انت هنا : الرئيسية » الواجهة » الدكتورة فاطمة الديبي: “جمالية الشعر ورمزية المعنى: تحليل فني لقصيدة «وجه نبيل»”للشاعر زيد الطهراوي:

الدكتورة فاطمة الديبي: “جمالية الشعر ورمزية المعنى: تحليل فني لقصيدة «وجه نبيل»”للشاعر زيد الطهراوي:

الدكتورة فاطمة الديبي

النص:

عبء على الدنيا الوجوه إذا أتت مثل الدُّجُنَّهْ

ورمت صواريخ الهلاك على الشيوخ على الأجنَّهْ

سخرت بأرواح وأرعبت النفوس المطمئنَّةْ

وحمائم السلم استمرت في الهديل بلا مظنَّةْ

لكنهم هجموا على زغب تنامى دون جُنَّةْ

ورأيت شلال الظلام يتيه كبراً فوقهنَّهْ

والكون يشهد كبّلته حواجز أن يزأرنّهْ

وحواجز الآثام أولى في الوغى أن تخذلنَّهْ

أما اشتياق الشمس للوجه النبيل فحدِّثَنَّهْ

يأتي بسمت الصبح يكتسح الوجوه ويثأرنَّهْ

*التحليل*:

*مقدمة*:

  تتشابك خيوط الشعر لترسم لوحةً فنيةً تخترقها صرخات المأساة، وتتخللها همسات الأمل. في هذا النسيج الفريد، لا يكتفي الشاعر بكلماته، بل يُحلّق بها في فضاءٍ يمزج بين الإيقاع الموسيقي والصور الشعرية العميقة، ليخلق تجربةً حسيةً وفكريةً لا تُنسى. فبوزن بحر مجزوء الكامل المتدفق، الذي يحاكي تدفق الأحداث المتسارعة، وقافيةٍ موحدةٍ تتكسّر على صهوات الهاء والنون، يُبحر بنا النص في رحلةٍ تتكشّف فيها بشاعة الظلام وقسوة الشر، لتتصادم مع براءة الضحايا وضعفهم. وبين صور الغيوم السوداء وشلال الظلام، تتلألأ بارقة أملٍ تُعلن عن قدوم الصبح وشروق الشمس، في صراعٍ أبدي بين النور والعتمة، يُعيد فيه الشاعر صياغة حكايتنا الإنسانية الأزلية.

*قراءة في العنوان*:

يُعدّ العنوان “وجه نبيل” مدخلاً نصيّاً موجزاً ومركّزاً، يتأسس على بنية تركيبية ودلالية عميقة تعكس جوهر القصيدة.

فمن الناحية التركيبية/النحوية، يُمثل العنوان جملة اسمية حُذف منها المبتدأ، وهو أسلوب إيجاز شائع في العناوين الشعرية. كلمة “وجه” تُعرب خبراً لمبتدأ محذوف تقديره “هذا”، وهي مرفوعة وعلامة رفعها الضمة الظاهرة. وتأتي كلمة “نبيل” نعتاً (صفة) لـ “وجه”، تتبعه في حالة الرفع. هذا البناء المختزل يُسهم في تكثيف المعنى وتوجيه انتباه القارئ مباشرةً إلى الموصوف وصفته.

أما دلاليا فالعنوان يتجاوز وظيفته الوصفية ليصبح رمزاً يحمل دلالات متعددة تتفاعل مع سياق القصيدة:

*دلالة الجوهر والثبات*: اختيار صفة “نبيل”، وهي صفة مشبهة باسم الفاعل، يدل على أن النبالة ليست سمة عابرة أو خارجية، بل هي صفة ثابتة ومتأصلة في جوهر هذا الوجه. هذا التلازم بين الاسم وصفته يحوّل الكيان المادي (الوجه) إلى تجسيد للخير والقيم الأخلاقية الرفيعة.

*رمزية الأمل والنور*: يعمل العنوان كنقيض تام للعوالم المظلمة التي تصفها القصيدة (“الدُّجُنَّهْ”، “شلال الظلام”). فـ “الوجه النبيل” يبرز كنقطة ضوء وسط هذا الظلام، ويرمز إلى الأمل والخلاص المنتظر. هو ليس مجرد شخصية، بل هو قوة الخير التي ستقف في وجه قوى الشر والدمار، مما يُضفي على العنوان بعداً رمزيّاً إيجابيّاً.

*المقابلة والتضاد*: يقيم العنوان علاقة تضاد مباشرة مع “الوجوه” الأخرى التي وصفها النص بـ “عبء على الدنيا”. هذه المقابلة تُعزّز من مكانة “الوجه النبيل” وتبرز دوره كرمز للخلاص من هذا العبء، فهو يمثل الشرف والنبل في مواجهة الفساد والظلم.

*التحول من الصفة إلى الفعل*: العنوان ليس مجرد وصف ساكن، بل يكتسب ديناميكية من خلال ارتباطه بفعل مستقبلي في نهاية القصيدة: “يأتي بسمت الصبح يكتسح الوجوه ويثأرنَّهْ”. هذا التحول من الصفة (النبالة) إلى الفعل (الثأر وإحقاق الحق) يؤكد أن النبل ليس مجرد حالة كامنة، بل هو دافع للعمل والتغيير، مما يجعل العنوان إعلاناً عن نهاية الظلم وبداية عصر جديد.

*الفهم* :

  تتجاوز القصيدة السرد المباشر لتُقدّم خطاباً رمزيّاً عميقاً يجسد الصراع الوجودي بين الخير والشر. يُصوّر الشر بوصفه كياناً مُدمّراً، يتخذ مظهر “الوجوه الشريرة” التي تُشبه “الدُّجُنَّهْ”، وهو تشبيهٌ يستحضر صورة السحب الملبدة بالغيوم، مُشيراً إلى الثقل النفسي والتهديد الوشيك. يُعزز هذا التشبيه بصورة “صواريخ الهلاك” التي لا تفرق بين “زغب” الأجنة وبراءة الشيوخ، مما يرفع من مستوى الصدمة الأخلاقية لدى المتلقي. تتجلى قسوة الشر المطلقة في صورة “شلال الظلام” الذي يتدفق بغرور ويغرق كل أمل، مما يُحوّل الشر من مجرد فعلٍ إلى قوةٍ طبيعيةٍ هائلةٍ.

في المقابل، يتجسد الخير في رموزٍ تُناقض صور الشر، مثل “الحمائم” التي ترمز للسلام، و”الزغب” الذي يرمز للبراءة. يُشكّل التناقض الحاد بين هذه الرموز والصور السابقة محوراً أساسيّاً في الخطاب الشعري. ومع ذلك، يختتم النص بتحوّل رمزي، حيث يتجسد الأمل في “الشمس” و”الصبح” كقوى منتقمة، مما يمنحهما صفاتٍ إنسانيةً تُعزّز من دورهما كرموز للعدالة الحتمية. يُمكن قراءة النص كاستعارةٍ عالميةٍ لأي شكلٍ من أشكال الاضطهاد، حيث يكون الأبرياء ضحايا للجبروت، وتكون العدالة المنتظرة هي الخلاص الأخير.

.*المعجم*:

  تبرز في هذا النص عدة معاجم لغوية متضاربة، تنسج فيما بينها لوحة فنية تعكس حالة الصراع والتناقض. في المقدمة، نجد معجم الحرب والدمار الذي يسيطر على الأجواء بكلمات مثل “صواريخ الهلاك” و”هجموا”، مما يرسم صورة قاسية للعدوان والخراب. هذا المعجم يتناقض بشكل حاد مع معجم السلام والسكينة الذي يمثله “حمائم السلم” و”النفوس المطمئنَّة”، مبرزاً براءة الضحايا وضعفهم أمام القوة الغاشمة. هذا التضاد هو جوهر الصراع في النص، حيث يظهر الدمار وهو يلتهم السلام. ومع ذلك، لا يتركنا الشاعر في دوامة اليأس، بل يقدم لنا معجم الأمل والعدالة من خلال كلمات مثل “الشمس” و”الوجه النبيل”، ليؤكد أن هذا الظلم لن يستمر، وأن هناك من سيأتي “يثأرنَّهْ” ويصحح ميزان العدل. وهكذا، تتفاعل هذه المعاجم الثلاثة في نسيج متكامل، حيث يصارع الدمار السلام، بينما يترقب الأمل اللحظة المناسبة للانتصار.

 *البنية الإيقاعية* :

  بُنيت القصيدة على بحر الكامل المجزوء، الذي يتميز بتفعيلتي “مُتَفَاعِلُنْ” في كل شطر (أربع تفعيلات في البيت)، مما يمنحها إيقاعاً متصاعداً ومضغوطاً يتناسب مع حالة الصراع والتوتر التي تصورها الأبيات. يُعرف البحر الكامل بنوعيه التام والمجزوء بإيقاعه السريع والديناميكي الذي يوحي بالامتلاء والقوة، وهو ما يتناسب غالباً مع موضوعات الحماسة والفخر.

كما أن الشاعر وظف الزحافات والعلل بذكاء ليُعدّل من الإيقاع ويُحاكي المشهد الشعوري:

*الإضمار* (تسكين الحرف الثاني): يكسر الإضمار الإيقاع السريع قليلاً، ويمنحه رصانةً وهدوءاً. هذا التعديل يتناسب مع هول المشاهد المؤلمة (الظلم والهلاك)، ويمنح القارئ مساحة للتأمل والحزن، مما يُظهر مرونة الشاعر في التعبير.

