انت هنا : الرئيسية » الواجهة » د. أحمد جبر: تجليات الخطاب النسوي في سيرة فدوى طوقان الذاتية “رحلة جبلية”

د. أحمد جبر: تجليات الخطاب النسوي في سيرة فدوى طوقان الذاتية “رحلة جبلية”

د. أحمد جبر

رأي اليوم

شهد الوطن العربي انقسامات مختلفة كان أبرزها الانقسامات الجغرافية التي قامت على إثرها الدول العربية، ما انعكس على انقسام تاريخي تأريخي جديد يمثل كل كيان من الكيانات العربية التي استقلت من الاستعمار، ولم يقتصر الانقسام العربي على خارطة السياسة والجغرافيا بل امتد أثره ليطال الأدب حيث تم تصنيف الأدب العربي بما يتساوق مع الانقسامات التي تركت بصماتها جلية في الكيان العربي فهذا أدب تونسي والآخر جزائري وفلسطيني ومصري وسوري ولبناني وسعودي وعراقي، وينضاف إلى هذه الانقسامات ما حل بالمجتمعات البشرية من انقسامات  تمثلت في الطائفية والطبقية والعرقية وتصنيف الناس أحرارا وعبيدا، وجعل السيادة صفة خاصة ملازمة وملاصقة للذكر دون الأنثى.

وارتكازا على ما سبق تأتي هذه الدراسة لاستشراف تجليات الخطاب النسوي في سيرة فدوى طوقان الذاتية التي تم تناولها من حين لآخر تحت عناوين مختلفة ، وما قدمته من نقد اجتماعي لمنظومة الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد التي سادت المجتمع الفلسطيني تلك المنظومة التي عايشتها الأديبة فدوى في مختلف مراحلها العمرية كما ستعمل الدراسة على إبراز أشكال الظلم والاستبداد التي ركزت عليها فدوى طوقان وأسلوبها في التعاطي معها إضافة إلى موقفها ودورها في مواجهة تلك المنظومة.

لقد كان للعامل النفسي والشعور بانعدام الرضا أثر قوي في ما خطته أنامل فدوى طوقان عن ذاتها وحياتها فقد ظلت طيلة عمرها الأدبي تحس بانكماش ونفور من الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليها عن حياتها والعوامل التي وجهت هذه الحياة وأثرت فيها، وقد كانت تعرف سبب ذلك الانكماش والنفور من الإجابة عن تلك الأسئلة مسوغة ذلك بانعدام رضاها عن حياتها وافتقادها للسعادة لذلك ظلت روحها تواقة إلى انجاز أفضل وآفاق أرحب. إن فدوى طوقان تقر في مستهل سيرتها بأنها لم تفتح خزانة حياتها كلها حفاظا على بعض الخصوصيات التي آثرت الاحتفاظ بها لنفسها خوفا من العيون المتطفلة كما تشير إلى القالب الفولاذي الذي يضربه الأهل حول الفتيات ومنعهن من الخروج عليه إضافة إلى القواعد المألوفة التي يصعب كسرها والتقاليد الخالية من العقل التي تضع البنت في قمقم .كثر الحديث على الخطاب النسوي والحركة النسوية بشكل عام، وأقدم البعض على التأريخ له، وتحديد الزمن الذي تبلور فيه مصطلح النسوية والخطاب النسوي بمفهومه الخاص، كما اختُلف في تعريف كل منهما وان تقاطعت التعريفات وتلاقت عند نقطة رفع الظلم عن المرأة والمطالبة بالمساواة بالرجل.

وفي كل حال فان مصطلح الخطاب النسوي وكذلك الحركة النسوية هما مصطلحان استجدا على البيئة الثقافية العربية وليس له من أصول أو فصول في تراث العرب الأدبي والفكري وان ذكرت المرأة وأميط اللثام عن الأدوار التي لعبتها في مختلف العصور على صعد شتى، فقبل أن يبزغ فجر الحركة النسوية يمدنا التاريخ بعدة أمثلة فردية على نساء امتلكن قوة وشجاعة وموهبة غير عادية ومنهن إمبراطورات وملكات ومحاربات وفنانات  لكنهن استثناءات فردية لم يكن بإمكانهن أن يؤثرن ويحسّن حالة الغالبية العظمى من النساء المقموعات العاديّات ، وفي تراثنا العربي الإسلامي ذكر لكثير من النساء المحاربات والأديبات كما ورد ذكر بعض النساء في القرآن الكريم ما دفع البعض إلى الحديث عن تحرير المرأة في عصر الرسالة كما فعل عبد الحليم أبو شقة.

