أفريقيا… في المؤتمر الإسلامي
يستطيع البعض أن يحسد القارة الأفريقية، على حضورها المكثف في بضعة أسابيع متتالية من أوائل عام 2013، في مؤتمرين كبيرين حظياً لظروف مختلف بتغطية إعلامية واسعة، بعضها حقيقي والآخر مظهري أو مصطنع. وقد كان احتفاء مفوضية الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا بالإبراز الإعلامي لوصول تنظيم الوحدة إلى عامه الخمسين، مما يقدر للسيدة “دلاميني زوما”، الأمينة العامة الجديدة التي احُتفل أيضاً بظهورها لأول مرة في رئاسة المفوضية، ولذا حاولت أن تجعل من ساحة الاتحاد فرصة لطرح قضاياه العامة الملحة في السلام والأمن تحت شعار “السلام الأفريقي”، أو التذكير بخطط التنمية الكبرى من خطة لاجوس إلى أبوجا إلى نيباد، وحتى مطالب تنمية أفقر الدول في القارة، بل ومطلب ضمان تمويل قوة سلام دائمة، تصل في تقدير البعض إلى ثلاثين ألف جندي يحتاجون عملياً لبضعة مليارات، ضمن تمويل بنك التنمية الأفريقي نفسه.
وكان طبيعياً أن يجمع لقاء القمة الأفريقية بين الاحتفالية والأسى على حالة الصراع والتقاتل القائمة في أكثر من خمس بقاع خطيرة في القارة مع عجز مادي كامل من قبل رؤساء أصبح كثير منهم يتمتع بالاستقرار نتيجة علاقته الوثيقة بالدول الكبرى صاحبة المصالح التي تقف وراء هذه الصراعات، أو يجرى الصراع من حولها، مثل تجارة المخدرات والمهاجرين والمعادن الاستراتيجية في منطقة واسعة من دول الساحل الأفريقي.
ربما كانت مثل هذه الملاحظة وغيرها مما يدفع الباحث للانتقال مباشرة إلى مؤتمر القمة الآخر، والذي دفع أيضاً على أرض القارة نفسها، ولا يبعد عن منطقة “بلاد الساحل” والصحراء الكبرى، … ذلك هو مؤتمر القمة الثاني عشر لمنظمة التعاون الإسلامي بالقاهرة أوائل فبراير 2013.
نحن أمام مؤتمر يضم عشرين دولة أفريقية من بين سبعة وخمسين عضواً. ومثل دول إسلامية كبرى من آسيا، فثمة دول كبيرة أيضاً من أفريقيا مثل نيجيريا، أو ذات وزن كالسنغال فضلاً عن المغرب ومصر… الخ. لكن ذلك لم يؤثر في اتجاه الإعلام العربي كثيراً ليشير بعناية أكبر إلى القضايا الأفريقية في المؤتمر، كما لم يؤثر عدم حضور الرئيس المصري نفسه للقمة الأفريقية قبل ذلك ببضعة أيام في قلق الإعلام من اعتذار الرئيس بوجوده في اجتماع أوروبي، واضطرابات الداخل! ومن ثم كان يتوقع أن تعوض مصر ذلك على الأقل بالحضور الأفريقي في القمة الإسلامية.
لكن الإعلام المصري وغيره راح يكرس عاداته التقليدية، بالمثير من الموضوعات التي لا تضيف جديداً، فكانت “علاقات ثنائية”، بحتة مثل علاقة مصر بإيران، هي التي حلت محل القضايا العامة وأقصد علاقة مصر بإيران، في مؤتمر كبير ينعقد في مصر لأول مرة. اكتفى الحزب الحاكم في مصر كحزب ذي مزاعم إسلامية بأنه جاء بالمؤتمر الإسلامي. ولن ندخل هنا في معالجة القضايا الإسلامية، إلا بقدر ما هي أفريقية لنسائل الذين يعالجون القضايا الأفريقية، كقضايا إسلامية!
كان من الملفت للنظر في ترتيب قضايا الإعلان الختامي للمؤتمر غلبة قضايا العالم العربي على أي من القضايا الأخرى. فإسرائيل ولبنان والجولان وليبيا والبحرين، تجعل السودان والصومال في المؤخرة، بل إن معالجة حال هذين البلدين تأتي في إطار دعم تقليدي للنظام السوداني، دون إشارة لجهد ضروري مع السودان الجنوبي مثلاً، أو دعم لحكومة شكلية في الصومال (دون إشارة للتدخلات القائمة في الصومال بأغطية أخرى مثل وجود إثيوبيا وكينيا….) وحتى عند ذكر نزاع جيبوتي مع إريتريا، فإن الموقف يتجه مباشرة لدعم جيبوتي أمام أريتريا، رغم تعقد هذه المسألة، وكونها فرصة لمقاربة عربية تجاه أريتريا التي يتجاهلها المؤتمر إلا بالإشارة بدور قطر على الجانبين!
كذلك عندما تذكر جزر القمر، أو “اتحاد القمر” كما بات يسمى بعد الترتيبات الفرنسية هناك لفصل جزر “مايوت”، فإن القرار يتجه لدعم “بقايا” الاتحاد هذا في مشكلة سداد ديونه، وليس في استعادة وحدة البلاد الصغيرة على لمّ أشلائها، إزاء احتلال فرنسا لجزء منها والإدعاء أنها “جزيرة فرنسية” مثل جزيرة ريونيون بالقرب منها في المحيط الهندي.
جاءت معالجة قضية “مالي” دقيقة بالطبع لحساسية العلاقات الفرنسية العربية. ومصر المضيفة بدأت بمجاملة السلفيين فيها برفض التدخل الأجنبي بينما الأغلبية ترحب بإنقاذ فرنسا لهم في كل ظرف صعب خاصة في المنطقة “الفرانكفونية”. لذلك كان ثمة التفاف ملحوظ في البيان الختامي بمعالجة هذا الموضوع في مدخل الإعلان عن “التحديات الجديدة في العالم التي يؤثر بعضها سلباً ما لم يتم معالجتها”، وحتى تحية “دول الدعم اللوجستي” في مالي، وكأن هذا دور فرنسا فقط. ويبدو أنه كان ثمة مساومات للحد من لهجة وسم “المتمردين” بالإرهابيين (لأنهم من أهل السلف في معلومات أخرى). وحتى هذه المعالجة الخفيفة، لا يبدو أنها أرضت فرنسا، فسارعت في الوقوف بقوة وراء تشاد (ذراعها العسكرية في مالي) في دعوتها لمؤتمر دول الساحل والصحراء لحشد الموقف الأفريقي وراء العملية الفرنسية والأميركية في الصحراء. وللأسف راح رئيس الوزراء المصري يطالب باجتماع عاجل لوزراء دفاع هذه المنظمة بدعوى حماية أمن المنطقة، ورغم ذلك، فقد كان ثمة مواقف أفريقية خافتة لنقد غير مباشر استنكاراً لعجز الدول الأعضاء عن القيام بواجبها دون تدخل الآخرين!
لكن “المؤتمر الإسلامي” عالج الموقف بطريقة أخرى في مجال التوازن عبر ذكر “الإرهابيين”، بإشارة ينفرد بها عن “المؤتمر الأفريقي”، التي تندد بـ”إرهاب الدولة “بجميع أشكاله، مما ألمح البعض إلى أنها إشارات لحالات إسلامية أخرى… ضمن التنافس القائم بين أعضاء المؤتمر الكبار!
وأنفرد “المؤتمر الإسلامي” أيضاً بإشارة مهمة يندد فيها بـ”تجارة المخدرات التي تنقل عبر دول الساحل الأفريقي، وكذا تجارة البشر (تنظيم الهجرة غير الشرعية)… ورغم أن الإشارة تبدو عابرة لكنها تظل التفاتة مهمة لأخطر مظاهر ما يجرى في الصحراء الكبرى وبلدان الساحل مثلها مثل تجارة السلاح مؤخراً بعد تطورات ليبيا، وتسرب مخازن السلاح إلى هذه المنطقة في الشمال الأفريقي كله. وهذا التشابه ينطبق على المخدرات (الهيروين…) التي تنتقل من أميركا اللاتينية إلى الصحراء لتصل لهدفها في الشرق الأوسط وتركيا ثم أوروبا) وهذه التجارة تكاد تكون أحد الأهداف الرئيسية وراء ما يسمى بالإرهاب والتطرف معاً، بل وتكمن خطورتها في أنها أصبحت مصدراً لتمويل حكومات وأطراف في بلاد مثل “مالي والنيجر وبوركينا فاسو” على وجه الخصوص، ممن يكلفون الآن بحماية صورية للمنطقة من الإرهاب والتهريب! وقد كلف المؤتمر الإسلامي وزير خارجية بوركينا فاسو ليكون مبعوثاً خاصاً له “مشتركاً” مع مهمته نيابة عن منظمة الإيكواس!
إن إعادة قراءة أعمال هذا المؤتمر، خارج إطار “العرض” المصري الإيراني المثير يوفر كثيراً من الملاحظات على معالجة العالم العربي للمسائل الأفريقية، وإن كانت المعالجة يمكن أن تتوافر في الساحة الأفريقية مباشرة، لأنه لا ملامح ملزمة في تجمع لا يحمل صفة “الدولية” أو القارية الحقيقية مثل مؤتمر القمة الإسلامية أو التعاون الإسلامي، ولا تعطيه أطرافه الرئيسية المؤسسة هذه الأهمية، لكنه لابد أن يلفت النظر إلى الاستثمار الجيد من قبل تركيا لهذا التنظيم فترة تولى الأمين العام التركي لمنصبه لست سنوات خلت، كانت تركيا تصعد خلالها بسرعة كاسحة نحو الشرق الأوسط وأفريقيا. وشعرت مرات أن المثقف التركي الفنان “أكمل أوغلو” كان له حضوره وحده أكثر من حضور المؤتمر الإسلامي نفسه، وهذا ما بدأ دافعاً للمنافسة السعودية هذه المرة بترشيح وزير ثقافتها إياد مدني أميناً عاماً جديداً، فربما يكون انشغاله بالثقافة أوسع أفقاً من الاشتغال بالقضايا السلفية المحافظة، بينما تسارع أفريقيا في مسيرتها في عالم الحداثة لو حميناها من عناصر الإرهاب والتطرف.
——————-
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، الثلاثاء، 19/2/2013