انت هنا : الرئيسية » الواجهة » د. عزيز زروقي: السينما المغربية والتراث بين الامتداد والتأثير  

د. عزيز زروقي: السينما المغربية والتراث بين الامتداد والتأثير  

د. عزيز زروقي

ظلت السينما وعاءً فنيا ودراميا لدراسة مجتمع ما في أسلوب حياته وتراثه الممتد في التقاليد والعادات والمظاهر الاحتفالية…. إن التفكير في السينما من مدخل ارتباطها بالتراث هو تفكير في جوهر هذا الفن الذي شكل ملامحه وخصوصيته وهويته من مداخل أساسية؛ هي أولا التشرب من جماليات وأساليب وبنيات حقول أخرى من قبيل المسرح، والرواية والتشكيل والفوتوغرافيا والرقص والموسيقى والمعمار والتراث الفرجوي والثقافة الشعبية، وثانيا الاشتغال على هذه المكونات لتحقيقها بمواصفات خاصة بالفن السينمائي ثانيا، ثم اقتراح توابث فكرية وفنية وتقنية لها علاقة بهذا الفن ثالثا.

في مطمح تأسيس السينما لتوابتها الإبداعية والجمالية والفكرية، وفي صياغتها لإبدالات مجددة لها، كان التراث بمعناه العام والمتعدد الأساس الباني للثابت والمتغير سواء في الجنس الروائي أو في الوثائقي بأنواعهما الصغرى طيلة وجود هذا الفن. إضافة إلى هذا سمح استدعاء التراث بتمييز مواصفات تجارب واتجاهات عديدة، بل بصم سينما بلدان ومناطق كاملة وهو ما يقال عن سينما حققت في بدايتها وفي امتدادها ممارسة إبداعية دامجة لعناصر التراث الثقافي والفني والإبداعي والسينمائي عينه. عكسته تجارب و أفلام سينمائية من كل بلدان العالم، ومن داخل اتجاهات و مشاريع فردية أو جماعية من قبيل ما نجده لدى: سيرغي إيزنشتاين و أكيرا كوروساوا و فرانسيس فورد كوبولا و ألان باركر  و أندري كونشالوفسكي  وفرانشيسكو روزي  و بيرتولوتشي  و غوستا غافراس و أوصمان صامبين و سليمان سيسي و ادريسا وادراوغو و يوسف شاهين و دريد لحام و عبد الرحمان سيساكو و محمد الشويخ و محمد لخضر حامينة و الناصر لخمير و الطيب لوحيشي و مومن السميحي و أحمد المعنوني و إزة جنيني  وداود أولاد السيد و حكيم بلعباس و….

ترجمت هذه الانتاجات السينمائية الحاجة الملحة إلى تفعيل جدل التراث و العلاقة معه من مداخل مختلفة، كما يعنينا أن نقرأ كيفية تفكيرها في التراث الراهني و تراث العصور السابقة، و ما الذي يمكننا اقتراحه من رؤى، و تصورات و طرائق اشتغال، و مواقف تعنى ببناء للمستقبل، وما القيمة التي يضيفها تحول الأعمال السينمائية إلى مادة من صميم التراث البصري للإنسانية جمعاء. إنه مدخل من ضمن مداخل أخرى عديدة اقترحتها لنقاش موضوع مقالي الذي تشكل على النحو الآتي: السينما  المغربية والتراث بين الامتداد والتأثير.

استحضار التراث في السينما يعني ذاك الاستحضار الإبداعي لأساليب وموضوعات، وجماليات، وطرائق تعبير وأشكال، ومضامين ومحكيات ومكونات بصيغة تناص، ونصوص غائبة، وآثار واعية وغير واعية واقتباس واستلهام خدمة لتشكيل أو تمييز بنيات ومواصفات السرد أو التخييل، أو ما هو جمالي وأسلوبي في الفيلم السينمائي، أو لتأكيد انتساب الفيلم إلى ثقافة أو هوية أو جهة ما. استدعاء السينما لأشكال التراث هو اقتراح لرؤية مؤطرة لهذا الاستدعاء، وإبراز لخلفية موجهة له، وشكل فني وأسلوب يتحكمان في توظيف المادة التراثية لخدمة جمالية السينما، وأسسها الفكرية ودلالاتها ومعانيها. وبناء موقف منه ومن قيمته، ومن صيغ توظيفه إبداعيا مرئيا ودراميا.

فكيف تتجلى صور التراث المادية واللامادية، ومكوناته الخاصة والعامة، وأبعاده المحلية والكونية كي يصبح مرئيا؟

الاشتغال على التراث سينمائيا كان كذلك بصيغة وظيفية و صيغة مجانية، وكان أيضا لغايات توثيقه أو لإبراز أوجهه اللامرئية أو لتمرير مواقف ذات علاقة به أو ببعد من أبعاد السينما و الواقع. في كل هذا برزت مادة التراث بملامح التوظيف الفولكلوري أحيانا، وبمواصفات التوظيف الخلاق أحيانا أخرى، وهو ما يهم مقاربته وقراءته وتأويله.

لقد شكل التراث سؤالا حارقا في الكثير من الحقول المعرفية والإبداعية، كما شكل إشكالا مركزيا في التفكير النظري والفكري والفلسفي، اقترحت لمطارحته رؤى ومناهج متباينة. إنه ما يقال عن مجالات تعبيرية وفنية ارتكزت على التراث الخاص لبناء خصوصية إبداعية لها، بل ولتشكيل قوالب جمالية تحيل على هويتها الخاصة في حقول شتى أهمها الآن الحقل الاجتماعي الذي تتصارع فيه قوى وأطراف وتوجهات يسعى منها البعض إلى تمجيد التراث وتقديسه. و يسعى البعض الآخر إلى انتقاده و انتقاء أوجهه الإيجابية، و يعنى البعض الآخر باقتراح ما يسمح بالقطع معه .

كل هذا يبرر الحاجة إلى تفعيل جدل التراث والعلاقة معه من مداخل مختلفة، ولأن السينما من أهم ما يميز عصرنا يعنينا أن؛ نقرأ كيفية تفكيرها  في التراث؟ وما الذي يمكنها اقتراحه من رؤى وتصورات و طرائق الاشتغال و مواقف للمستقبل؟ وما القيمة التي يضيفها تحول الأعمال السينمائية إلى مادة من صميم التراث البصري للإنسانية جمعاء ولدلالة توظيفه في الممارسة الإبداعية السينمائية؟

حاول صناع السينما الاهتمام بالعلامات والثقافة الشفوية والمكتوبة والرموز واستنطاقها من خلال الصورة، لأن كلا منهما اختار التعبيرات التي تبدو خاضعة للإنكار الديني (الوشم من ناحية والصورة من ناحية أخرى) فالثقافة الشعبية وهي جزء من تراثنا كان ينظر إليها على أنها ثقافة العامة التي لا تنتج فكرا، والسينما كان ينظر إليها على أنها فن استهلاكي يقع خارج الاهتمام الأكاديمي. وقد حضر التراث في السينما المغربية رغم تراكمه الضعيف من خلال: الحكاية الشعبية، والعادات والتقاليد، والطقوس والاضرحة، والأولياء والأساطير والخرافات، والذاكرة والإيقاعات الشعبية، والفضاء الشعبي والفرجة الشعبية، والحرف الشعبية المنسية، والأمكنة المهمشة والتراث المادي والحوار الشعبي….

 إن حضور السينما كواجهة فلكلورية؛ في مشاهد المدن المغربية العتيقة، والبادية المغربية النائية، وكثبان رمال الصحراء المغربية، والبيوت المزخرفة الكاتمة للكبت الرجل المغربي ضد المرأة، والطفل الجاهل، والزي الأمازيغي، وبهرجة اللون والأهازيج…. بهدف تجاري استهلاكي من خلال فيلمي: “عرس الدم” لسهيل بن بركة، و”البحث عن زوج لامرأتي لعبد الرحمان التازي. ثقافة شعبية في هذين الفيلمين لا تتجاوز التسييح والتسطيح لما هو شعبي.

كان المتلقي مع موعد (خدمة الفكرة) فقط في فيلم “الراكد” لياسمين قصاري التي استثمرت خرافة (الراكد) في مغرب الهامش الموجوع بالقحط والفقد، مغرب بعيد عن النخب والطبقات العليا لتعبر عن التمسك بخيط الأمل في واقع بائس. كانت الخرافة هي رمزها الفني لتقديم واقع مغربي قاس لكنه حاضر في حياتنا.

شاهدنا ثقافة شعبية كموضوع مستقل، حيث بات  التراث هو الدافع لإنتاج الفيلم، وهاجسه المتحكم في أفكاره و بلورة عملية الإبداع فيه، فالموروث الشعبي ضمن هذا المستوى أتى به  فيلم “الحال” لأحمد معنوني، وهو رصد لواقع حركة مجموعة (ناس الغيوان). وفيلم “خيط الروح” لحكيم بلعباس الذي تناول الذاكرة والموت والأرض وفضاء المدينة (أبي الجعد) والعادات والتقاليد من خلال طقسي الختان والجنازة. استمتعنا في ذاك العرض الجمالي السينمائي في المونتاج والفضاءات والصورة والألوان والسرد. مع تنويه بهذا المنجز في استثماره العميق للمكون الثقافي الشعبي، وفي حرفية توظيف أدوات السينما.

خضع استحضار السينما المغربية للتراث لمجموعة من الشروط؛ أولها: منظور المخرج وثقافته، وثانيها: رهانات الفيلم، وثالثها: رهانات سوق التسويق، وآليات التوزيع. فلا يمكن التعامل معه إلا انطلاقا من أرضية صلبة سواء على المستوى النظري، أو على المستوى العملي التقني بالإضافة إلى تذوق خاص لموضوعات الهامش. كذلك هناك قاسم مشترك بين الأفلام التي تحمل توقيعا فنيا وهو الاحتفال بالذاكرة ورد الاعتبار للعائلة والمدينة.

الأفلام التي تعاملت مع التراث بالإمكانات التي منحها هذا الأخير للسينما سواء في لغته البليغة أو مساحاته الصامتة، وزخمه التشكيلي الباذخ. لم يمنحها فرجة فقط، بل مادة تعبيرية للتفكير، ولذلك لا بد من إعادة موقعتها على صعيد الاهتمام خاصة أن شعبيتها لا تكمن في انتشارها كثقافة للاستهلاك، ولكن

باعتبارها طريقة تعبير جديدة بالنسبة له.

لعبت السينما دورا مهما في استنطاق لغات التراث حين أخرجته من صمته وتمكنت من إبراز مضامينه، بل تمكنت من تفكيك خطاباته التي سكنت أمكنة بعيدة في المكان والزمان، ومن خلال هذا الاشتغال قدمت لنا السينما المغربية (استيتيقا) L’esthétique خاصة بالتراث، باشتغالها على مجمل هذه المكونات، حيث يمكن تلمس ملامح تراثية واضحة في العديد من الأفلام، وانطلاقا من مستويات فيلمية متعددة؛ كالعنوان والحدث والفضاء والديكور والملابس والاكسسوارات….

ولعل الأسئلة التي ينبغي طرحها بهذا الخصوص؛ هي: كيف تتجسد تلك الرؤية (الإثنوغرافية) L’ethnographie  في السينما المغربية؟ ما هي حدود نجاحها أو إخفاقها؟ ما هي الدواعي الفنية الثانوية وراء ميول الكثير من المشتغلين على المغاربة بهذا اللون؟

إن لمحة شاملة لمجمل المتن الفيلمي المغربي يظهر بشكل جلي طغيان الانشغالات السوسيو-إثنوغرافية عليه، ذلك أن أغلب السينمائيين المغاربة اختاروا التطرق للقضايا الاجتماعية ذات التوجه الشعبي، من خلال عرض صور وتمثلات عن العادات والمعتقدات الاجتماعية، واستلهام التقاليد الشعبية، والسعي إلى التعبير عن الواقع الاجتماعي، وجعله مادة فنية تعمل على رصد هذا الواقع، سواء عبر تصويره مباشرة أو إدماجه كمظهر تخييلي في المتواليات الفيلمية. ويبدو أن هاجس التأصيل وإلحاح الرغبة في إبراز تناقضات المجتمع وهو يعيش تحولات متسارعة، يعتبران عاملين أساسيين يدفعان المخرجين المغاربة تفضيل المواضيع الاجتماعية والتراثية ذات الحمولة الإثنوغرافية.

اخترت لكم بعض من الأشرطة السينمائية المغربية التي وظفت التراث المغربي؛ كحضر طقوس الجذبة في فيلم  “وشمة”  لحميد بناني وفيلم ” السراب” لأحمد البوعناني  و فيلم ” مكتوب” لنبيل عيوش، وتوظيف بعض الفرجات الاحتفالية كرقصة عيساوة في شريط ” مكتوب” و الحلقة في واقعة مغربية وطقوس تاغنجا في شريط ” الزفت” للطيب الصديقي. والأهازيج الشعبية في شريط ” حلاق درب الفقراء” لمحمد الركاب، و شريط  “عرس الدم” لسهيل بن بركة.

فيما يخص تصوير الفضاءات التقليدية؛ كالدروب والأبواب والمنازل العتيقة كنـا  مع موعد شريط “وشمة” ،و “البحث عن زوج امرأتي” لمحمد عبد الرحمان التازي، و” كيد النساء”  لفريدة بورقية، و” قفطان الحب” لمومن السميح.  والتشديد على فضاء الزاوية، والضريح في شريط ” السراب “و شريط  “الزفت “و شريط ” الشركي” لمومن السميحي،   و شريط ” باب السماء مفتوح” لفريدة  بليزيد، وما يرتبط به من ممارسة السحر والشعوذة والاعتقاد في بركة الأولياء.

 أما عن مشاهد طقوس غسل الميت ودفنه فبرزت بشكل قوي في شريط ” الزفت”، وشريط “ألف شهر” لفوزي بن سعيدي، وشريط ” تينجا” لحسن لكزولي. حضور بارز نستشفه لشخصية المجذوب في شريط ” السراب “، وشريط “حلاق درب الفقراء”، وشريط “ألف يد ويد” لسهيل بن بركة.

لم تغفل السينما المغربية من تقديم مشاهد واقعية لمظاهر عيش بعض الفئات الاجتماعية في شريط ” ليام أليام” للمعنوني، وكـذا أشكال الاحتفالات الفرجوية المرتبطة بطقوس الزفاف كمـا فـي شريط ” قفطان الحب” لمومن السميحي، و شريط “عرائس من قصب  لجيلالي فرحاتي…

لا يخفى علينا أن أغلبية المخرجين المغاربة قد تلقوا تكوينهم السينمائي في البلدان الغربية وخاصة في فرنسا، وبذا فإنهم متأثرون بصورة واعية أو غير واعية بالثقافة الغربية التي يستهويها التعرف على أنماط عيش المجتمعات الأخرى، فكان من الطبيعي ألا تخرج أفلام هؤلاء المخرجين عن النسق الثقافي الغربي. وفي السياق ذاته يمكن فَهْم هذا التوجه كنوع من إرضاء الآخر، ورغبة في استجلاب الجوائز والتمويلات التي تقدمها لهم المهرجانات والمؤسسات الغربية بسخاء.

البحث عن هذه القنوات الأجنبية أفقد الفيلم المغربي استقلاله الفكري والجمالي، وأسقطه في النظرة الفلكلورية السطحية، إذ تبدو صورة المجتمع عبارة عن نوع من البطاقة البريدية Carte Postale  التي تستهدف إثارة فضول المتفرج الأجنبي الشغوف بكل ما هو غرائبي وطقوسي، وبذلك يصبح الفيلم مجردا من أي انتماء ثقافي، ومنقطع الصلة بالقضايا الكبرى للمجتمع، ومكوناته الثقافية والحضارية.

تقصي العناصر الفلكلورية دون سواها أفضى في المحصلة النهائية إلى إنتاج أفلام متشابهة في بناءها السردي، من خلال الإقحام الغير المبرر والمجاني أحيانا للمشاهد والمناظر والطقوس الاجتماعية و(الميثولوجية) La mythologie في المتواليات الفيلمية، وغياب العلاقة العضوية بين موضوع الفيلم وأدواته التعبيرية.

لا نستطيع اعتبار هذا الأمر ظاهرة موحدة تنسحب على كل المتن الفيلمية المغربية، ذلك أننا لا نعدم وجود بعض النماذج الفيلمية التي عملت على استيحاء المعطيات (الإثنوغرافية) L’ethnographie  بالشكل الذي يخدم العوالم الفكرية والتخييلية للفيلم، ويساعد على إنتاج دلالته الدرامية، من خلال التوظيف الصحيح لبعض الظواهر الاجتماعية والتراثية. ويندرج في هذا الإطار أعمال المخرجين الذين تشبّعوا بالثقافة العالمة، والمعرفة الرصينة، ويستندون إلى مواقف فكرية وأيديولوجية في مقاربة المواضيع الاجتماعية المختلفة، وعرضها في إطار الوعي بالمحافظة على التراث، ومقومات الهوية، وصيانتها من التشويه .

وفي هذا الصدد أستحضر بصفة خاصة تجربة المخرج المغربي حميد الزوغي من خلال شريطه الروائي الطويل “خربوشة”   إنتاج 2008 أتمنى لكم فرجة ممتعة .

عن الكاتب

عدد المقالات : 1711

اكتب تعليق

الصعود لأعلى