ولا شك بان الوطن العربي قد شهد حراكا نسويا لكنه في حالاته كافة يأتي عقب الحراك النسوي الأوروبي وبعد الاطلاع على التجربة الأوروبية والاحتكاك بالثقافة الغربية  وهو حراك محط نقاش وحوار وخلاف يتراوح بين مجيز وآخذ به وآخر يرفضه ويؤصّل لنسوية إسلامية وتبقى المشكلة كامنة في فهم حقيقة الدور الذي ينبغي أن يقوم به كل من الرجل والمرأة. وارتكازا على ما سبق تأتي هذه الدراسة لاستشراف تجليات الخطاب النسوي في سيرة فدوى طوقان الذاتية التي تم تناولها من حين لآخر تحت عناوين مختلفة منها ما كتبه الشاعر سميح القاسم تحت عنوان الكشف والاكتشاف ، الذي جاء في مقدمة سيرتها الذاتية ومما جاء فيه قوله:”

ومنذ “أيام” الراحل العظيم طه حسين لم تبلغ سيرة ذاتية ما بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في العبارة”، فلم تتورع عن خدش ألواح الوصايا  وليكن ما يكون من بعد الصدق وقداسة الإنسان الفرد، وما كتبته نادية عودة حول : الشعر جسر نحو العالم الخارجي ، دراسة في سيرة فدوى طوقان الذاتية، التي جعلت منها وثيقة لتاريخ فلسطين قبل العام 1948 ومصدرا لنساء الطبقة العليا الفلسطينيات ومعاناتهن تاريخيا واجتماعيا.لقد كان للعامل النفسي والشعور بانعدام الرضا أثر قوي في ما خطته أنامل فدوى طوقان عن ذاتها وحياتها فقد ظلت طيلة عمرها الأدبي تحس بانكماش ونفور من الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليها عن حياتها والعوامل التي وجهت هذه الحياة وأثرت فيها، وقد كانت تعرف سبب ذلك الانكماش والنفور من الإجابة عن تلك الأسئلة مسوغة ذلك بانعدام رضاها عن حياتها وافتقادها للسعادة لذلك ظلت روحها تواقة إلى انجاز أفضل وآفاق أرحب،  ومنها دراسة أعدّها فهد مرسي البقمي بعنوان الأدب النسوي المعاصر: فدوى طوقان أنموذجا، استعرض فيها آراء النقاد حول الأدب النسوي ونظرة النقاد إلى أدب فدوى طوقان بوصفها نموذجا للأدب النسوي العربي المعاصر. إن فدوى طوقان تقر في مستهل سيرتها بأنها لم تفتح خزانة حياتها كلها حفاظا على بعض الخصوصيات التي آثرت الاحتفاظ بها لنفسها خوفا من العيون المتطفلة كما تشير إلى القالب الفولاذي الذي يضربه الأهل حول الفتيات ومنعهن من الخروج عليه إضافة إلى القواعد المألوفة التي يصعب كسرها والتقاليد الخالية من العقل التي تضع البنت في قمقم التفاهة وفق تعبيرها لذلك فان فدوى كانت تواقة للانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان والزمان في عرفها هو زمان القهر والكبت والذوبان في ما أطلقت عليه اللاشيئية وأما المكان فهو سجن الدار.

واتكاء على ما سبق فان هذه الدراسة ستتمحور حول تجليات الخطاب النسوي في سيرة فدوى طوقان، وما قدمته من نقد اجتماعي لمنظومة الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد التي سادت المجتمع الفلسطيني تلك المنظومة التي عايشتها الأديبة فدوى في مختلف مراحلها العمرية كما ستعمل الدراسة على إبراز أشكال الظلم والاستبداد التي ركزت عليها فدوى طوقان وأسلوبها في التعاطي معها إضافة إلى موقفها ودورها في مواجهة تلك المنظومة، وقد اشتملت الدراسة على المحاور الآتية:

المحور الأول: الخطاب وتحليل الشخصيات : يجد قارئ سيرة فدوى طوقان نفسه أمام نماذج بشرية شتى، عرضت لها الكاتبة من خلال ما قدمته من تشخيص وتوصيف لها، وكان لتلك الشخصيات أثر في حياتها سلبا أو إيجابا, وقد اجتمع معظم تلك الشخصيات من ذكور وإناث في المنزل الذي كانت تقيم فيه، وهو عالي الجدران يحجب من فيه من الحريم الموؤودة عن العالم الخارجي. في هذا المنزل الشبيه بالسجن إلى حد كبير كانت السيطرة للرجل على الجو العائلي بشكل عام، وكان على المرأة أن تنسى وجود لفظة (لا) في اللغة العربية إلا حين تشهد أن لا اله إلا الله وتبقى نعم هي اللفظة الببغاوية التي تُلَقَّنها منذ الرضاع، فحق التعبير عن النفس محظور عليها وكذلك الضحك والغناء من المحرمات، فلا وجود للاستقلال الشخصي. من خلال ما تقد م يمكن للباحث أن يرسم الصورة التي كانت تعيشها فدوى وان يتبين الواقع الذي نشأت فيه طفلة وشابة، عالم وبيت يشبهان قلاع العصور الوسطى ظلما وقهرا وعدوانا في جانب من جوانبها، وكذلك يلقي الضوء على الحياة الاجتماعية التي عاشها العرب إبان الحكم العثماني وأواخره المعتلة المريضة، وفي ذاك المنزل الذي ضم الكثير من الشخوص تبدأ ملحمة فدوى طوقان مع الحياة، وصراعها مع الذات ومع المحيط والوسط الذي تعيش فيه، وقد عرضت فدوى في سيرتها نماذج متنوعة للرجل، وكذلك للمرأة، أما نماذج الرجال التي عرضتها فهي بين رجل مستبد متسلط وآخر اخوي إنساني يليه نموذج الحبيب وفارس الأحلام، في حين عرضت شخصيات لنساء منها شخصيتها و شخصية أمها وزوجة عمها وابنتها شهيرة إضافة إلى الشيخة وغيرها من النسوة.إن الصورة التي قدمتها فدوى طوقان لعالم الرجال التقليديين تتشكل من أفراد العائلة ومن انطباعاتها  التي شكلتها عن عالم الرجال يوم كانت طفلة تزور ديوان العائلة ومن خبرتها التي كونتها  عن العالم الخارجي يوم زارت المدرسة ويتشكل ذاك العالم من الأب والأخ والعم والخال من الدرجة الأولى   (دراسة في سيرة فدوى طوقان نادية عودة – الدار الوطنية للترجمة والطباعة والنشر – نابلس 1998م) ويمكن تصنيف هذه النماذج كما يلي:

1- الرجل المستبد المتسلط :ونموذجه والدها الذي وصفته بالغلظة والقسوة، والسيطرة المحكمة على الجو العائلي بأسره، وكان ينفرد بنفسه للنوم في حجرة خاصة به دون أمها، حيث كانت تنام مع أولادها وبناتها، وهذا الانفصال الأبوي الذكوري وهذه الغلظة والشدة جعلت فدوى تعيش حياة بؤس وحرمان وشقاء دفعتها للتفكير في الانتحار مرارا  فهي تتلهف للحصول على حب أبوي واهتمام خاص وتحقيق رغبات لم تتحقق يوما ، وكأنها الجنيب المنبوذ فلا حب أبوي  ولا رحمة ولا شفقة ولا حنان أو عاطفة بل تهميش وصل لدرجة خطاب أبيها لها بوجودها من خلال أمها قائلا:(قولي للبنت إنها تكثر من شرب القهوة ، قولي لها كذا وكذا ). إن الشخصية التي رسمتها فدوى لأبيها لم تكن مستهجنة ولا غريبة في زمنها, فهي شخصية وليدة حقبة تاريخية لها منظموتها الأخلاقية والعقدية والاقتصادية والسياسية التي تفرض سلوكا خاصا وتعاملا خاصا، لا يبتعد كثيرا عن عصور الإقطاع ، وهذه المنظومة عدت مشاركة المرأة في الحياة العامة أمرا غير مستحب ( المتوكل ص7) ووالدها ينتمي إلى أسرة غنية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي في عصر العثمانيين . ولما كانت أسرتها كباقي الأسر الفلسطينية والعربية ترى أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وفضلت الذكور على الإناث فقد كان الأب يأمل في ولد خامس ولكن الأم خيبت أمله بإنجابها فدوى. إن هذه الصورة الأبوية اسما كان لها الأثر الكبير في نفسية فدوى طوقان وقد ألقت بثقلها المرعب أحيانا في خبايا نفسها، وجعلتها تعيش ردحا من الزمن مع ذاتها في زاوية من المنزل تهذي بالحرية وتحلم بالانطلاق والتحرر من ذلك السجن الكبير العالي الجدران، فشخصية أبيها كانت شخصية سلبية إلى ابعد الحدود في تعامله معها وقسوته عليها رغم ما كان يتحلى به الأب من مساحة وعي، فقد كان مقبلا على روايات جرجي زيدان  ومن محبيها  وكان على وعي بأخطار الاستعمار الغربي الذي قام بنفيه إلى مصر كما دخل المعترك السياسي وحاز على عضوية بعض الجمعيات السياسية وسُجن أكثر من مرة على يد الانجليز، ومع ذلك ظلت شخصية الأب في خانة المعتاد إذا ما تم النظر إليها من خلال المحيط السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عاشته، ويمكن للباحث بكل بساطة أن يعود إلى تلك الحقبة الزمنية ليلمس واقع تلك الحياة بكل معطياتها، فكيف لرجل عاش ذلك الواقع أن يخرج عن المعتاد، ويكسر منظومة المعتقد عرفا أو دينا.

