انت هنا : الرئيسية » الواجهة » فاتنة نوفل: تحت خطوته تُولَد الزهور، غوته والإسلام”

فاتنة نوفل: تحت خطوته تُولَد الزهور، غوته والإسلام”

فاتنة نوفل،المصدر:رأي البوم

 عند لحظة موته حرَّك الشاعر الألماني يوهان فولفانغ فون غوته إصبع السبابة من الأسفل إلى الأعلى وهي إيماءة مُدرَجة في السيرة الذاتية للشاعر الألماني، ما فاجأ الشهود المقربون منه دون العثور على تفسيرات لها. ظلت هذه الإيماءة رمزية لم يتم تفسيرها لقرون. اليوم، وبفضل إعادة الدراسة لفرانشيسكا بوككا الدقر وبيترانجيلو بوتتافوكو يمكننا فهم معناها. إنها لفتة رمزية للشهادة: شهادة على تأكيد الإيمان ووحدة الله التي يجب على كل مسلم القيام بها وهي في الواقع تُصنع أثناء الصلاة وهي بادرة يُشَجع أي شخص يقترب من الموت على تقديمها على فراش موته ليؤكد مرة أخرى أنه يؤمن بالله الواحد الأحد، هذه الحركة عند لحظة الموت تبدو شهادة مهمة للغاية للعلاقة بين الشاعر والعالم الإسلامي. غوته الغير معروف كثيرًا الذي يدرس اللغة العربية، يُتَرجِم القرآن ويعترف بالوعد السماوي والقَدَر. رجل يسمح لنفسه بعبور الإسلام في الحياة الأدبية والعلمية والعمل في التعددية الثقافية الغربية (الشعر، الفلسفة اليونانية الرومانية والمسيحية) ما جعل الشاعر والمسرحي والناقد الأدبي توماس ستيرنز إليوت يُطلِق عليه “آخر شخصية عالمية”.

يكمن جهد بوككا الدقر وبوتتافوكو في إظهار أن بادرة غوته الأخيرة هي الشهادة، الركن الأول من أركان الإسلام، وهي الدائرة التي تغلق استسلام غوته لذلك الإله في نهاية كل بداية. ليتعرف إلى إله الإسلام من خلال نَبِيِّه محمد وأن الله الأعلى والوحيد يتجلى في جميع شخصيات غوته الأدبية، من فيلهلم مايستر إلى فاوست وفي إعطاء صوت لمفيستوفيليس في فاوست حيث الشيطان ليس سوى الشيطان  نفسه وِفقَ علم الكونيات الإسلامي. حتى في السنوات التي لم يكرّس فيها نفسه للعمل في موضوع إسلامي، استمر غوته في الإشارة إلى دراساته حول هذا الموضوع، على سبيل المثال : في الرسائل في رحلته إلى إيطاليا يُطلِق عليها هجرة في إشارة إلى هجرة النَبِيّ محمد من مكة إلى المدينة المنورة. لذلك، لا يبدو القرآن كنموذج لأسلوب شرقي يرغب الشاعر في تقليده، ولكن يبدو أنه أصبح مصدرًا مُلهمًا في كل من المحتويات الدينية وفي الحُزَم التعبيرية لغوته الشاعر والعالِم.

كتاب لم يُقَدِم للقارئ فقط إعادة بناء حياة غوته -من قراءته الأولى للقرآن في عام 1770 حتى وفاته في عام 1832-  لكنه دراسة لأعماله الأكثر إلهامًا من الدين الإسلامي وأيضًا فرصة للتأمل في اقتراح مستقبل أوروبي مرتبط بـ “إسلام معتدل تحت سماء البحر الأبيض المتوسط”، أفق سلام حسب المؤلفان وَجَّه فيه الشاعر أعمق أفكاره الشخصية والفكرية.

في أعمال يوهان فولفغانغ فون غوته (1749-1832)، الشاعر والكاتب والعالم الألماني، تم تفسير التقاليد الدينية في أعماله المخالِفة للتقليد الإنجيلي الذي نشأ عليه إما أنها جهد توفيقي منه أو وِفقَ تيار تسامح فولتير نحو الديانات الأخرى، من خلال المقارنة بين الشاعر وكل هذه المواقف الروحية وتم فيها استبعاد الأكثر إثارة للاهتمام أي الإسلام.

في الأكاديمية الإيطالية على وجه الخصوص،غالبًا ما يُساء تفسير ديانة غوته بسبب الترجمات غير المرتبطة بالنصوص الأصلية. فقط بينيديتو كروششي في مجلته لاكريتيكا، قام في عام 1918 بترجمة أغنية إلى محمد، وتفسيرها في سياق “قصائد عملاقة”، وليس كنتيجة دينية في شخصية النَبِيّ محمد.

