علاء كعيد حسب: محمود درويش شاعرا.. بعيدا عن البلاغة السياسية والعقائدية
علاء كعيد حسب
تستقبلنا الريح و قد تودعنا، يتطعم الفجر برائحة الخبز، يحمر الغروب بين يدي الغريب، يتوه الاسم في كينونة الشيء و شاعرية اللاشيء، و تفضح الهوية نفسها.. لكن الأكيد أن النشيد يحملنا أبعد من الكلمات، إلى المعنى الذي يلخص القصة و الواقع العام في كل ما هو شخصي و ذاتي.
هكذا درويش، كتب على السراب ليعيش.. ليتفتح الشعر على نفسه و على التفاصيل الدقيقة للجمال، لنستكشف ثوران الروح و هدوئها، عبر مجموعة من المواقف و الأحاسيس جسدت كل ما هو نبيل و ملحمي. فوق المادة، و بأسلوب دافئ يميل إلى السرد في أغلب الأحيان، ارتقى بالمألوف ليصبح حكاية و أنشودة، و في هذا النسق، تتزامن تيارات الهواء مع دقات القلوب، و يرتبط الزيتون و الصحراء بجنون القصيدة، لنعلم كم هو الشعر جميل، و كم هي الحياة مظلمة من دونه.
و نحن نقرأ، نستطيع تمثيل المشاهد و التناغم مع ذواتنا دون المساس بجوهر الشعر، أو الانحراف عن الأسئلة الكبرى التي تكسر صمت الشاعر. و لأنها الكل و نحن فقط نتقمص انطباع أحد الشخصيات، تسكنك قصيدة محمود درويش و تذكرك بنفسك و بما حولك، و بالكثير لينبض قلبك.. و تبقى إنسانا، إحياءً للغة أولا، و انتصارا للحظات الإنسانية الحاضرة في ذاكرتنا و أمام أعيننا ثانيا.
و بالتميز، و من بعد لآخر، و صل مع الشعر إلى أسمى مراتبه، بدماء جديدة و أسلوب خطابي قوي، جعل الماضي و المستقبل يقتسمان جسد الحاضر، لتترابط مصائر الأزمنة مع مصائر البشر، و يصبح الالتزام بالقواعد مسألة نسبية خاضعة للوضع و الحاجة. و لعل مماثلته بين الوطن و المنفى و الحياة و الموت من نافذتي الحضور و الغياب، تكشف حرصه على الإخلاص للقصيدة، و إلى باطنه الصافي و روحه الجريحة. و هو ما يجعل تجربته الاستثنائية بصدقها و إحساسها المرهف، تقرأ و تغنى، و تسطر بأكثر من لون، و في أكثر من مكان، رغم سنوات من رحيله اللازوردي صوب الخلود.
لهذا كان من النبل و الإنصاف علينا كقراء، التصريح بأن محمود درويش جاهد ليسمو بالقصيدة إلى الأفق الإنساني الذي يمثلها، بعيدا عن البلاغة السياسية و العقائدية التي تشبع بها الشعر الحديث. و القول بأنه كان يمثل فكرا أو مدرسة ما، يضع الشاعر في غير محله. لأنه حين كتب، شرح أناي و أناك و أناه و منفاه ، و الوطن بكل رمزيته، و الطفل الظاهر الخفي، و الآخر المغاير في فكره الشمولي.
كتب درويش لتبقى القصيدة في صورتها و ليكون هو شاهدا مختلفا على الأحداث، و قبل أن ينام ترك نفسه مودعة فينا، و دوَّن حضوره في يومنا العابر كشموع ليلة الحب، ليبقى الشعر حيا و نحن أحياء.
شاعر و كتاب صحفي
المغرب