*الترفيل* (زيادة سبب خفيف): تُضاف علة الترفيل إلى الأضاريب، مما يجعل التفعيلة أطول. هذه الإطالة تمنح الإيقاع شعوراً بالامتداد والاتساع، وكأن المعنى يفيض عن حدود الوزن، مما يُعبّر عن فيض المشاعر أو طول أمد الظلم، ويناسب قافية القصيدة التي تشبه الأنين المستمر.

*الوقص* (حذف الحرف الثاني): يظهر زحاف الوقص في عروض البيت الثاني (“ورمت صوارخ الهلاك”) ليجعل الإيقاع سريعاً ومنطلقاً بشكل كبير. هذا التغيير المفاجئ يماثل سرعة الصواريخ نفسها، ويعكس فظاعة الحدث والمفاجأة.

تتوزع الزحافات والعِلل على النحو التالي: تظهر زحافات الإضمار في تسعة مواضع من الحشو، وفي سبعة من الأعاريض، وفي ستة من الأضاريب. أما زحاف الوقص، فيظهر في موضع واحد، في حين تتميز ستة مواضع بزحاف الإضمار والترفيل، وتظهر أربعة مواضع بالترفيل فقط.

أما بالنسبة للقافية فإن الأبيات تتصل ببعضها من خلال قافية موحدة تنتهي بحرف النون (نَ) وهاء الضمير (ـه). هذا التناغم الصوتي يخلق إيقاعاً ثابتاً وموسيقيّاً يربط أجزاء القصيدة ببعضها. كما يثري الشاعر البنية الصوتية باستخدام الجناس غير التام بين كلمتي “الأجِنَّةْ” و**”جُنَّةْ”**، مما يضيف طبقة موسيقية خفية داخل الأبيات، ويعمق من جمالية النص.

*يظهر من التحليل أن الشاعر لم يكن مجرد ناظم للكلمات على وزن وقافية، بل كان فناناً واعياً بجماليات الإيقاع وتأثيره. من خلال توظيفه البارع لزحافات وعلل بحر الكامل، تمكن من تطويع إيقاعه السريع ليتناغم مع هول المشاهد التي يصفها وليُعبر عن فيض مشاعره. لقد حوّل القواعد العروضية الصارمة إلى أداة مرنة، ليثبت أن الشعر الحقيقي لا يلتزم بالقواعد فحسب، بل يبدع فيها ليخلق معنى إضافيّاً يتجاوز الكلمات

 *الصورة الفنية والرموز*:

  تُعدّ الصور الشعرية في هذا

 النص حجر الزاوية الذي تبنى عليه رسالته الفنية، حيث لا تقتصر وظيفتها على التوصيف، بل تتعداها إلى تكثيف المعنى وإثارة المشاعر. يتقابل في القصيدة عالمان متناقضان من خلال صورٍ بصريةٍ وحسيةٍ قوية: عالم الظلم والدمار، وعالم الخير والأمل.

يستهل الشاعر حديثه بتصوير الشر بطريقةٍ مُحكمةٍ، فتشبيه “الوجوه الشريرة مثل الدُّجُنَّهْ” لا يُقدّم مجرد وصفٍ للون، بل يحوّل الوجوه البشرية إلى سحبٍ سوداء كثيفة، مثقلة بالهمّ والتهديد. توحي هذه الصورة بقدوم عاصفةٍ مدمرةٍ لا يمكن تجنبها، مما يُضفي على الشر بعداً وجوديّاً ومهيباً.

يتبع ذلك مباشرةً صورة “صواريخ الهلاك”، وهي استعارة صريحة للدمار الشامل الذي لا يرحم. يتضخم تأثير هذه الصورة عندما تُربط بـ “زغب” الأجنة والشيوخ، مما يخلق تناقضاً صادماً بين قسوة الأداة العسكرية وبراءة الضحايا. هذا التناقض البلاغي لا يُثير الشفقة فحسب، بل يُعزّز أيضاً من وحشية الفعل الموصوف.

يبلغ التصوير أوجّه في استعارة “شلال الظلام”، حيث يُجسّد الشاعر الشر كقوةٍ حيّةٍ ومُسيطرةٍ. فالكلمة “شلال” توحي بالتدفق الغزير والقوة التي لا تُقهر، بينما ترمز “الظلام” إلى الجهل واليأس. هذا التشخيص يجعل الشر كياناً يتدفق بغرورٍ وكبرياء، مُغرقاً كل ما يقابله من نورٍ أو سلام.

في المقابل، تتجلى قوى الخير في صورٍ ترمز إلى النور والبراءة، مما يُشكّل نقطة تقابلٍ أساسيةٍ مع صور الشر. فالحمائم التي ترمز للسلم والبراءة التي يرمز إليها “الزغب” تتناقض بشدة مع صور العنف والدمار.

يختتم الشاعر النص بتحوّلٍ بلاغي مُهم، حيث يُجسّد الأمل من خلال التشخيص. ففي صورة “اشتياق الشمس للوجه النبيل”، يمنح الشاعر الشمس، وهي رمزٌ للنور والخير، صفاتٍ إنسانيةً تُعزّز من دورها كمنتقمٍ للضحايا. كما تُشخّص صورة “سمت الصبح” الذي “يكتسح الوجوه”، حيث يصبح الصباح قوة فاعلة تُزيل الظلم وتُعيد الحق لأصحابه. هذا التحوّل في التصوير لا يقتصر على منح القارئ شعوراً بالتفاؤل، بل يُؤكد على أن العدالة ليست مجرد مفهومٍ مجردٍ، بل هي قوةٌ حتميةٌ ستنتصر في النهاية.

باختصار، ينسج الشاعر لوحةً فنيةً غنيةً بالتناقضات، حيث يتقابل الظلام بالنور، واليأس بالأمل، من خلال توظيفٍ بارعٍ للصور الشعرية التي تُعزّز من رسالة النص وتجعلها خالدةً في الذاكرة

 *الأساليب*:

يُشكّل النص مزيجاً متناغماً من الأساليب الخبرية والإنشائية، حيث يسيطر الأسلوب الخبري ليخدم غاية الوصف والتوثيق، بينما يأتي الأسلوب الإنشائي في موضع واحد ومحدد ليخدم غاية التأثير والتوجيه.

إن هيمنة الأسلوب الخبري على معظم القصيدة، هو ما يتوافق مع طبيعة النص الذي يهدف إلى تصوير واقع مأساوي. فالشاعر يقدّم لنا سلسلة من الجمل التي تحمل معاني حاسمة ومؤكدة، مثل:

وصف حالة الشر: “عبء على الدنيا الوجوه إذا أتت مثل الدُّجُنَّهْ”؛ هنا يخبرنا الشاعر بحقيقة ثقل الشر وعبئه.

سرد الأفعال الوحشية: “ورمت صواريخ الهلاك على الشيوخ على الأجنَّهْ” و”سخرت بأرواح وأرعبت النفوس المطمئنَّةْ”؛ هذه الجمل ليست مجرد خيال، بل هي إخبار عن أحداث دامية تهدف إلى إثارة شعور القارئ بالصدمة.

الإقرار بالضعف: “لكنهم هجموا على زغب تنامى دون جُنَّةْ” و”والكون يشهد كبلته حواجز أن يزأرنّهْ”؛ هنا يقرّ الشاعر بحقيقة الضعف والعجز الذي تواجهه البراءة والكون في مواجهة الشر.

بهذا التوظيف، يجعل الشاعر من الأسلوب الخبري أداة فنية لتوثيق المشهد وتأكيده، فيتحول السرد إلى شهادة حية على الظلم.

في مقابل هيمنة الخبر، يأتي الأسلوب الإنشائي في لحظة فارقة من النص، وتحديداً في قوله: “أما اشتياق الشمس للوجه النبيل فحدِّثَنَّهْ”. وهنا يخرج الشاعر من دائرة الإخبار ليخاطب المتلقي بأسلوب الأمر، وهو أسلوب إنشائي يخدم وظيفة بلاغية عميقة.

وهذا التباين بين الأسلوبين يمنح النص بُعداً فنيّاً إضافيّاً، حيث يقدّم الواقع من خلال الخبر، ويُقدم الأمل من خلال الإنشاء.

*خاتمة*:

  وختاما نؤكد أن القصيدة ليست مجرد تجميع للكلمات، بل هي بناء فني متماسك، يجمع بين البُعدين الموسيقي والبصري لخدمة فكرةٍ محورية. إن القدرة على تحويل المفاهيم المجردة كـ “الخير” و”الشر” إلى صورٍ حيةٍ وملموسةٍ، مثل “شلال الظلام” و”اشتياق الشمس”، تُعدّ من أبرز مظاهر عبقرية الشاعر. هذا المزيج بين الإيقاع المتدفق الذي يعكس حدة الصراع، والصور الرمزية التي تنقل المعنى العميق، يُنتج نصّاً شعريّاً لا يقتصر تأثيره على الإبهار الجمالي، بل يتعداه إلى إثارة الوعي بالقضايا الإنسانية. في النهاية، تظل هذه القصيدة صرخة فنية خالدة، تُؤكد أن الأمل يكمن في قلب المعاناة، وأن الظلم، مهما طال أمده، لا بد أن ينقشع أمام سطوة العدالة.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1697

اكتب تعليق

الصعود لأعلى