لحسن ملواني
القارئ لرواية “عاشقة اللبن ” يجد فيها عناصر الجذب الماتعة …أحداث مشوقة تجعلك متابعا لمجرياتها بكل اهتمام ، ذلك أن الكاتبة بنت أحداث الرواية وفق شخصيات تتقاطع وتتباعد مصالحها ، مما يجعلك منخرطا في خضم الحدث ، يشدك إليه الانتظار والفضول لمعرفة ما جرى وما يجري وما سيحدث بعد ذلك … رواية متكاملة من حيث عناصر الجمالية بما في ذلك الأسلوب السلس الممتنع ، ورسم الحدث كأنك تراه ، واختيار الشخصيات بمواصفات تجعلها مثيرة حين تفعل ، وحين تبحث للانتقام ، أو للدفع بالآخر نحو سبل الخير والاستقامة ، بل إن الإثارة تبدو من عنوان الرواية والعناوين الفرعية الخاصة بالفصول الموزعة للرواية وهي : هذه ليست كوابيس ، انصهار، صراع الموت ، صفاء توقيع على جدار القلب، صفاء والفخ المكين ، أمجد يسجل هدف البطولة ، على شفا الانهيار، كاترين تبوح بشجونها، طلب يزلزل الفؤاد ، حدث كبير زلزال يهز البيت ، يطول الانتظار ، احساس رهيب، حدث كبير، غريب امري ، خديجة تفقد صوابها ، نقرات على جدار الروح، هروب ، رعب قاتل ، حالة انفجار ، النبي محمد ..لا يزال حيا وجه نوراني اقدم ، بابا ..أين هو الوحش ؟، حتى لقاءها ، النهاية ، ما بعد النهاية ، رياح الفتنة… عناوين مغرية للقراءة والدخول في الأجواء التراجيدية المغرقة للشخصيات في أهوائها الروحية والمادية لينتصر الخير على الشر في الأخير ، لكن بعد المعاناة الجاذبة نحو الماضي نحو المستقبل والآتي ، معاناة خضم الأهواء والرغبات والثقافات الراسخة والمختلفة والتي ستصحح تباعا وفق الخط المرسوم للأحداث .
و تبدو في الرواية أهمية الشخصية باعتبارها العنصر الرئيس في تطوير الحدث و جلب التعاطف معه في ارتباط بهواجسها وطموحاتها خاصة وأن كل حدث وكل فعل من أفعال الشخصية تأتي منسجمة ومتساوقة مع مسار حياتها ونفسيتها داخل الرواية و ســ ” يظل السارد ، مهما تعمق إبداعنا القصصي في العزف على تنويعات الحداثة هو البطل القائم بفن الحكي ، إذ بدونه يفقد النص القصصي عموده الفقري ، ويبدو كما لو كان مجموعة من البنى المهلهلة ، فاقدة المذاق ، حتى لو زادت في طرح البدائل الفنية الأخرى ( العقدة والحوار وغيرهما ) بكثافة اللغة وتركيزها ، أو تحليقها في اجواء الصور والمجازات العالية ، ذات المعاني والدلالات الموحية ، فالحدث المتنامي موضوعيا وفنيا ، يعلن عن نفسه بالاندغام في بنية سردية ، يمتلكها القاص ، دون أن تفلت منه ، سواء على مستوى السرد من الخارج أو السرد مع ، أو السرد من الخلف ” 1. ذاك ما يلمسه القارئ لرواية” عاشقة اللبن ” حيث حرية الشخصيات في تصرفاتها وأقوالها بشكل ينفخ الحيوية في الحدث وتطوره وتقاطعه مع الأحداث المتجددة عبر نسيج الرواية. وقد زاد ذلك حيوية وتشويقا وتعقيدا تداخل السرد والحوار والوصف والتفكير والتأملات مما يفضي إلى سرد متنوع التداخلات والتشابكات والإيقاعات في التحولات المكانية والحوارية.. هذا المزيج المحكم الحبك ، منح الرواية قوة القبض على القارئ مستطلعا مهتما ومتعاطفا مع الشخصيات متأملا في مصائرها. ولعل الرواية عكس الكثير من الأعمال المتعالية على اليومي