ينضاف إلى شخصية أبيها المتسلط المستبد شخصية أخيها يوسف المهدد المتوعد الذي دخل عليها كزوبعة هائجة بعدما علم بحكاية وردة الفل  قائلا قوله الدارج على لسانه في معاملته :(قولي الصدق) فراح يلزمها بإقامة جبرية في المنزل وحرمان من المدرسة، وهو بذلك يجسد واقع المجتمع وعاداته وينضم إلى خانة أبيه المتمسكة بعادات المجتمع وتقاليده التي تفوق القانون وتتمرد عليه  وهي  رائدة للقانون وتعبير ظاهري عن الوجود الداخلي للمجتمع يصل حد الإلزام لأفراد المجتمع وجعلها مقياسا معتمدا يقاس عليه سلوك الفرد والجماعة فيحكم عليه بمقدار تطابقه من عدمه معها. (المأثورات الشعبية 157و158 و159 بتصرف منشورات جامعة القدس المفتوحة  ط 1 1996م.

2- النموذج الإنساني: وقد تجسد هذا النموذج في عمها الحاج حافظ الذي التصقت به أكثر من التصاقها بابيها، فتحس بدفء قلبه من خلال مداعباته ومضاحكاته لها فقد كان يحبها ويعطف عليها، تماما كما كانت تفعل خالتها التي كانت تلتصق بها أكثر من أمها.  ومن الشخصيات التي لعبت دورا ايجابيا في حياتها شخصية أخيها احمد الذي كان كثيرا ما يداعبها، ويتعاطف معها ويعلمها فنون العروض، أما الشخصية التي انفردت في حبها لها، وتعلقها الشديد بها فقد تجسدت في شخصية أخيها إبراهيم الذي أرخت لعودته من لبنان وكان ذلك عام 1929م  فمع وجه إبراهيم أشرق وجه الله على حياتها، فهو الوحيد الذي ملا الفراغ النفسي الذي عانته  بعد فقدان عمها والطفولة التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها  بصورة أفضل وأجمل ففي إبراهيم وجدت الأب الضائع مع الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها، فقد كان إبراهيم على غير عادة رجال الأسرة يجلس مع الأسرة من أم وشقيقات ويبادلهن الحديث ويحكي لهن عما جرى ويجري من شؤونه ولم يكن يعير اهتماما للعادات والتقاليد لذلك كان منبوذا من الشيخة ولم يحظى بما حظي به أخوه احمد عندها رغم مواقف احمد التي كانت تميل إلى فدوى وتقف إلى جانبها بشكل خفي، وباختصار أصبح إبراهيم الهواء الذي تتنفسه فدوى وموقفها هذا يشير إلى فهم إبراهيم ووعيه وتحضره. ينضاف الحبيب وفارس الأحلام إلى هذا النموذج الإنساني والذي بدأت حكايته مع وردة الفل التي جلبت الكثير من المعاناة والعذاب لفدوى.

