلا أطماع الرومان في تلويثها وتدنيسها.
والحال أن عناية السارد/ الحكواتي بالأفضية المكانية، فضلا عن حرصه على تقصي تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة، يكشف، في اعتقادي، براعة المؤلف صبحي فحماوي في رسم هذه الأفضية بعين الخبير بالمكان والزمان والجمال، لا لإيهام القارئ بواقعيتها ومظاهرها الجغرافية وفقط، ولكن لأنها عنصرٌ سرديٌّ فاعل في مسرح الأحداث، مثلما تشف عن رؤيته الفنية/ التصويرية الواقعية والطبيعية والاجتماعية ، في جعل فضاء البحيرة الكنعانية، في اعتقادي، الشخصية السردية الرئيسة من شخصيات الرواية، أي” شخصية البطل” التي تحظى باهتمام السارد، وتشتغل بصفتها ساحة الصراع ومسرح الأحداث، فتجعل القارئ، بعد إتمامه قراءة رواية” هاني بعل الكنعاني” يكون قد شكل صورة (طوبوغرافية) متكاملة عن البحيرة الكنعانية، عن موقعها وحدودها وتاريخها وشكلها ومكوناتها ومدنها وإثنياتها بعقائدها المتنوعة ومعاملاتها وأساليب العيش فيها المختلفة، ووفق لحظتين زمنيتين متباعدتين: زمن الحكاية، ( الزمن الذي كانت فيه البحيرة تعيش أمجادها وترفل فيها)، وزمن السرد( الزمن الذي فقدت فيه البحيرة هذه الأمجاد).
ينتقل السارد بالقارئ، سواء على لسان الحكواتي خلال السهرات الأربع للعرض المسرحي، بالجمهور، أو على لسانه بضمير المتكلم، بين فضاءات عدة من فضاء البحيرة الكنعانية، تتمثل في هضابها وسهولها ووديانها وجبالها وجزرها وشواطئها وموانئها، فوصف انتقالات” أليسار” من مملكة صور، مرورا بجزيرة قبرص وصولا إلى” ربوة بيرسال قرطاجنة” حيث أسست مملكتها التي صارت تتوسط جهات العالم الأربع وقلادته معا، كما وصف رحلة” هاملكار بعل البرق” إلى” إيبريا” حيث مناجم الذهب والفضة لتأمين موارد قرطاجنة المالية والتجارية، بعد ثورة المرتزقة الذين لم تتمكن مملكة قرطاجنة من دفع مرتباتهم بعد الحرب البينية الأولى، مثلما رصد حياة” هاني بعل الكنعاني” في كل من قرطاجنة وإيبيريا، إضافة إلى إشارته إلى تربيته وتكوينه ومعاركه ومعداته، وانتصاراته وانتكاساته، ومغامرته الجنونية سواء في عبور البحر أو الأنهار الأوروبية الهادرة، أو في عبور جبال الألب الشاهقة في فصل الشتاء، ثم محاصرة روما مدة زمنية طويلة، جميعها أمكنة منحت الفضاء الروائي لـ”هاني بعل الكنعاني” جمالية وإيحاء بليغين، ووسما معا أغلب مراحل تمثله. يقول هاني بعل الكنعاني على لسان السارد:” كانت الحياة جميلة يا عزيزي إلى أن نزل إلى روما رجال متوحشون قادمون من فايكنج الشمال الثلجي إلى مياهنا الدافئة”( ).
المغرب