والاجتماعي ، تحاول أن تعالج قضايا إنسانية لها علاقة بخلفياتنا وتجاربنا ورصيدنا من التراث المغربي والإنساني عامة ، والحال أن تشخيص اليومي والعادي” المفترض ” متسم ” بتوسيع المسافة بين السارد والعالم المشخص ، فالسارد يكف نهائيا عن التعليق المباشر أو عبر التبرير النفسي الإيديولوجي ، وتنعدم تلك الوظائف التنبيهية التي توجه القارئ ، ولئن أشار الكاتب إلى الطرق البديلة يعبر بها في الرواية عن مواقفه ، فإننا لا نعثر في حقيقة الأمر على مقاطع سردية تعكس نفسية الراوي أو خواطره وانفعالاته ، فهو يتعامل مع محيطه تعاملا حياديا يبدو أحيانا من خلال مجموعة من الأفعال القصيرة متلاحقة . لقد أفقد التشخيص العادي واليومي الرواية الحديثة تماسك السرد فيها ، إذ امحت الحبكة أو كادت فلا نكاد نعثر على خيط سردي دقيق يربط بين الأفعال ، وفقدت الشخصية ملامحها المميزة في كثير من الأحيان وكذلك عمقها الاجتماعي والسياسي ، وهيمن التكرار وأصبح تقنية أساسية في شعرية الخطاب الواقعي ، وبذلك يؤدي هذا الضرب من التشخيص وظيفة تضيق في بعضها الآخر المستند إلى التاريخ ، ففي مثل هذه الروايات يلتزم السارد بميثاقه الإرجاعي عندما يخرج التاريخ من الوهم”2. والحال إن ” رواية عاشقة اللبن ” يتميز فيها السرد بالتلاحق الدقيق في كل فصل من فصولها مما يحقق لذة المتابعة والانتظار لمجريات تتجدد عب خيط سردي رابط بين الأحداث.
القوة في الرواية تكمن في شخصياتها المتضاربة التوجهات والمصالح والخلفيات الثقافية والدينية ، علاوة على حسن التوصيفات المتناسبة مع هذه الشخصيات من حيث ظاهرها ونفسياتها ومن الأفعال الصادرة منها ، توصيفات دقيقة تحدد الملامح الاقتصادية والوجه الطبقي لهذه الشخصيات . وفي هذا المقال سنحاول التركيز على الخط التطوري لـ”كاترين ” باعتبارها البطلة الفارضة لنفسها بهواجسها و ومتاعبها وثقافتها و كراهيتها لأبويها.. فهي الفتاة الفرنسية المفعمة بالاختلاجات والانفعالات والترددات والتوجسات ، وهي المخترقة بأفعالها المتأرجحة بين الخير والشر ، بين الإحسان والانتقام ، بين الصدق والكذب نسيج الأحداث فطبعتها بطابع تراجيدي انتهى بها إلى الاطمئنان والاقتناع بالصالح والأصلح من التصرفات والانتماء … إنها كاترين المعشوقة من قبل أحمد الذي يحبها ويتسلقها بنظرات الامتنان ، بل يعتبرها زوجة المستقبل ، وهي بدورها تبادله العشق والإعجاب ، فهو بالنسبة إليها الشمس والنور ، لذا اهتمت وسهرت ، وبكل عناية بغية إشفائه … من أجله تحملت الأسوار الجهنمية التي تضربها عليه أمه خديجة فهي تعاتبها وتؤاخذها على دينها في الوقت الذي تريد ان تعيش حرة مع أحمد الذي يشاطرها في ذلك حين يقول لها ” اعاهدك أن يكون ديني هو دين الشيطان المولع بك …ديني هو دين البحر والموج والهواء الذي جلبك إلى غاري… ص 16. إنها تعيش تمزقات تجددت حدتها عبر مسار الأحداث في الرواية ، فهي المصدومة بأقوال خديجة المعاتبة لها مرارا على عقيدتها غير الإسلامية ” أمس طلبتُ منها أن تصلي وتسجد لله الواحد الأحد وقلت لها إنها إن لم تفعل ستلقى في النار كما ألقي الخبز في التنور .” ، بعلاوة على صراعها وتنافسها معها في التقرب وإرضاء أحمد ، ينقض عليها التفكير في والديها ، مما حدا بها إلأى زياتهما رغم كره معاشرتهما وبالخصوص أمها ..على أن خديجة في أعماقها تكن لكاترين تقديرا واحتراما وتتوسم فيها الخير والاهتداء إلى الحق الكامن في عقيدتها ، وهي المساعدة لها ولزوجها البشير وابنهما الوحيد أحمد ” كاترين ليست زائرة عادية أعادت الحياة إلى بيتي وإلى قلبي الذي كان مفجوعا باختفاء ابني …أعادته إلى حضني وسهرت على علاجه حتى شفي…لو ظللت عمري كله أحسن إلى كاترين ما استطعت ان أرد لها جزءا يسيرا من معروفها الجم لكن هل يعقل ان يموت ابوها وامها في آن واحد ؟ ” …
إلا أن كاترين تعيش نفاقا داخليا فرغم إحسانها إلى طونت خديجة وأسرتها ، فقد كذبت عليها حين ادعت موت أبويها ، كذبة زادت من احتدام الضيق والتوجس في قلبها خوفا من افتضاح أمرها ، ورغم شك خديجة في الأمر فقد استحضرت مسؤوليتها عليها باعتبارها يتيمة والإسلام أوصانا على اليتيم احتراما وإحسانا. ” …أعرف إن علمت طونت خديجة بكذبتي لن تنظر في وجهي بعد اليوم … من اليوم فصاعدا هما ميتان … أمي قتلتها بإرادتي وأبي قتلته أمي مرات بدل مرة واحدة… أنا لم أكذب أمي وأبي في حكم الميتين بالنسبة لي … كاترين تقول لها أمها ” أنت صبية جميلة مكانك ليس هنا …تسحب عقب السيجارة من يدي وتدوسه بقدمها وتناولني كوب اللبن اشربي اللبن يا كاترين اشربي كثيرا منه اشربيه على الريق وفي منتصف النها وقبل النوم … من كثرة شربي اللبن حلمت الليلة باني حمامة بيضاء يقودني سرب من الحمام الى سحابة بيضاء كبيرة لم تكن تلك الحمائم تطير كانت قارة في مكانها تصفق بأجنحتها وتهدل بصوت عذب … تستحثني على الإسراع للالتحاق بها وتدخل معا تلك السحابة البيضاء الكبيرة …قطعت مسافة إليها .. أظنني دخلتها .. لا أدري ماذا حدث فيما بعد ..رغم الراحة التي أشعر بها إلا أني خائفة يا طونت خائفة أن أموت .. ص 72 .
ولصدق خديجة العقدي و الإيماني ، فهي حريصة على جذب كاترين إلى عقيدتها ، وهي في ذلك تبدو متحملة للدعوة إلى دين الإسلام ، وكاترين بدورها تحاول إرضائها بصعوبة ، لأن ذلك سيفتح أماها مزيدا من التقرب إليها وإلى عشيقها أحمد . وشيئا فشيئا ستكشف كاترين حقيقة تدين خديجة “طونت” التي بأقوالها وتصرفاتها تصحح عقيدتها “” استغفري ربك يا كاترين لا صك في الحج ولا بيع ولا شراء وإنما شعائر نؤديها بقلوب صافية ونفسية طيبة كما شرعها ربنا وبينها نبيه سيدنا محمد أي إخلال بشروطه ستكون مجرد زيارة عادية للأراضي المقدسة …” ومعايشة كاترين لهذه الأسرة سيجعلها تلميذة تكتشف أمورا وتجذبها أمور مما يساعد في تشويقية الحدث في الرواية ، ففي فصل غريب أمري تصير العاشقة والمحبة للسي البشير أب أحمد ، إنها الرغبة التي فاجأتها وصارت تطرح الكثير من التساؤلات على نفسيتها الوثابة بين رغبة وأخرى ” شيء ما بداخلي يشدني الى بيت السي البشير ..بل الى السي البشير نفسه …شعور ممزوج بالفرح والخوف يتملكني ولم أستبن حقيقته جيدا ..كل ما أدريه أن تفكيري منشغل بالسي البشير ن كأنه الوحيد في هذا العالم ” ص 119.
تساؤلات وشجون تنطرح في أعماقها مما يعذبها ويجعلها تعيش عذابا يتضاعف بين اليوم والآخر “أي حياة هذه التي أعيشها ، أسوق السعادة لكل الناس حولي ولا أدري كيف أسعد نفسي وأعيش مرتاحة ؟ ص 120…ما هذا الجنون الذي أصابك يا كاترين ؟؟ ص 121 أي مشاعر هذه التي تملأ قلبك ، يا خديجة ، ناحيته حتى تحبيه أكثر مما تحبين نفسك ؟؟؟ وأي إنسان جميل يسكنك ؟؟؟ 122. لكن العلاقة بينها وبين أحمد ستعود إلى مجاريها قبل أن تهم بالهروب ، وتنجح في ذلك لتصادف مسيرة عارمة وكان سرها نصرة محمد صلى الله عليه وسلم المساء إليه . ” تنهدت حينما تكشف لي سر هذه الامواج البشرية التي تملا شوارع الناضور والعالم أيضا .. لم يسلم منها حتى العالم الافتراضي 165″يزلزلني الخبر في الصميم .إنها حرب صليبية جديدة ستندلع بسبب هذا الفيلم الذي لم أر أسخف منه في حياتي . 166
كل ذلك أثار في نفسها مزيدا من التساؤلات التي تقحمها في دوامة من العذاب والضيق و الاضطجار ، مما دفع بها إلى إعادة النظر في كل التيارات الساعية لإسعاد الإنسان بجعله يعيش في عالم مفعم بالعدل والمساواة والأخوة .”ليتني فتحت عيني على كل التيارات التي وجدت لسعادة الانسان سماوية كانت أو وضعية لاخترت الأنسب لكيمياء شخصيتي ، ولتمكن كل واحد منا اختيار طريق سعادته بنفسه 170. فتكتشف كون ذلك قد تحقق في قلوب المسلمين فسعدوا أيما سعادة ” لا شيء يزعزع في دواخلهم هذه السعادة المقرونة بإيمانهم بربهم “172…كل هذه المعطيات والأحداث وما رافقها من إثارة لتفكيرها قررت كاترين أن تنصاع لأوامر خديجة “طونت” أخيرا كي تعلن إيمانها وتصير على صراطها حين عزمت عزما جازما أن تسافر نحو البقاع المقدسة و قد واجهت بذلك عشيقها أحمد الذي اشترطت عليه الذهاب بدوره لأداء المناسك كي تتزوج به
سألها بكل بدهشة وفضول وقلق :
ـ ما هو هذا الأمر يا كاترين ” هيا احكي ..
ـ هل ترغب في الزواج بي ؟
ـ طبعا ..اليوم إن شئت .
ـ جميل ، لكن ليس اليوم .سنتزوج بعد أن نتطهر من ذنوبنا (…)
سنحج يا أحمد ..حجزت تذكيرتين إلى مكة . هناك سنولد من جديد ثم نتزوج بعدما نتطهر من ذنوبنا . 178.
تمر أحداث وأحداث لتصير كاترين القديسة المحترمة المطمئنة والمتصالحة مع ذاتها ، وبذلك تصير المبجلة المحترمة لذا الناس . و تقديرا لها بني لها ضريح آوى جثمانها ليصير محجا للناس ، وحين قررت السلطات هدمه لم تفلح في ذلك لما سيجره ذلك من غضب وعصيان شعبي.
يقول المسؤول المكلف بتدمير الضريح ” تقسم لي بنبرة وعيدية ، بالله العظيم الذي بعث إليهم السيدة كاترين ، ألا يمس أحد ذرة من تربتها إلا على جثتها وجثة آخر واحد يسكن بلدة كاترين … 1وعادت تحضن إليها حفيدتها فردوس وتضحك لها كأن سكوتي عهد أمان ، وشرر عيني تصفيق لها .. ص211 ـ 212.
تبقى رواية عاشقة اللبن رواية تمثل تجربة مثرية للساحة الأدبية والسردية المغربية والعربية ، ونعتبرها إضافة نوعية حبكت بخبرة وفنية خاصة . نتمنى لصاحبتها سمية البوغافرية مزيدا من التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش :
+ نبذة من سيرة الروائية :
سمية البوغافرية وروائية مغربية. تنحدر من منطقة بني بوغافر بإقليم الناضور.
لها مجوعة من المؤلفات السردية منها
ـ زليخة: رواية عن دار سندباد بالقاهرة 2011
ـ أجنحة صغيرة: مجموعة قصصية قصيرة عن دار سندباد بالقاهرة 2009
ـ رقص على الجمر: مجموعة قصصية قصيرة عن دار الينابيع بدمشق 2010
ـ أقواس: مجموعة قصصية قصيرة جدا عن دار التكوين بدمشق 2012
ـ نهر الصبايا: رواية إصدار دار الوطن المغربية 2014
ـ قمر الريف: رواية، إصدار وزارة الثقافة المغربية عام 2014
ـ علاء الدين والحاسوب السحري: رواية للأطفال، بدعم من وزارة الثقافة المغربية.
ـ الإمبراطور شمسون والزهرة العجيبة: رواية للأطفال، إصدار دار أبي رقراق بدعم من وزارة الثقافة المغربية.
وقد أنجزت عدة بحوث جامعية في أعمالها القصصية والروائية و تناول أعمالها بالدراسة والتحليل كثير من النقاد داخل المغرب وخارجه.
1 ـ مجلة الأدب الإسلامي السنة الثانية ـ العدد الثامن نوفمبر 1995م ص 74.
2 ـ التشخيص في الرواية الحديثة ، مجلة المنهل العدد 520 المجلد 56 رجب ـ شعبان 1415 هـ ديسمبر 94 ـ 1995 . ص 72.
ـ المغرب