نماذج المرأة :إن نماذج المرأة التي عرضتها فدوى طوقان في سيرتها لم تكن خارجة عن نطاق ما قدمته في تشخيصها وتصويرها لنماذج الرجل، فقد قدمت لنا نماذج نسوية تراوحت بين السلبي والايجابي، وبين الإنساني واللإنساني، فهناك النموذج المتسلط الظالم ، والنموذج الإنساني، وقد رسمت حدود هذه الشخصيات وأبعادها في قوالبها الخطابية، فهي تقدم وصفا للمظهر الخارجي وأحيانا تغوص في الذات لتصدر أحكاما وأوصافا تظهر السلوك وتكشف عن خبايا النفس.

الشيخة: للشيخة في سيرة فدوى سردية خاصة، ولها مساحة من التوصيف والتشخيص فاقت ذكر الأب والأم، فالمساحة التي حظيت بها مميزة في طولها إذا ما قورنت بباقي الشخصيات؛ ذلك أنها أُدرجت من ضمن العناصر التي عملت على خلق بنية نفسية عند فدوى ذات تركيب ثنائي يتجسد في الخضوع من جهة والتمرد من جهة أخرى. لم تشفع صلة الدم بالشيخة لفدوى، ولم تعرف منها سوى القسوة والجانب المظلم تماماً كسلطتها الخفية التي كانت تدير من خلالها المنزل من وراء ستار ديني تصوفي كانت تخالفه بسلوكياتها وممارساتها وهي اقرب إلى الشعوذة في تصرفاتها وأفعالها. فمنذ أن فتحت عيناها على الدنيا لم تعرف (الشيخة) إلا وهي صاحبة الهيبة والسلطة، بل هي البوليس السري الذي يعمل لحساب أرباب العائلة، وتقدم لهم التقارير بما يجري في البيت، وكان في تلك التقارير الكثير من السم المدسوس. إن المتفحص في شخصية الشيخة يجدها نموذجاً ضالاً منافقاً يعاني من تركيبة نفسية معقدة فقد فشلت في زواجها الذي دام لأشهر قليلة فقط، وهي تتمسك بالعادات والتقاليد التي تحافظ من خلالها على الحياة الطبقية العمياء التي كانت تؤمن بها فهي متكبرة ومتعالية ومتغطرسة، سلكت مسالك الصوفية العمياء على يد شيخ مصري قدم إلى نابلس فكان ملاذها الديني الذي تهرب إليه من إحباطها النفسي ، لذلك فهي تلجأ إلى المبالغة وسوء الظن وتميل إلى تفسير كثير من التصرفات تفسيراً جنسياً وكأنها فرويد في تفسيره للأحلام وربطها بالنواحي الجنسية والأعضاء الذكرية والأنثوية.

شخصية فدوى: رسمت فدوى طوقان شخصيتها في سيرتها بكل وضوح وشفافية، وحددت ملامحها وأبعادها، وهي صورة بائسة تجسد الشقاء والحرمان والعذاب. قلّما ظهرت فيها مظاهر البهجة والسرور، ولكنها على الرغم من هذه الصورة السوداوية التي رسمتها تعلن بين الحين والآخر عن تمردها الايجابي وتصميمها على الكفاح لتشق الأرض والصخر كبذرة تؤتي أُكلها. ويمكن القول بان فدوى طوقان قد قدمت من خلال سيرتها صوراً متفاوتة في الحضور لكنها مترابطة فصورتها الأولى تمثلت في الفتاة المحرومة البائسة المعذبة، أما الثانية فهي صورة الفتاة الصامدة المكافحة المتحدية المتمردة، يلي تلك الصور صورة كلية يمكن رسمها للكاتبة الأديبة فدوى طوقان من خلال عملها الأدبي كاملاً، ذلك العمل الذي وردنا بين دفتي سيرتها الذاتية الصعبة التي أتمتها بالرحلة الأصعب. إن قارئ السيرة سيتوقف عند تلك التصريحات الواضحة لفدوى عندما تتحدث عن تركيبتها النفسية وعن ما تركه الوسط المحيط بها من آثار نفسية وقد تحدث الدكتور خليل عودة عن البعد النفسي في رحلة فدوى طوقان (رحلة جبلية) وقسم الرحلة إلى محطات خاضتها الشاعرة على المستوى الذاتي والنفسي، وهي محطة الغياب والتغييب ومحطة البأس والقنوط، أما المحطة الثالثة فهي محطة الأمل واثبات الذات. كما تحدثت فدوى في سيرتها من أمها التي لم تكن تربطها بها علاقة حميمة، وهي الأم المغلوبة على أمرها، الجميلة في شكلها وجسدها، وذكرت ضعف العلاقة بينهما حتى إن علاقتها بخالتها كانت أقوى واشد عمقا ووصفتها بأنها كانت محبة للغناء وللسينما وقراءة الروايات  وأنها حاولت الإجهاض بها مرارا ، كما  تحدثت عن علاقتها السيئة بشهيرة ابنة عمها التي كانت تكيد لها وتسبب لها العقاب والعذاب.

المحور الثاني: صورة المجتمع :لم تكن صورة المجتمع الفلسطيني في الآونة التي عاشتها فدوى طوقان بالصورة المنفصلة عن المجتمع العربي بأسره، وقد قدمت لنا الكاتبة المجتمع في صور متنوعة وفقا للمراحل الزمنية التي عاشتها، والظروف المحيطة بكل مرحلة منها ، فخطابها في الرحلة الصعبة مختلف عنه في رحلتها الأصعب من حيث الهموم والمعاناة ، والصراع مع الآخر أكان معتقدا معنويا أم ماديا بشريا، فمن مجتمع يغرق في الجهل والتخلف وعبودية للعادات والتقاليد والشعوذة إلى صورة المجتمع المنتفض الثائر في الرحلة الأصعب والروح المقاومة التي ملأت كيان الكاتبة لتصبح الناطق بلسان الدفاع عن آلام الشعب وقضايا الأمة. وقد قدمت لنا الكاتبة صورة المجتمع في رحلتها الصعبة وهي تتقمص دور الراوي والسارد للوقائع والأحداث إضافة إلى شخصية الكاتب المتدخل والموجه الذي يقوم بين الحين والآخر بإسقاطة هنا وهناك لنجد أنفسنا بين نصين، نص للراوي وآخر للكاتب  المتدخل، فالمجتمع الذي عاشت فيه مجتمع ذكوري بامتياز تحيط به الأسلاك الشائكة التي ألقت بها من حوله المعتقدات والعادات والتقاليد والجهل والتخلف وكأنه القالب الفولاذي الذي يضع فيه الأهل البنات فلا يسمحون لهن بالخروج عليه  ذلك أن  الخروج على ذاك القالب يمثل خروجا على قانون يرقى بسلطته ليكون فوق القانون بل وفوق الدين أحيانا لدرجة تصبح فيه تلك القواعد مألوفة يصعب كسرها وان كانت مخالفة للعقل  لأنها تضع البنت في قمقم التفاهة.

هذا هو المجتمع الذي ولدت فيه وعاشت فيه فدوى طوقان، مجتمع لا يعرف تاريخ ميلاد أبنائه حتى على مستوى أسرة فدوى ذات النفوذ الاقتصادي والمتصل بالسياسة أيضا، لذلك فقد كان التأريخ الدارج مرتبطا بالأحداث كيوم الثلجة أو عامها أو الزلزال ما جعل هذا التأريخ محط تندر وطرفة في بعض الأحيان وقد وصفت الكاتبة كل ذلك متدخلة بقولها: سخافات نضحك منها ولكننا نظل نشعر بميل خفي إليها  رغم عدم إيماننا بها، فعقلنا يرفض دائما ما يخرج عن دائرته ، غير أن النزعة الخفية إلى الغيبيات تظل كامنة فينا ،  وعلى الرغم من تلك الصورة السوداوية للمجتمع في كثير من جوانبها ومحطاتها وعذاباتها، وما أتيح للكاتبة من إطلالة ومعايشة لصيقة للحياة الغربية إلا انها كانت تنبذ النمط الغربي الأوروبي أو الأمريكي وكانت تصفه بالخاوي من الحياة الروحية والإنسانية وأصبح عبدا للمادة (دروزة، أفنان، فدوى طوقان كما عرفتها ، ط1، دار الشروق للنشر والتوزيع ،الأردن، 2005م ، ص،97 )وكأنها تميل إلى وصف محمود درويش في رثائه لراشد حسين بقوله ولا صفصاف في نيويورك، وهذا يدفع الباحث إلى القول بان ما كانت تبحث عنه فدوى في صغرها قد تغير في شبابها وتقدمها في السن، ففي صغرها كانت تحكي عن أمها وجمالها وعن المشط والغيرة والملابس ويلفت نظرها جمال جسد أمها كما حكت لنا عن خلع أمها الحجاب  وهو الأمر الذي شغل بال النسويات العربيات واخذ مساحة لا باس بها من حراكهن إضافة إلى أمور أخرى وصلت إلى التعري في الميادين أو على الفضائيات، وهذا يؤكد بأن الخطاب مرتبط بالظرف والمقام إلى حد كبير، فنبرة فدوى تتغير بين الحين والآخر.إن الوسط الذي عاشت فيه فدوى كان وسطا تعلوه الغطرسة والطبقية العمياء ففي تلك الأيام كانت الطبقية قدرا من صنع الله وحكما من أحكامه لا يرد فكانت تسمع الكلمات المقيتة سيدي ستي أمرك، وتردف ذلك بقولها إن أفكار البيئة تظل سارية المفعول ما دام الناس يتقبلونها ولا يتمردون عليها وإذا كنا نرفض اليوم قول أرسطو ” إن العبد يشبه الحيوان ” فما كان قوله هذا في زمنه ممجوجا ولا مرفوضا فقد كان أرسطو منساقا مع الأفكار السائدة في عصره أفكار المجتمع الأثيني العبودي.

المحور الثالث: صراع الذات بين الواقع والطموح: تعد سيرة فدوى طوقان الذاتية بشقيها الصعبة والأصعب ميدانا واسعا للصراع ، وقد برز الصراع الذي عاشته الكاتبة على جبهات عدة ، وكأنها تخوض معارك وتتصدى لهجمات عشوائية غير منتظمة أو محددة في ميدان بعينه أو جهة معينة، فقد كان صراعها مع الوسط الأسري الذي عاشته وهو صراع دار في نفسها وقد تراوح بين الرضوخ والتمرد، رضوخ تمثل في استسلامها في المرحلة الأولى من عمرها لا تقوى فيه على الرد أو الكلام، وقد قابل هذا الرضوخ تمرد إيجابي تمثل في عزيمتها  وإصرارها على أن لا  تكون لاشيئية وقد برز ذلك في المركب النفسي الذي خلقته الشيخة في نفسها.

لقد صورت فدوى طوقان ثورتها وكفاحها ضد الآخر السلبي بكفاح البذرة التي تشق الصخر، وتتصدى للمعوقات والتحديات حتى تشق الصخر وتنبت فيه نبتة تأتي أكلها فهي تعلن عدم رضاها عن حياتها وواقعها وهذا الإعلان يمثل الركيزة الأولى للانطلاق نحو تحقيق رغبات النفس وأهدافها، رغم توقعها الإخفاق لكنها لا تنهزم ولا تلقي السلاح كناية عن عزمها على في الاستمرار مكافحة حتى تحقيق أملها.لقد عبرت مرارا عن توقها للانطلاق خارج الزمان وهو زمان القهر والكبت والذوبان، أما المكان فهو سجن الدار وهنا يلعب المكان دورا فاعلا في التضييق على الشخصية وجعلها محصورة ؛ فالبيت الأثري الذي عاشت فيه فدوى طوقان فرض عليها عزلة مادية ومعنوية وأنذر بعدم تجاوزها الأسوار العالية والمساحات الضيقة وتحكم بنوعية الزائرين إليها وهيمن عليها في معظم حياتها حتى بعد مغادرتها ذلك البيت فعليا،  أما طول المدة التي قضتها مع ما فيها من منغصات فقد زادت من تفاعل الأحداث وتأثيرها السلبي عليها ومكّن لممارسة الضغوط المادية والمعنوية عليها ما أنتج خيمة من الحزن والأسى على فترة الخمسين عاما الأولى التي عاشتها في الجزء الأول من حياتها. (أبو شريفة، عبد القادر، تجليات العنوان في أعمال فدوى طوقان، مجلة المخبر، العدد العاشر، جامعة بسكرة، الجزائر، 2014م ، ص 355) ولا تكف الكاتبة عن تدخلاتها مصورة حياتها وكاشفة عن الظروف التي عاشتها فقد خرجت إلى الدنيا بين عالم يموت وعالم على أبواب الولادة  وبذلك تكون حياتها قد ابتدأت بصراع واستمرت في هذا الصراع.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى