مْنْ الفَواتِحْ للفَواسِخْ..
دليلة حياوي
وصلاً بالإطلالة الماضية “وخّا رمضان” وما قبل الماضية “أين الخلل؟”.. سأتمّم فصول مغامرة تحصيل التأشيرة إلى بلد شقيق في أواخر شعبان.. والتي مُنِحَت لطالباتي الأجنبيات مجانا وفورا.. بينما حلت بركتها بجواز سفري بعد بحث استغرق ثلاثة أسابيع من طرف وزارة داخلية الأشقاء العرب.. رغم تدخُّلٍ مشكور لسفارةٍ وشفاعة محمودة لأخرى من الحوزة العربية الإسلامية دائما بروما.. لكوني مغربية تفصلني عن الأربعين عاما حين التقدم بالطلب ثلاثة شهور.. وبالتالي كنت لا أزال أشكّل خطرا على الشرق الذي يُدْخِل نساءَه في الأربعين فصل الغياب والعهدة على نزار قباني..
على أي.. سافرت وحنقي يفوق الحنق حنقا تلبية لنداء الواجب العملي فقط.. خاصة وبعض الطالبات لوّحْن في وجهي تصريحا وليس تلميحا حينما حاولتُ إقناعهن بتغيير وجهة الرحلة كلّية.. بأن من مميزات المدرّس الناجح الفصل بين ما هو عملي وشخصي\هويّاتي.. وهكذا وجدت جينات المحاربة الأمازيغية تتسيّدني وتسقط بالتالي التاء المربوطة عن الطائرة وتجعلها طائر عنقاء يقلّني نحو المشرق أولاً لنصرة هويتي كمغربية.. وثانيا كامرأة ـ آنذاك ـ تقريبا أربعينية.. وعليه ما اتخذت على مدار أسبوعين إقامة هناك غير الجلباب “بسفيفتو وعقادو” لباسا.. و”الشربيل” حذاءً.. وما أفطرت معدتي الصائمة بزاد غير “قوت” الحج وما كانت توصي به جدتي في كل سفرية.. وما حملت يداي غير “شهيوات” رمضان بمقادير إيطالية في الزيارات هديةً.. وما تحدثت ـ نكايةًـ إلا بالدارجة المغربية..
والحق يقال إنني لم أجد من أهل البلد سوى الترحيب والحفاوة.. بسطاء كانوا.. علماء أو أدباء.. من عامة القوم أو السادة الشرفاء.. مسلمين أو مسيحيين.. أكاديميين.. فنانين أو حرفيين.. من أهل العشائر أو الوافدين.. لم أجد لغة أُخاطَب بها غير لغة الكرم وتمجيد كل ما هو مغربي.. فالبعض كان يثني على أبطالنا فواتح الخير والعلم عبر التاريخ.. كطارق بن زياد ويوسف بن تاشفين وأحمد المنصور الذهبي والسيدة الحرة وفاطمة الفهرية وغيرهم.. والبعض يغبطنا على السهول المنبسطة والجبال المرتفعة التي تجعلهم يستوردون ما تجود به أرضنا من موالِح كالبرتقال والليمون والنارنج.. والبعض يهيب باستماتتنا السلمية في الدفاع عن الحوزة الوطنية ولجم أطماع الجيران في تحصيل إطلالة على المحيط الأطلسي.. فيما مدح بعض الشعراء نساءنا واعتبروهن حوريات الله على أرضه خُلقا.. ورقّة وذوقا قبل كل شيء.. بمعنى أن فيض معسول الكلمات أدخلني في نشوة تلتها غفوة.. أغمدت لأجلها سيفا جعلوني أعتقد أنني ضاعفت بحمله عدد الكيلوغرامات المفترضة لكل مسافر على خطوط “أليطاليا”.. وكان حريّا بي الاستعاضة عنه بالبخور المغربي..
هل قلت البخور المغربي؟.. نعم هو ذاك.. فباقتراب العشر الأواخر من رمضان لم يعد للناس من استفسار سوى هل أحضرت معي القليل منه؟!؟!.. وكنت بدوري أستفسر منهم عن مكوناته!!.. لأن ذاكرتي القريبة والبعيدة لا تذكران أن ترابنا أو صخرنا ينتجان بخورا.. فعطّارونا دأبوا على إحضار البخور والعطور من الشرق.. والنعوت التي نضفي على بعضه شاهدة ـ الجاوي المكّاوي وخّى ربّي آش جاب مكّة لْجاوة؟ .. والعود القماري.. وما تسولونيش عافاكُم واش من جزر القمر؟ـ .. ولما لم أتلقّ جوابا وافيا باستثناء كون الغرام الواحد يفوق الـ30 يورو.. وبأن الطلب يفوق العرض خاصة في ليلة القدر.. قررت خوض مغامرة أخرى في المدينة القديمة للعاصمة.. وتقدّمتُ طالباتي.. وتقدّمني وإياهن مؤرخ أديب.. وبدأ محلّ يحيلنا على آخر في رحلة طويلة اعتبارا بنُدرة المطلوب.. حتى وجدنا بُغيتنا أخيرا.. ويا ليتني لم أتنحنح زُهوا أمام الطالبات الأجنبيات وفخرا أمام المؤرخ ابن البلد.. حينما أجابني العطار الشاب:
ـ “لديّ الأصلي.. يا سِتّي.. كما لو أنك بمارشي الجمعة.. إيش تفضلي الأبيض؟.. الأسود؟”..
ويا ليتني لم أرفع هامتي والطالبات يسألنه بصوت واحد:
ـ “ما الفرق؟”..
ليُسهب:
ـ “فوارق الفاسوخ كثيرة ومنها: ذنب الفأر اليتيم.. شوكة الضربانة العذراء.. جلد الحرباء الأرملة.. ريشة الخطاف الأخرس… “
تالله في وجه من يجب أن نُشهر سيوفنا جميعا؟.. طبعا في وجه بعضنا قبل لوم غيرنا.. “اللي فتح طاقة فجنبو ما عْدْم من يطل عليه فيها”.. فالعطار حديث السن لم يكن ليحفظ كل التفاصيل التي ذكرت والتي لم أتذكّر.. لولا طول لسان الشعب المغربي العظيم الذي أنتمي إليه!!. طول اللسان الإعلامي والأكاديمي قبل الأمّي.. فلم أشهد قوما يسيئون إلى وطنهم كما نتفنن نحن!!
لن أدعي أنني أركب يمّ الصواب.. لكن قد أنظم وإياكم من لآلئه عقودا وقلائد بحول الله.. فالاختلاف يبني.. أكثر مما يقوّض..
dhiaoui@yahoo.fr