خالد البوهالي: هل بات أفول الليبرالية الغربية وشيكا؟
المصدر: رأي اليوم
لا يجادل الباحثون في العلاقات الدولية، كون الصراعات والأزمات العالمية، تساهم في إحداث تحولات تمس بنية النسق السياسي الدولي، وما تحمله القوى المؤثرة فيه من قيم وأفكار تحاول فرضها على باقي الوحدات السياسية في العالم، ما يمكنها من فرض السيطرة عليها سواء بالوسائل العسكرية أو السياسية أو الاقتصادية أو جميعها معاً.
عرف التاريخ المعاصر، مجموعة من القيم الفكرية مثل الليبرالية والشيوعية والنازية والفاشية، وكل منها حاولت فرض تَصَّوُرِهَا للعالم وإقصاء نظيراتها، إذ تصارعت الليبرالية والشيوعية في البداية عقب أحداث الثورة البلشفية في أكتوبر من العام 1917، إلا أنهما ما لبثا أن تحالفتا براغماتيا في مواجهة المد النازي والفاشي الذي تصاعد قبل ومع اندلاع الحرب الكونية الثانية. ونجحتا في القضاء عليهما.
وما إن استثب الأمر للشيوعية والليبرالية، بعد إقصاء الفاشية والنازية، حتى دخلتا من جديد في صراعٍ لفرض أجنداتهما الإيديولوجية على باقي دول العالم. إذ اتخذ الصراع نمطا جديدا بعيدا عن التصادم المباشر، أُطْلِقَ عليها اسم “الحرب باردة”، دامت لما يزيد عن ثلاثة عقود، انتهت باندثار وأفول نجم الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفياتي إلى الأبد.
بعدها تصّورت الليبرالية في لحظة انتشاء وغطرسة فكرية، أنها القيمة المركزية للكون، كما روج لذلك المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”، باعتبارها الفكر الأصلح لكل شعوب العالم بغض الطرف عن ماهيتها وخصوصياتها الثقافية والدينية، وما على الأمم الأخرى سوى الخضوع لها والعمل بها فكرا وممارسة، بطريقة تنم عن أحادية فكرية استبدادية، وإلا اعتبرت محور الشر من وجهة نظره، مثل بعض الدول التي يسمونها “مارقة” ككوريا الشمالية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
لذا يرى الغرب أن قيام نظامٍ بديلٍ عن الليبرالية معناه تقويض النسق السياسي الدولي القائم عليها الذي رسمته القوى الغربية بعد الحرب الباردة بما يخدم مصالحه، حيث وظّفت فيه مؤسساتها المالية الدولية، وتمويل ما يسمى “منظمات المجتمع المدني” التي تشكل أحد أذرعه للتأثير في سياسات الدول الأخرى، فضلا عن الاستقطاب و الترويج الإعلامي للمثقفين الذين يقاسمونها نفس الأفكار، أضف إلى ذلك ربط المساعدات الاقتصادية للدول الفقيرة بما تقدمه من تنازلات تمس خصوصياتها و سيادتها الوطنية، لهذا ليس مستغربا أن يصرح المستشار الألماني أولاف شولتس في السنة الماضية أن الحرب الصليبية – حسب رأيه – التي يشنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا هي حرب على الديمقراطية الليبرالية التي قوامها الحرية والازدهار وحقوق الانسان. والنظام الدولي القائم عليها، في مغالطة فاضحة تنطوي على الكثير من الأباطيل والتضليل.
حولت الليبرالية نتيجة تأثيراتها السلبية في المجتمعات البشرية، إلى كائنات مادية مجردة من كل نزعة أخلاقية أو دينية، باسم قيم الحداثة الصماء والحريات العجفاء، التي في حقيقتها ليست سوى وسيلة لضرب نسيج المجتمعات الإنسانية وقيمها الحضارية والتاريخية التي انبنت عليها، مثلما هو الحال في العالم الإسلامي والعربي.
لقد غاب عن ذهن الساسة الغربيين، أن حركية التاريخ لا تقف عند زمكان معين، بل هي في مسيرة دائمة إلى الأمام، ونجاح فِكْرٍ في لحظة ما من التاريخ، لا يعني بالضرورة صلاحيته لكل الأزمنة والأمكنة، لأن العقل البشري مثلما هو مجبول على الخلق والابتكار، مجبول كذلك على الخطأ والصواب، وهذه من سنن الله تعالى في خلقه، و الليبرالية ليست قرآنا منزلا ولا ناموسا مقدسا لا يأتيها الباطل من بين يديها، بل هي نظرية وضعية تفتقت عن فكر الإنسان في سياقات تاريخية حدثت داخل مجتمعات معينة، لذا لا يمكن تطبيقها على كل البشرية، لأن الحضارات الإنسانية من حيث طريقة نشأتها وتطورها هي التي ترسم لنفسها معالم هويتها وقيمها الدينية والأخلاقية والثقافية الخاصة بها انطلاقا من واقعها.
وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف والمفكر الروسي نيكولاي دانيلفسكي في كتابه الشهير “روسيا وأوروبا (فلسفة الأمة الثقافية)” أن الحضارة لا تنتقل من نمط تاريخي ثقافي إلى آخر بمعنى ان لكل حضارة خصوصياتها ولا يمكن صهرها كلية في حضارة أخرى مختلفة عنها رغم أن دانيلفسكي لا ينفي التأثير المتبادل بين الحضارات ولكن يبقى ذلك التأثير محدودا. مشيرا في نفس الوقت إلى أنه يمكن الاستفادة من الحضارات الأخرى في ما يخص جانب العلوم الطبيعية وتحسين الصناعة وتطوير الفنون، وغير ذلك لا يصلح للتطبيق العملي من معارف وتجارب الآخرين بسبب يعزوه إلى كون حلول الحضارات الواقعية والفعلية لمشاكلها الفكرية والروحية والاجتماعية من تجاربها الخاصة، أي ان هذه الحلول لا تصلح للآخرين لأنها من أصل آخر، ومن ثم لها حدودها.
اليوم تعيش الليبرالية أسوأ أيامها و ربما مرحلة احتضار، بشهادة النخب الغربية نفسها، ونستحضر في هذا الصدد الكتاب الذي صدر مؤخرا بعنوان “هزيمة الغرب” للمؤرخ وعالم الانثروبولوجيا الفرنسي إيمانويل تود الذي توقع هزيمة الغرب والقيم التي قام عليها مستعرضا العديد من الأسباب والمسببات داخليا وخارجيا، لهذا الاندحار، أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية التي انخرط فيها الغرب بشكل أعمى فيها دون أي تخطيط مسبق، أو قراءة للمتغيرات الجيوستراتيجية، و روح التحدي الذي أبدته روسيا في مواجهة الغرب، الذي يبدو أن الأخير يعيش مأزقا حقيقيا على كل الصعد لا يستطيع الفكاك منه، وهو نَفْسُ ما أشرتُ له في عدة مقالات سابقة.
في الختام، يمكن القول إن الليبرالية الغربية لن تبقى قدرا مقدرا على شعوب العالم إلى الابد، وأفولها مسألة حتمية. في ظل ما يطرأ على العالم من متغيرات تمس بنيانه، لكن يبقى السؤال الأهم ماذا أعد العالم الإسلامي والعربي لهذه التحولات؟
كاتب وباحث مغربي في الشؤون الروسية