انت هنا : الرئيسية » اخبار متنوعة » تكشبيلة مراكشية

تكشبيلة مراكشية

دليلة حياوي

الجزء الأول

كان يخطر جيئة وذهابا بقميص طويل تقليدي فضفاض في غرفة واسعة الأطراف.. يجلس.. ثم ما يلبث أن يهبّ واقفاً.. يرشف رشفة ماء كان مثلجا قبل ساعات.. ثم يعيد الكوب إلى مكانه.. يقصد النافذة .. يرقب أمواج البحر وحركة المصطافين على شاطئه قبيل الغروب.. ثم يرخي الستارة المخملية.. كانت حالة ملل خانق تجثم عليه..
نظر إلى الخزانة.. حث الخطى نحوها.. مرر أصابعه كما عازف “بيانو” باحث على نغمة ضائعة فوق الكتب المرصوصة بعناية بين رفوف مغربية الطراز.. ومتناغمة مع ديكور الغرفة الذي يغلب عليه اللون الأحمر القاني.. وتدرجات اللون الترابي.. مع حضور لافت للنحاس الأصفر..
لكن بمجرد مغازلة أصابعه للكتاب الثاني توقف بامتعاض وتأفف باديين.. إذ لم يستسغ ذاك الكم من الغبار الذي كان يعلو دواوين وقصصا وروايات معظمها يتضمن إهداءات مؤلفيها من أصدقائه أو أصدقاء أصدقائه.. نظف يديه بالحمّام دون أن يرفع رأسه نحو المرآة.. كما لو كان يهرب من نفسه.. وعاد إلى الأريكة وتهالك فوقها..
أدار قرصا موسيقيا لفنانه المفضل سعيد الشرايبي.. وسار رأسا إلى معزوفته الأثيرة “فروسية”.. رمى بحبة لوز محمص تحت لسانه ومد يده بتكاسل ليصب كأس شاي كان قد وضع صينيته فوق الطاولة في وقت ما من هذا اليوم.. انتبه إلى كون الشاي صار باردا.. فعرج بيده نحو المصباح لينيره.. فإذا بالiPad يعترض طريق أصابعه..
أخذه.. طوى غطاءه الجلدي واتخذه قاعدة على صدره.. وفتح علبة البريد.. لكن ما لبث أن أغلقها.. فالسكرتيرة على ما يبدو قد اطلعت على الوارد جميعه.. التقط صورة نصفية وكبرها بالسبابة والإبهام كما لو كان يعد التجاعيد بجبينه.. والشيب بمفرقيه.. أغلقها وشرع في تقليب الصور المخزنة..
كان يمرر الصور على نحو عكسي بسرعة فائقة.. صور آخر عطلة بالتايلاند.. صور ابنيه.. صور مؤتمرات.. صور حفلات استقبال.. صور والديه.. صور البحر.. والجبل.. والوادي..
استوقفته هذه الأخيرة قليلا وتمعن فيها بحنين وأصاخ بسمعه كما لو كان ينصت فعلا لانسياب رقراق ذاك الوادي في مشهد حي.. فقام من مكانه وضغط على زر السقاية المراكشية الكهربائية التي تتوسط الجدار المقابل له.. كان خرير الماء كما موسيقى تطرب نفسه وتذكر أن ثمة علاقة ما وطيدة تجمعه بالماء.. وبذلك كانت صهاريج المنارة وأگدال ومدرسة ابن يوسف ونافورات صحون رجال المدينة السبعة أماكنه
المفضلة للتأمل أثناء الطفولة والمراهقة المبكرة..
تذكّر المنارة.. وأبرقت عيناه.. وتابع تصفحه للصور حتى بلغ صورة له قرب صهريج المنارة بصحبة طفلتين والأعمار لا تتعدى السنوات العشر أو التسع.. عادت به الذاكرة إلى ذلك اليوم فبدت له الصورة نابضة بالحياة..
كان يمسك بيدي طفلة وهي تمسك بيديه على نحو تقاطعي.. ويدوران.. يدوران وهما يرددان أهزوجة “تكشبيلة”.. بينما الطفلة الثالثة كانت تجلس فوق السور الصغير ممسكة بكتاب غير بعيدة عنهما..
كان رجال أسرهم يلعبون الورق تحت شجرة زيتون وقد وضعت فوق السجادة التي يفترشون صينية شاي وحلويات.. بينما النساء كن يتندرن فيما بينهن على وصفة لم تفلح إحداهن في ضبط مقدار الماء بها.. فأتى مرقها وفيرا..
سقطت من العياء الطفلة التي كانت تلعب معه وظلت مستلقية على ظهرها تلهث من التعب وعيناها مشرعتان نحو السماء.. فإذا به ينادي الطفلة الأخرى:
* أجي! باش نسخفك حتى انتي!
الطفلة:
– بغيت نكمّل القصة!
هو ضاحكا:
* خايفة نغلبك؟
هي بتحدّ:
– غادي نخاف من واحد غالط في “تلكَ إشبيلية”؟
(يتبع)

عن الكاتب

عدد المقالات : 1619

اكتب تعليق

الصعود لأعلى