انت هنا : الرئيسية » الواجهة » عبد الهادي الزعر: حفريات معرفية متوارية في ثلاث روايات قصيرة للكاتب واثق الجلبي (يوسف لا يعرف الحب / شفاء الشطرنج / كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى)

عبد الهادي الزعر: حفريات معرفية متوارية في ثلاث روايات قصيرة للكاتب واثق الجلبي (يوسف لا يعرف الحب / شفاء الشطرنج / كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى)

المصدر:رأي اليوم

قراءة عبد الهادي الزعر

كيف يتم التأويل واختيار المقاربة النقدية إذا كان النص مستغلقاً ؟ عند قراءتنا لأي نص يتوجب علينا فهم معنى الكلمة وما بعدها فأغلب المفردات العربية تحمل أكثر من معنى معلن ربما تؤسس أرضية لدراسة لاحقة أو نواة متمردة عصية على التوصيف والتحديد فالمفردات والجمل اللاحقة عادة محملة بمحتوى حدثي مهما كان شأنه صغيرا أو كبيرا يوحى للتأويل فمثلاً قراءتنا للقران الكريم بتدبر وتؤدة غير قراءتنا للنصوص الوضعية الأخرى – خذ على سبيل المثال السرود التاريخية هي ليست مرويات عن أحداث مضت وانما وجهات نظر مؤرخ او مُوثق اتكأ على فعلٍ ما بعينه وباقي الأفكار تأليفات مغايرة لا تمت لصيرورة الأحداث بشيء بل شفرات عن المرجعيات والأفعال والشخوص والهرمونطيقا – يتحول السرد بنظر المُدون الى فضاء شاسع لا علاقة له بأرضية الحدث وزمانه لذا يطلق العنان للافتراض والتغريب لسد الثغرات وكما قال بارت ( هناك نوعان أساسيان من النصوص يمكن فرزهما — القابلة للقراءة والقابلة على الكتابة ) والثانية هي التى يمكن التعويل عليها – النصوص أنثى ولادة لاتصل لسن اليأس يرتفع شأنها كلما عثر عليها قارئ ناقد يبث فيها دماً جديداً ؛ فالكلمات وتكويناتها تعكس أحاسيسنا وردة أفعالنا نحو عالمنا المحيط او تبوح بتصورنا الشخصي لما يمكن فهمه او عدم فهمه فأجسادنا المتعبة تستجيب مرغمة لفعل الضغوط التي نشاهدها فتفرض علينا ترجمة للحظة المعاشة وهو انعكاس شرطى عن المحسوسات كما يؤوله علم النفس الفرويدي فاللاوعى المعرفي المكتسب أتاح لنا التغلغل في مسامات غير مرئية جاء فى الفصل الأول من قصة يوسف لا يعرف الحب : ( يمد يده الى جيبه ليخرج وجهاً بحجم قبلات العواهر ، هذا الوجه الإسمنتي لا تلهيه نهود الزانيات ) بعض النابهين يغور بعيدا فى استبطان المعانى غايته كشف المضمر – فالكلمات بوصفها كيانات قائمة لها مدلولاتها ومعانيها الم تخاطب ملكة سبأ قومها بان كتابا انزل يقول (بسم الله الرحمن الرحيم ) فالكلمات بحور غائرة لا حدود لمعانيها – في ملحمة كلكامش برواية طه باقر كان البحر فاصلا بين الموت والخلود وفى الشيخ والبحر لهمنغواى عدائيا قاتلا لا يأتى بالنفع الا بالمجاهدة والمغامرة بينما عبر عنه جنكيز ايماتوف بالخلق الأول الأسطوري اما بنظر الديانات السماوية هو اساس الديمومة والنماء ولهذا أقام الله عرشه على الماء ووصفه جيمس جويس — موضع الحوريات الجميلات وغوته فى فاوست معتبرا إياه قوة دينامية لبناء المستقبل وفى رأى السندباد العراقي متاهة واكتشاف مجاهيل .

  مما تقدم ان لكل كلمة معنى يطول ويقصر والبحر لا يفرض استثنائه علينا إلا اذا هاج وماج كما فى التوسونامى الذي أحال نصف آسيا المتشاطئة الى رميمٍ تذروه الرياح – يقول الناقد ياسين النصير فى كتابه كلام النص : الكلمات تعنى شيئا وتشير باطنيا لشىء اّخر فماء البحر وهو يجرى معنى وماء المطر معنى وماء الثلج حين يذوب معنى – لا يتقيد معنى الكلمة بمصادرها اللغوية فلها دلالات لا يحددها النص كم هى صور وإحالات فى قصة شفاه الشطرنج : ( النفوس لم تعد كما كانت ، الألوان فقدت عذريتها والخطابات المتعالية تبث السموم والفقراء ملوا البلاد وأصبحت وجوههم قطع نردية بلا أرقام ؛ كيف يصلح المُدان كل هذا الخراب ) كم سعدنا حين قرأنا التراث الأندلسى الثر وكم خلف لنا جماليات هائلة من خلال الموشح كما ان الفلسفة المتمثلة بابن رشيق وابن ميمون وابن رشد وابن طفيل لا زالت قيد الدرس – لنذهب الى سياق آخر يعطى الكلمة أكثر من رؤيا : ديكارت أبو الحداثة فى مركزية الأنا – انا أفكر إذن انا موجود – معلناً ان الذات الطبيعية يكتب لها ويفكر وهى تنقل – – فى حين عد هيغل الذات جزء من المطلق ووفق ذاك المعيار تمسى الجملة جماعة والعبارة طائفة والنص امة والحرف كيان – شبه ابن رشيق بيت الشعر بالخيمة بعمودها الوسطى واروقتها و اوتادها وربما المتصوفة سبقوا ابن رشيق بالتمثيل يقول احد العارفين حضرت مجلسا لمتصوفي بغداد فإذا قال احدهم ( قافاً ) بكوا واذا ذكر الآخر( ميماً ) تبسموا – قال ابن سينا هذه الأبيات الفلسفية فى الروح :

رب ورقاء هتوفٍ فى الضحى   ذات شدوٍ صدحت فى فنن

 ذكرتْ إلفاً ودهرا سالفاً      فبكت حزناً فهاجت حزني

 ولقد تشكو فما افهمها       ولقد أشكو فما تفهمنى

 غير انى بالشجا أعرفها وهي أيضا بالجوى تعرفني

لازلت كغيري من الاربعينيين تأسرنى المفردة المعبرة العميقة المعنى ! النابهون من كتاب اليوم يمتطون المفردة القلقة فيسخروها فى مدوناتهم الشعرية والسردية لأنها تمد المعنى بطاقة إضافية ديناميكية هائلة تجعل القارئ يسيح فى لججٍ عميقة الغور ! محاولا مسك المعنى ولنا فى شعر الجواهرى والمتنبى وعبد الرزاق عبد الواحد عبرة بالرغم من شكل القصيدة العادي المتواتر نرى اغلب الشعراء حديثي التجربة قصائدهم مبناها ومعناها مستقر يمكن الإمساك به من اول وهلة بينما يمتطى الخبراء المجربون المفردة القلقة التى تخرب بيتها وتبنيه عند كل قراءة – الشاعر اللا مجدد يرضى لنفسه بيتاً يسكن به الى ان يرحل والشاعر المكين ينتقل كل يوم لبيت جديد – اما فى قصة كل انواع الحلى لاتفيد الموتى : (فى لحظة إمساك الغيم لم يتوقع شوقي ان روحه ستمطر ندماً فليس من الممكن ترويض الشتاء ، أرصفته التائهة كعمره المهدور يتساقط ريش الطائر على متن السهول المنبطحة والممتدة بين عين الدهر وزنده ) الأسلوب هو الرجل جملة رددها طه حسين يرحمه الله منذ عشرينيات القرن الماضي و الشعر والسرد المتقن صناعة فردية وفن يتميز به كل مبدع واصيل بالمراس والمران تلك الصناعة مكتسبة وقليل قليل هو الموروث فوادى عبقر لم يحدد له وجود على تضاريس خريطة اليوم وبقى قولا لا فعلا – فحسن التاليف والديباجة تزيد المعنى وضوحا وصاحب الأسلوب ما هو الا فنان يرسم و يصور أفكاره على نحو متفرد ولما كانت اللغة صناعة فانه يستخدمها ويضيف عليها أسرار تعبيرية إيحائية ؛ فلغة الابداع قائمة بين الانتقاء والصياغة والشعر ثورة متجددة لا تعرف الهدوء والاستكانة – الكلمات كالعصافير تطير فى فضاء الورقة وبطيرانها تزيل البياض الزائف وتثبت بياض حقيقي – – ذلك ماوجدته مع واثق الجلبى السارد الشاعر المفكر مع أجمل الأماني .

…………………….

المصادر: صراع التأويلات — بول ريكور الهورمينو طيقا – – عبد الغنى باره

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى