سعاد خليل: بيكاسو وحركة الفن وجدل الواقع والشخص
سعاد خليل
الفن ليس مجرد تعبير بصري أو جمالي، بل هو مرآة تعكس جدلية العلاقة بين الفرد وواقعه، بين التاريخ والمبدع، بين التجربة الشخصية والسياق الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه. في هذا المقال، نسلط الضوء على مسيرة بابلو بيكاسو، أحد أعظم فناني القرن العشرين، لنستكشف كيف تشكلت رؤيته الفنية بين تحديات الواقع وتناقضات حياته الشخصية، وكيف أفرزت هذه التفاعلات إبداعًا ثوريًا غير مسبوق. من خلال استعراض تاريخ الفن ونقده، وفهم صراع الفرد مع ذاته ومع محيطه، سنرى كيف يمكن للعبقرية أن تنبثق من أعماق القلق والرفض الشخصي، وكيف يسهم الواقع التاريخي في منح العمل الفني قيمته وبريقه الفريد.
الفن بمضمونه لعميق يعكس جدلا بين واقع تاريخي وبكل تجلياته الاجتماعية والدينية والسياسية وبين فرد له خصوصيته بمواقفه وقناعاته وثقافاته واصالة موهبته.
ان نظريات التشكيل وكل ما قيل في ادبيات علم الجمال من الممكن تبديل مضامينها ومسراتها لو افترضنا سياقا وبيئة تاريخية مختلفة للبيئة التي نشأت فيها ، ويصح الامر أيضا لو افترضنا تغيرا في هويات الأشخاص الثقافية الذين ابدعوا هذه الرؤي التي لو تبدلت لتبدلت بالضرورة ماهية الرؤي والنظرية .
بكلمة اخري ، التاريخ اشخصي اللمبدع والسياق الذي يحثا فيه ن هما اللذان يحددان ماهية الفن في تلك للحظة ومدي قبولها او رفضها من قبل جمهوور المتذوقين ان جدل الواقع الشخص الفنان يشكل اطارا لولادة القيمة الحقيقية للفن والفنان، لماهية لأول وذاتية لثاني والتاريخ وحده هو الضمانة ل خذه الولادة .
يوضح الناقد نزار العاني وهو ناقد من سوريه :
الجوهر الواحد للفن :
يكفي ان يتصفح المرء أي موسوعة شاملة ن بما في ذلك تريخ التصوير او التشكيل، ليكتشف ببساطة لحضور الكثيف لجسور وقنوات تصل بين البدايات والنهايات، ويبدو دليلا ان لحجارة الصوانية التي انقدحت منها شرارة الحضارة هي نفسها في كل زمان ومكان .
يكفي ان نتأمل التاريخ الفني الطويل للإنسانية في ميادين العمارة والنقوش البارزة وصك لعملة والنحب لنلمس خيطا دقيقا يكاد يكون لا مرئيا يصل بين بابل وروما وبين الاسكندرية واثينا ، وكان روح الفن تعبر سماء لحضارات منذ الازل من دون قيود.
يقول د حربي عباس عطيتو ان الفوارق التي تفصل بين العمارة القبطية والفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية في مصر هي فوارق إقليمية اقتضتها السلطات الزمنية لكن انساق العمارة هذه في المبدأ واحدة وانطلاقا من لجوهر الوحد للفن يمكننا الذهاب بعيدا الي الماضي كي نري فنون المستقبل لكن بمظاهر مختلفة لا يمكن ان تلتقي ابدا ، ومن هنا يولد سحرن الفن وينبثق تجدده الدائم .
بيكاسو القديم الجديد
لان الفن يشكل نقطة التقاء بين الشخص الفنان والواقع ، فقد كان بابلو بيكاسو علي الصعيد اشخصي في طفولته رافضا ومرفوضا ، والواقع التاريخي والسياسي والعلمي ان أيضا يتعرض لزلزال لا يكن تجهل ارتداداته ابدا .
عاش بيكاسو طفولة غير عادية ن فهو تنقل كثيرا ولم يستقر ابدا في بيت وود بعد انتقاله للعيش في فرنسا. اذا تنقل بين العاصمة باريس والجنوب المطل علي الحر الأبيض المتوسط، وفي امكنة عشقها الشاعر الفرنسي فاليري وسجل س حرها الرسام سيزان ، كذلك لم يستقر عاطفيا مع امراة وحدة ، وكان يحب ويعشق ويتزوج وينجب في خضم فوضي حياتية عرمة توازي فوضي الأمكنة لتي كن يهجره بحثا عن طمأنينة ظل يفتقدها طوال السنوات التسعين ونيف التي عاشها .
كان بيكاسو رافضا ومرفوضا بيكاسوا رافضا ومرفضا تلفه حيرة وقلق وجودي عميق ولا يبارحه الشعور اللاواقعي بالأسي الحاد منذ توفيت شقيقته كونشينا في الرابعة من عمرها ولم يكن هو قد تجاوز العاشرة ومنذ ان انتحر صديقه الاغر كارلوس كازاجيماس وكان بيكاسو في العشرين من عمره .
نبوغه المبكر في الرسم وفقا لشهادة ولده خوزيه بلاسكو الذي يعمل أستاذا للرسم واعتراف الابن بابلو عندما كنت طفلا كنت ارسل كما كان يرسم رفائيل، لكن الصغير بابلو بدا يهجر القواعد الكلاسيكية الصارمة القديمة التي يعتبرها ابوه المعيار الوحيد للنجاح في هذه المهنة لذا رفضه الاب بعد ن كان موضع رهانه الوحيد.
وقد اعتزل الاب الرسم حين بلغ ولده بابلو الثالثة عشر من العمر وتنزل له ن دة الرسم إيذانا بولادة عبقرية استثنائية في الرسم وفق عيدة الاب المتمسكة بالأساليب الاكاديمية ، وهذا بالضبط ما كان يرفضه بابلو بيكاسو لذا فقد افترقا ، ولعل اختيار بابلو الاسم عائلة والدته دونا ماريا بيكاسو وليس اسم عائلة والده بلاسكو ينببي عن هذا الموقف الضدي للولد تجاه والده بل كانت عائلته كلها غير راضية عن تصرفاته البوهيمية .
وقد عرف بيكاسو واحب في شبابه وفي طوري رجولته وكهولته، بل حتي في شيخوخته عشرات النساء منهم: فراندا اوليفييه ، اولفا كوكلوفا ، ماري تيريز والتر ، دورا ما ، جاكلين روك ، فرانسوارز جيلو ، ايفا ويل .وكان في الثالثة والسبعين حين صادق ابنة العشرين ربيعا سلفيت دفيد ولو يم يكن جياش العاطفة مفرط الحيوية قلقا ومتمردا وشهوانيا لما خاض كل هذ المغامرات، ولعله في عماق نفسه كان يشعر بالعزلة والوحدة علي رغم غني علاقاته لاجتماعية ووفرتها وترائها .
لم يكن بارعا في الدراسة، اذ لم يسعفه انخراطه المبكر في الرسم في تلقي التعليم المدرسي المناسب ، وحين كان في المرحلة الابتدائية كان يرسم الاعداد والحروف الهجائية التي يلقنها الأساتذة له ولزملائه ، ولعل هذا الشعور يتواضع عناده المعرفي هو الذي جعله يختار الأصدقاء ء المتميزين في حفل الشعر والفن والرسم والمسرح . فمن بين أصدقائه الرسام كارلوس كازاجيماس ، براك ، ابولينير ، ماكس جاكوب ، جان كوكتو ، النحات خوليو غونزاليس ، والشاعر جيمس سابارتي ، واكثر من ذلك فقد عاش مع ماكس جاكوب في شقة واحجة واصبح سابارتيس سكرتيرا خاصا له طوال حياته .
مواجهة تجربة الموت العنيفة عبر ف قده لمقربين له والترحال والعشق ومرارته ، والتوزع الفني القلق بين القديم والجديد والتطرف السياسي في اعتناقه للشيوعية وهو في الثالثة والخمسين من العمر والشهرة التي بدا يحصد ثمارها وهو في العشرون ، وكل هذه السمات النفسية والعقلية لم تكن تسمح له ان يكون رساما تقليديا عاديا ، فالبذرة الكامنة فيه هي بذرة تمرد وثورة وعصيان وكما انه لم يستقر في بيت او مدينة او مع امرأة او صديق . كانت حياته الفنية انعكاسا لهذا الجوانب وكما انطوت حياته الداخلية علي مواطن ضعف فقد عوض هذا الضعف بحياة حافلة بالإنتاج الفني، اذا كان يرسم لوحة كل أسبوع تقريبا . ويذكر كاتب سيرته رولاند بتروز ان بابلو بيكاسو انجز رسم أكثر من خمسين لوحة خلال 14 شهرا بداء من عام 1903.
لقد سار بابلو بيكاسو في طريق الخلاص من سر المورثات مثل مغمر عنيد لا يعرف الي اين ستأخذه الدروب ولا يعرف خاتمتها، تماما مثلما قال مارتن هيدجير عن فان غوغ .
لم يكن بابلو بيكاسو بحاجة الي البراعة التقليدية فهو يقول في مذكراته، رسمت صورا اكاديمية وانا في السابعة من عمري اخافتني دقتها ، ولذا لا يعقل لهذه الموهبة ان تقع في الاسر ، واقتضي الحال ان يذهب بيكاسو الي كل لاتجاهات . ذهب بيدا ووصل الي فنون بلاد ما بين النهرين والي حضارة تل العبيد 4300 ق م . حيث ظهرت تماثيل بهيئات متطاولة للرجال والنساء ورسوم تلك المرحلة والجداريات والرؤوس غير البشرية علي الاجساد الإنسانية .وظلت رحلته مستمرة نحو المستقبل ونحو ما بعد الحداثة باندفاعة البدايات الاولي علي رغم مضي حوالي 36 سنة علي انطلاقة رحلته ، كان بيكاسو عابرا للضارات وازمان ، ويسهد علي ذلك الاف القطع الخزفية التي صنعها بروح انسانية تخترق التقاويم وتكسر الحواجز الجغرافية والاثنية ، ويكاد المرء يلمح كل الفنون الافريقية والاسيوية القديمة في عالمه الساحر ،وكذلك الفنون البدائية من دون لتنكر لروحه الدينية المسحية وموروثه الغربي .
الواقع والسياق :
كان هذا الحديث عن الفرد كطرف في الحدل الذي يحدد ماهية الفن فماذا عن الطرف الثاني الذي هو الواقع
ولد بيكاسو عام 1881 وعاش حتي عام 1973 وبذلك اصر فترة تاريخية حبلي بالأحداث الجسام ،ولعل هذه الفترة ستبقي المدماك الأهم في بناء مستقبل البشرية الحضاري ، اذا حدثت حربات عالميتان طاحنتان سالت في مجاريهما شلالات الدم وبدا التحول الكبير للعالم محيث انتقل من المرحلة الصناعية الي مرحلة الثقافة او التكنولوجيا ، وعصفت أفكار جديدة زلزلت صورة العالم القديم ، وولدت نظريات علمية مهدت لثورة و ثورات فكرية ما يزال صداها يتردد في اعماقنا كبشر حتي هذه اللحظة .
باختصار شديد يمكن القول ان هذه الفترة التاريخية الموصوفة شهدت انتصار الشيوعية في روسيا وارتفاع المد الاشتراكي واليساري والتقدمي في أوروبا وولدت الرغبة في العميقة التيير الشامل للحياة، وفي هذه الفترة انطلقت أفكار جديدة منها : الداروينية والفرويدية والنسبية . وجري تفكيك الذرة القيت القنبلة النووية الاولي علي اليابان وجاء هايزنبرغ بقانون الارتياب او الاحتمالية او اللايقين ، وبالتوزي كشف العالمان فرنسيس كريك وجيمس وطسن عن تركيب حامض الدنا الاب الشرعي لعلم الوراثة وطب المستقبل . وفي هذه السنوات نفسها هبط الانسان علي القمر ومشي خطوات جريئة نحو غزو لفضاء. وبذات جراحة زراعة الأعضاء وبدات مطالع الثورة الإلكترونية بالتحقق.
ان الاحداث الفاصلة التي ذكرت بعضها هياة لانعطافات ادة في الادب والفلسفة والفنون ولولا ذلك لما ولد تيار العبث واللامعقول في الادب. ولما انطلقت الفلسفة الوجودي من عقالها، وكذلك لما قيض لكل نظريات الفن الحديث ان تري النور.
هذا الواقع التاريخي في الأعوام من 18880 الي 1970 لا مثيل له في المسار العام للحضارة، وقد التقي هذا الواقع الدينامي الثوري بشخصية قلقة رافضة موهوبة هي شخصية بيكاسو ، فانقدحت شرارة العبقرية التي لن ينطفئ لهيبها الي اخر الزمان .
قال هيربرت ريد: الثلاثة الكبار في الفن الحديث هم بيكاسو وكاندنسكي وبول كلي ، وبيكاسو عبر الالاف من الاعمال التي تركها وعبر كتاباته هيأ التربة الصالحة لكل ما نراه اليوم من تجارب تشكيلية ، وهو حين قال : لطبيعة والفن يختلفان تماما ولا يمكن ان يكونا الشيء نفسه. نستخدم الفن للتعبير عن فكرنا فيم هو غير موجود في الطبيعة، وفي هذا القول البسيط تكم الثورة علي نظرية ارسطو في علم الجمال والقائمة علي المحاكاة.
إن دراسة تجربة بيكاسو توضح أن الفن ليس نتاجًا للعشوائية أو مجرد مهارة تقنية، بل هو ثمرة تفاعل مستمر بين شخصية الفنان وبيئته وسياقه التاريخي. الجدلية بين الواقع والفرد، بين التاريخ والموهبة، هي ما يمنح الفن قيمته وخلوده. من خلال أعمال بيكاسو وإبداعاته المتعددة، ندرك أن كل لوحة، وكل تجربة فنية، هي انعكاس لتاريخ، لعاطفة، ولروح تمردية تتحدى القواعد التقليدية. وهكذا، يبقى الفن جسراً يصل بين الإنسان والماضي والحاضر، وبين ما هو ممكن وما هو متخيل، مسجلاً خريطة الوعي الإنساني وإبداعه المستمر عبر العصور.