يروي المؤلفان  فرانشيسكا بوككا الدقر وهي أكاديمية ومحاضرة في العقيدة الإسلامية ومديرة معهد  ابن رشد للدراسات الإسلامية في بياتشينزا (إقليم فينيتو الإيطالي) وأستاذة اللغة والثقافة العربية في الجمعية الإنسانية في ميلانو، وبيترأنجلو بوتتافوكو وهو صحفي وكاتب إيطالي معروف، اكتشاف نهج الكاتب الألماني العظيم من الإسلام ونهجه من خلال تتبع تأثيره في عمله الشعري والمسرحي في بحث طويل ومتعمق في أرشيف ورسائل غوته وشهادات المقربون منه. تحت خطوته تُولَد الزهور هو بيت شعر من “نشيد النَبِيّ” يقارن هنا النَبِيّ بنهر يقود رفاقه مثل بتلات الزهور إلى صخب الحب الأخير أي” الله”.  أيقونة تختلف كثيرًا عن تلك التي تتحدث عنه كمحارب، رئيس القبيلة والعسكري الذي يحكي بالفعل عن عمق العلاقة الكاملة بين النَبِيّ محمد والشاعر الألماني حيث النَبِيّ هو وعد بالحب، يتحقق في الحاضر وفي الأبدية السماوية.

وهي عبارة عن مسودّة قصيدة على شكل حوار بين علي وفاطمة  صهر وابنة النَبِيّ لم تُنشر ولم تكتمل قط، أهداها غوته إلى النَبِيّ محمد وهي من التأثيرات الإسلامية الواضحة والتي وردت في سيرة غوته والتي كتبها وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، مباشرة بعد قراءته الأولى للقرآن في أول لقاء بين الشاعر والدين الإسلامي والذي حدث في خريف عام 1771، أثناء دراسته في القانون في سالزبورغ  حيث أرسله والده، حيث أحاط الشاب غوته نفسه بالكُتَّاب، وكان أحدهم صديقه ومرشده يوهان غوتفريد هيردر الذي نصحه بقراءة القرآن في محاولة لتوعيته بالأدب العالمي.

في عام 1799، تناول الشاعر مرة أخرى موضوعًا إسلاميًا بترجمة كتاب فولتير” محمد” بناءً على طلب من الدوق  تشارلز أوغست من ساكسونيا -فايمار. في السنوات التي سبقت كتابة الديوان الغربي الشرقي (الذي بدأ في عام 1814)، أشار غوته إلى الإسلام من خلال الحروف من حين لآخر ودوٌَنَ يومياته عندما درس القرآن أو مارس قواعد اللغة العربية. ومع ذلك، فمنذ عام 1814 على وجه التحديد، جاء الإسلام ليحتكر انتباه الشاعر، ليس فقط بكتابة الديوان ولكنه تخلل المفردات والمواضيع الدينية التي تناولها. كل الرسائل والمحادثات مع سكرتيرته يوهان بيتر إيكرمان في السنوات التسع الأخيرة من حياة الشاعر تشهد على الأهمية المتزايدة التي أخذها الإسلام في فكره،

لدرجة أنه استخدم مقاطع قصيرة منه في الرسائل، وأدرجها في بعض الأعمال الصغيرة مثل إيفيجنيه وجوتس فون برليخنجن في العام التالي و استمر في تَفَكُر القرآن وقراءته مرات أخرى.

تقول فرانشيسكا بوككا الدقر :”لقد وُلِد التعاون مع بوتتافوكو من إعجابنا بكتاب غوته “الديوان الغربي الشرقي” المُستوحى إسمه من الآية الكريمة في السورة الثانية  (البقرة)” وَﻟِﻠﱠﻪِ اﻟْﻣَﺷْرقُ وَاﻟْﻣَﻐْرب” والذي فيه دلائل على وجود علاقة الكاتب مع الكتاب المقدس “القرآن” ولكنها لا تزال غير مَروِيَّة. وفي ظل الحاجة إلى سرد هذه القصة – لإنصاف غوته-  وعدم قصر العلاقة بين غوته والإسلام على مجرد كتاب في الوقت نفسه. كان بإمكاننا ترك مادة غوته إلى الوثائق والدراسة اللغوية بدلاً من إشباعها بروحانية عاطفية فقد وجد كلانا مراجع عديدة كان فيها أصداء للقرآن وأحاديث النَبِيّ أوعلى أي حال أحداث وشخصيات إسلامية. من القصائد شعرنا بالفضول حول أسباب هذه الخيارات الفردية، ثم شرعنا في عمل لغوي وبحثي متعمق في الأعمال الأخرى للمؤلف وخاصة الرسائل والمحادثات والملاحظات الغير المنشورة والتي كشفت عن العلاقة الرائعة والعميقة والمعقدة بين غوته والإسلام، قصة تستحق التعريف بها.

كل سطر في هذا الكتاب مهم ورائع يردد أصداء اللغة العربية الغنائية والملاحظات الجريئة لموتسارت (في لقاء بارز بين الثنائي الفني فولفانغ) وهو مقياس يكشف عن حياة غوته التي أضاءها الإسلام، فالإسلام هو “تصرف من القلب” وهجر الروح وهو ما تجسد في شعر غوته.

