حول الفلسفة و المرأة
أسماء بنعدادة
نشأت الفلسفة كفكر نقدي تساؤلي حجاجي مع دهشة الإنسان وانبهاره أمام الكون والموجودات بما فيها ذاته ووجوده الخاص، مع تساؤله عن أصل وماهية الأشياء. وقد عملت منذ نشأتها على إثبات أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخلق مسافة بينه وبين العالم، يعلو على ذاته ويتأملها، يخضع كل شيء للتساؤل ويرفض البديهيات والأفكار المسبقة. “العقل جوهر الكون ومحرك التاريخ” كما يقول هيجل. فالإنسان باعتباره كذلك ليس مجرد وجود فحسب، بل هو قدرة للحكم على الوجود والتحكم فيه، يتجاوز عضويته ويحيا بالأفكار والمبادئ والقيم. يخترق الزمان والمكان، عكس الحيوان الذي يبقى أسير اللحظة وكأنها أبدية، على حد تعبير برغسون. الإنسان ديمومة وتدفق للحياة، يرتبط فيها الماضي بالحاضر والمستقبل. الإنسان مشروع في فلسفة سارتر، هذا المشروع الذي يحدد كينونته وبدونه تصبح ناقصة.
الفلسفة إذن تفكير في الوجود الإنساني، الفردي والجماعي في كافة الأبعاد: الميتافيزيقية، السياسية، الأخلاقية، الجمالية. وما يشكل خصوصية هذا النمط من التفكير هو إنشاؤه لمفاهيم مجردة ونظرة شمولية للأشياء، لذلك لا يعالج الخطاب الفلسفي الحالات الفردية المعزولة، وإن فعل، فبغاية ربطها بالحالات العامة التي تهم الوجود البشري والنزوع نحو الكونية. هذا هو الدرس المستخلص من الفلسفة، وقد أدركت خيوطه الأولى في مرحلة الثانوي. لن أنسى اللحظة التي غيرت فيها قرارا اتخذته في سن مبكرة وهو التخصص في الآداب عكس باقي أفراد أسرتي، والتمرس على كتابة الشعر. إلا أن الدروس الأولى للفلسفة غيرت مسار حياتي، فتخليت طواعية عن أول قرار اتخذته.. أنا التي كنت أخجل من أخذ الكلمة في القسم، أصبحت أجيب عن كل أسئلة الأستاذ بل وأطرح أخرى في نهاية الحصة. لم يبق عندي مجال للشك في اختياري الجديد يوم قال لي أستاذ الفلسفة “تتمتعين بسرعة الإجابة وبداهة التفكير” فبدأ يمدني بمقالات لكبار الفلاسفة يطلب مني قراءتها وتقديم ملخص عنها في نهاية الحصة أمام زملائي. أمدني هذا التعامل بثقة كبرت يوم طلب مني الاحتفاظ بعدد من تلك المجلات.
في الجامعة، بالرغم من اختياري لعلم الاجتماع كتخصص، ظلت علاقتي بالفلسفة حميمية، ستزداد قوة لما سأنتقل لتدريس مادة الفلسفة في الثانوي عدت خلالها إلى قراءة النصوص الفلسفية، وشرح مضامينها لتلامذتي بكل شغف وحب. في منتصف هذا الطريق قادتني قراءاتي للوقوف عند مواقف سلبية لبعض الفلاسفة من المرأة خلفت عندي إحساسا وقلقا غريبين.. كيف للفلاسفة المدافعين عن العقل والباحثين عن الحقيقة أن يحملوا مثل رأي نيتشه واسبينوزا في المرأة؟
La femme n’a pas de profondeur, elle n’est même pas plate
“لاتدخل على المرأة إلا والسوط في يدك”
وأخرى لسبينوزا
(Il est permis d’affirmer, sans hésitation, que les femmes ne jouissent pas naturellement d’un droit égal à celui des hommes, mais qu’elles leur sont naturellement inferieures) traité de l’autorité politique.
علمتني الفلسفة كيفية ممارسة الشك، وزعزعة الثوابت، وطرح الأسئلة حتى المحرجة منها، مارست طرح السؤال أول ما مارسته على وضعيتي كامرأة .. لهذا علمتني كيف أكون نسائية. علمتني أن إمكانية التساؤل كبيرة ولا متناهية، وكم كانت دهشتي كبيرة لما بدأت أقف عند الخيوط الأولى المؤدية للجواب ،،
أنذاك بدأت أراجع أهم مبدأ دافعت عنه الفلسفة منذ انشغالها بالوجود الإنساني لأزيد من أربع وعشرين قرنا، وهو الكونية والشمولية. هل يحق لنا أن نتساءل عن طبيعة هذا الانشغال، عن ماهية الإنسان الذي اعتبرته كائنا عاقلا؟ إن كل متعلم للفلسفة يعلم أن طرح السؤال هو وضع الأجوبة المسبقة التي نحملها موضع السؤال أيضا. حاولت معرفة الحقيقة فبدأت من البداية من المعلمين الأوليين أفلاطون وأرسطو.
من هو هذا الكائن العاقل في فلسفتهما؟ هل هو الرجل والمرأة كصيغتين ممكنتين للتقسيم الطبيعي للجنسين أم هو الإنسان في صيغة واحدة؟ الفلسفة ليست تفكيرا وتنظيما للأفكار فحسب، بل هي كذلك خطاب يوجه إلى الآخرين قصد التواصل معهم وإقناعهم بالاعتماد على البراهين والحجج. بمعنى آخر: هل خاصيتا الشمولية والكونية كانتا حاضرتين عند الفلاسفة في معالجتهم لكافة القضايا والإجابة على كل التساؤلات؟ هل تعامل الفيلسوف مع الإنسان أنساه التمييز بين الرجل والمرأة أم على العكس اعتمد هذا التقسيم بالأساس؟ أية علاقة بين المرأة والفلسفة؟ وأية مكانة منحتها الفلسفة للمرأة؟ هل يجوز أن نتفلسف إذا ما تخلينا عن المعنى الكلي للإنسان؟
عرف أفلاطون الإنسان أنه “حيوان عاقل” و”حيوان سياسي” العقل والسياسة خاصيتان تميزان الإنسان عن الحيوان الواحدة في مستوى الأخرى، فمن هو هذا الحيوان السياسي العاقل؟ نجد الجواب في الكيفية التي وزع بها الأدوار بين الرجل والمرأة داخل الأسرة وفي الجمهورية. اعتبر أفلاطون المرأة كائنا ضعيفا فاسدا لصيقا بالمادة، غير مؤهل للقيام بأي عمل من طبيعة عقلية، تنحصر اهتماماته في الجسد وحاجاته وغرائزه، لهذا بقيت بعيدة عن التأمل العقلي والتدبير السياسي وبعبارة لم يقلها أفلاطون “المرأة حيوان غير سياسي، فاقد للعقل” على نفس الطريق سار تلميذه أرسطو الذي وضع أفكار أستاذه في قالب نظري وقدم المبررات العقلية والسياسية والأخلاقية والبيولوجية لترسيخ النظرة الدونية للمرأة. اعتبر أن الأنثى هي الصورة التي تقدمها لنا الطبيعة عندما تنحرف فتعطينا رجلا ممسوخا لم يكتمل تكوينه، لهذا “فالرجل الذي يعامل المرأة على قدم المساواة يسلك في الواقع سلوكا مخجلا ومشينا” كتاب السياسة.
من منا لا يعرف عداء شوبنهاور للمرأة حيث قال عنها “تبقى المرأة كالطفل طيلة حياتها” وأنها “كالحيوان لها شعر طويل وأفكار قصيرة” “ولو كانت الحياة امرأة لهربت منها”.
ساهم الفلاسفة المسلمون على قدر المستطاع، وبطريقتهم الخاصة، في ترسيخ وتثبيت هذه الأفكار. قال الإمام الغزالي “إن النكاح نوع من الرق، فهي – أي الزوجة- رقيقة له وبما أنه نوع من الرق فطاعة الزوج عليها مطلقة في كل ما يطلبه منها من نفسها مما لا معصية فيه”. و”على المرأة أن تكون قاعدة في قعر بيتها لازمة لمغزلها لا يكثر صعودها، قليلة الكلام، ليس لها الخروج لسؤال العلماء وإن قصر علم الرجل”.
عملت هذه المواقف على تغيير مسار تعاملي مع الفلسفة، تحول الانبهار بالفلسفة إلى الانبهار من موقفها من المرأة.. تحولت الدهشة المعرفية إلى دهشة عكسية، إلى قلق من طبيعة أخرى.. كم كان من الصعب إعطاء أمثلة تمس بالمرأة .. لم يكن الأمر سهلا بالنسبة إلى أستاذة الفلسفة، المرأة التي انخرطت بقوة في الدفاع عن حق المرأة في المساواة ..
ألا تتحمل الفلسفة والفلاسفة جزء من مسؤولية نشوء واستمرار وترسيخ أفكار سلبية عن المرأة؟
تستهويني قولة لنتشه وهو من فتح أمامي باب هذا الاكتشاف ” الحقائق أوهام نسينا أنها أوهاما، وقدرة الإنسان على النسيان هي وحدها التي تكفل له التوصل إلى الاعتقاد بأنه يمتلك حقيقة ما.”
فالصورة السلبية القدحية التي وضعها بعض الفلاسفة عن المرأة، هي واحدة من الحقائق التي تمتزج بالأوهام والتي ترسخت مع مرور الزمن.
لهذا أعتبر أن هذا الشعار الذي رفعته الجمعية العالمية للفلسفة لهذه السنة: النساء الفيلسوفات: شهادات ومسارات، يفتح إمكانية الوقوف على مثل هذه الحقيقة من طرف الفلاسفة أنفسهم ورد الاعتبار للمرأة الفيلسوفة، وربما المصالحة مع المرأة التي حملت صورة سلبية عنها طيلة التاريخ الإنساني.
من
هنا أستشهد بقولة للفيلسوف جون ستيوارت ميل الذي تعامل مع المرأة بمنظور تحرري إيجابي:
” لا ينبغي النظر إلى قضية المرأة على أن الحكم فيها قد صدر مقدما عن طريق الواقع القائم والرأي العام السائد، بل لا بد من فتحها للنقاش على أساس أنها مسألة عادلة…”
المراجع
سلسلة الفيلسوف والمرأة، تأليف إمام عبد الفتاح إمام نشر مكتبة مدبولي
أفلاطون.. والمرأة 1996
أرسطو .. والمرأة 1996
جون لوك .. والمرأة 1999
استعباد النساء، جون استوارت ميل 1998
موسوعة أقوال الفلاسفة والحكماء في عالم النساء،سيد صديق عبد الفتاح، دار المسيرة، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1988
blue bridesmaid dresses sleeves
I gotta bookmark this internet site it seems invaluable very helpful