“الديوان الغربي الشرقي” هو آخر ديوان شعر تركه لنا غوته. حدد النقد الأدبي مصدر إلهامه من قراءته  للشاعر الفارسي حافظ  الشيرازي الذي عاش في القرن الرابع عشر، ومُحَفِّز إضافي كانت العلاقة التي جمعت الشاعر مع ماريان فون ويليمر بين عامي 1814 و1816 والتي ألفت بعض كلمات الأغاني الموجودة في الديوان تحت إسم مستعار وهو زُلَيْخة وهي شخصية زوجة الفرعون في التقاليد الإسلامية التي وردت في الكتاب المقدس. من المثير للاهتمام أن نفترض أن الإسلام بالتحديد كثقافة ودين هو الذي حَفَّزَعلى تكوين العمل، كما قال غوته نفسه في رسائله: «عند النظر عن كثب، فإن هذه الدراسات الجديدة التي نذهب إليها هي نوع من الهجرة: يهرب المرء من الحاضر إلى مناطق وقرون بعيدة، حيث يتوقع شيء سماوي».

 “الديوان الغربي الشرقي” الذي يحتوي على مجموعة من القصائد التي تم جمعها عند بلوغه عمر الخامسة والستون وهو ثمرة إصدارات في عامي 1819 و 1827 إذ لم يكن غوته راضياً تمامًا عن ديوانه، لدرجة إضافة سلسلة من الملاحظات لتسهيل فهم العالم الشرقي، ربما أقل شهرة مما هو عليه اليوم. وخوفًا من أن القراء لن يفهموا قصائده، وضع غوته مُرفَق بالملاحظات من أجل فهم أفضل. بالفعل هناك في الطبعة الأولى وثيقة ثمينة جدًا لمعرفة المصادر التي استخدمها؛ بالإضافة إلى جزء كبير مخصص لمحمد والقرآن، وهناك أيضًا معالجة للشخصيات الرئيسية في العقيدة والتصوف الإسلامي مثل الرومي و السعدي. وتشهد الملاحظات أيضًا على الانخراط الروحي للشاعر أثناء كتابة الكلمات. يتحدث عن ليلة القدر، العطلة الإسلامية  في آخر أيام رمضان، كتب غوته: «وماذا يمكن أن يمنع الشاعر من الصعود على ظهر حصان محمد السحري والتحليق في كل السماء؟ لماذا لا يُحْتَفَل رسمياً بالليلة المقدسة التي تلقى فيها النَبِيّ القرآن من فوق بالكامل؟».

لم يكن الغرض من هذه النظرة العامة الموجزة هو إظهار مدى اتساع معرفة غوته بالفكر الإسلامي وعمق الصلة بين الشاعر وهذا الدين، مثل أهمية الثقة في الهجر لله أو الإيمان بالقدر. فبالنظر إلى العلاقة المستمرة التي تمت دراستها بين غوته والإسلام، من المستحيل استنفاد تحليلها من خلال عمل واحد كالديوان. في الواقع، إن الإسلام قد اندمج في الشاعر لدرجة أنه أصبح جزءًا من مُخَيِلَته. مثال على ذلك هو إستخدام مصطلح الإسلام الذي ترجمه على أنه”هجرة”، الموجود في رسائله حتى بضعة أشهر قبل وفاته عام 1831: “في الإسلام نعيش جميعًا، بأي شكل نقرر فيه أن نتحلى بالشجاعة”.

من المؤكد أن غوته لم يكن رجل دين، ولكنه في الديوان تمكن من تقديم أمثلة على معرفته بالفكر الإسلامي. في مناقشة الاتجاهات المستقبلية لشعره، في الملاحظات يكتب:”الإسلام الأصيل، الاستسلام المطلق لإرادة الله وبأنه لا يمكن لأحد أن يتهرب من المصير المُقَدٌَر له”. يتساءل غوته عن المضمون العقائدي للقرآن، وخلص إلى أن “محتوى القرآن كله يقع في بداية السورة الثانية (البقرة)، التي تأتي مباشرة بعد تلخيص الآيات السبعة الأولى وهو الإيمان بالكتاب والصلاة وإعطاء الصدقات.

ما يهم غوته عن الإسلام هو الجوهر: إذ يكتب في الديوان الغربي الشرقي ترحيبه بالإسلام دون أن يُنْكِر الشاعر هويته الثقافية الألمانية الغربية بل يسعى ويبدو أنه يحقق هدفه في اللجوء لذلك الإله الواحد – الذي نشأ منه كل شيء والذي يعود إليه كل شيء-  وهو أساس العقيدة الإسلامية. كلمة “الإسلام” نفسها تعني التخلي. بالمعنى الشامل، الذي يضم تعددية الثقافات المختلفة، ما يمكن لإسلام غوته أن يعطي الكثير للغرب اليوم.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى