انت هنا : الرئيسية » الواجهة » *القومية والإسلام والديمقراطية في تركيا – أوموت أوزكيريملي /

*القومية والإسلام والديمقراطية في تركيا – أوموت أوزكيريملي /

ترجمة:

على الرغم من الشكوك الأولية حول نتائج الانتخابات العامة التي جرت في 3 نوفمبر 2002، والتي شهدت هزيمة الائتلاف الحالي والسياسيين المخضرمين مثل بولنت أجاويد، ومسعود يلماز، وتانسو تشيلر، ودولت بهجلي على يد  حزب العدالة والتنمية الوافد الجديد وزعيمه الطيب أردوغان،

 رحب بتركيا كنموذج لبقية العالم الإسلامي، ومثال ملهم لكيفية الجمع بين الإسلام والديمقراطية العلمانية ورأسمالية السوق.[1]

لكن التفاؤل في اعتبار تركيا بقيادة أردوغان نموذجاً يمكن محاكاته في سياق ما بعد الربيع العربي لم يدم طويلاً، كما ا تضح من  خلال سلسلة من الأزمات السياسية بما في ذلك فضائح الفساد، وحركات الاحتجاج في جميع أنحاء البلاد، والانقلاب العسكري الفاشل، وتصاعد الصراع مع الانفصاليين الأكراد، والاستقطاب المجتمعي الذي تفاقم بسبب الهجرة  السرية ، وأخيرا وليس آخرا، القمع الوحشي لجميع أشكال المعارضة.

 لا يمكن تفسير فشل النموذج التركي فقط من خلال التوقعات غير الواقعية. إن التدحرج السريع لتركيا مما يسميه بعض المحللين “الاستبداد التنافسي” إلى الاستبداد الكامل يشكل أيضًا مظهرا من مظاهر الاتجاه العالمي الأوسع لما يطلق عليه علماء السياسة “الارتداد الديمقراطي”. وكما وثقت منظمة فريدوم هاوس (بيت الحرية)، فإن عام 2021 يصادف العام الخامس عشر على التوالي لتراجع الحرية على مستوى العالم. [3]و صنفت تركيا بالدولة  “غير الحرة” باحتلاله الدرجة 32 من  أصل 100.

في تقرير مؤشر الديمقراطية العالمية، الذي أعدته وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EUI)، تم وصفت بأنها “ديمقراطية هجينة تميزها: انتخابات تشوبها مخالفات تجعلها غير حرة ونزيهة؛ ا نتشار الفساد على نطاق واسع، ضعف القانون والمجتمع المدني وعدم استقلال  وسائل الإعلام والقضاء.[4]

لكن ما السبب في هذا؟  ما الذي يفسر السقوط النيزكي لما كان يعتبر ذات يوم قصة نجاح؟ إلى أي مدى يرتبط تدهور الديمقراطية في تركيا بصعود الاستبداد العالمي؟ وكيف تؤثر العوامل المحلية، ولا سيما القومية والدين في  ذلك؟

من الإمبراطورية إلى الدولة القومية

لقد نشأت تركيا الحديثة  من نظام امبراطوري كان قائما على آخر شبه شراكاتي وجماعي حيث شكل الانتماء الديني الخط الرئيسي لترسيم الحدود. تم دعم الدين من خلال التنظيم الا جتماعي والسياسي للإمبراطورية في جماعات دينية معترف بها قانونًيا ومستقلة ثقافيًا، وهو نظام الملة. منح هذا النظام اللامركزي جزئيًا بعض الاستقلالية الداخلية للمجتمعات العثمانية، لكن لم يرقى هذا الاستقلال النسبي إلى شكل من أشكال التعددية الثقافية ، كما قال بعض المحللين لاحقًا.[5] على العكس من ذلك، ضمن هذا النظام الفصل الاجتماعي والثقافي، وتنظيم التفاعل بين المسلمين وغير المسلمين، وحرص على تقييد الاختلاط.

منذ بداية القرن التاسع عشر، بدأت الدولة العثمانية في الانحدار عسكرياً واقتصادياً. انضمت تركيا الفتاة، التي استولت على الإمبراطورية بعد تمرد عام 1908، إلى الحرب العالمية الأولى إلى جانب قوى المحور وانهارت بعد الهزيمة على يد الحلفاء، مما أدى إلى احتلال إسطنبول وإزمير. لقد أحدث إذلال هذه الهزيمة صدمة نفسية عميقة للنخب العثمانية، ودفع إلى تشكيل حركة قومية قوية ذات رؤية لدولة وطنية حديثة أخذت شكل الجمهورية التركية.

 في عام 1922، بعد حملة عسكرية ناجحة ضد القوات العسكرية الغربية المنتصرة والتي شكلت فيما بعد حجر الزاوية في الأسطورة التأسيسية لتركيا المعاصرة، أنهى البرلمان الحديثً النشأة بشكل رسمي، 623 عامًا من الحكم العثماني. وفي العام التالي تأسست «جمهورية تركيا وعاصمتها أنقرة  برئاسة بطل الحرب الكاريزمي مصطفى كمال (الذي مُنح لاحقًا لقب أتاتورك، أو “أبو الأتراك”). [6]

قطائع وتواصل

كانت النخبة المؤسسة عازمة على إبعاد الدولة الجديدة عن سابقتها، حيث رأت أن الانفصال التام عن الماضي ضروري لمشروع بناء الأمة. تبنت هوية الحداثة الغربية على نطاق كامل في الحياة اليومية :اعتماد قواعد جديدة للزي، وإدخال التقويم الغريغوري الدولي، و استبدلت رسميا الشريعة بقانون مدني، وأغلقت الأديرة الدينية ( وما إلى ذلك)، مستندة إلى عدد من الأساطير التأسيسية: أمة محاصرة مهددة من قبل الأعداء الداخليين والخارجيين على حد سواء، والحاجة إلى إعطاء الأولوية للأمة على حساب الحقوق الفردية والجماعية و الديمقراطية. على الرغم من ادعائها بأنها شاملة، وبالتالي “مدنية”، كان للجمهورية القومية لون “عرقي” قوي منذ البداية لأنها ركزت بشكل خاص على الثقافة، وميزت العنصر التركي المهيمن.

على الرغم من التزامهم المعلن بالحداثة والعلمانية، كانت القيادة الجمهورية مدركة لقوة الإسلام، وبالتالي عملت على استعماله، على الأقل في البداية. كان لهذه المفارقة المتمثلة في رفض الدين من حيث المبدأ مع العلم بقدراته في الممارسة العملية، أن تخلف إرثا دائما في الحياة الاجتماعية والسياسية. فمن ناحية، كان لا بد من التقليل من رمزية الإسلام، الذي يربط بالماضي الذي حاولت النخب الجمهورية أن تنأى بنفسها عنه، ومن ناحية أخرى، كان من الصعب نفي جاذبيته كقوة معبئة، وعامل من عوامل التماسك الاجتماعي، ومورد ثقافي للسرد الوطني الجديد، ناهيك توظيفه لاستبعاد  لما اعتبر أقليات “غير قابلة للتتريك.

وكان حل هذه المعضلة هو وضع الدين تحت سلطة الدولة. وعلى الرغم من أن الإسلام تم تعريفه نظريًا على أنه شأن خاص تمامًا، إلا أنه تحول عمليًا إلى جهاز دولة آخر مكرس للسيطرة على الحياة اليومية وغرس منطق أبوية الدولة. وخلافاً لوجهة النظر الشائعة القائلة بأن إنشاء الجمهورية أدى إلى تهميش الإسلام في الحياة الاجتماعية والثقافية التركية، فإن الجمهورية القومية ، استوحت تعريفها للهوية التركية بشكل كبير من الإسلام السني. كما أن عملية “التتريك” الممنهجة التي شرعت فيها النخب الجديدة كانت تتضمن تدابير تمييزية ضد الأقليات غير المسلمة و لا حقا ضد الأقليات المسلمة مثل العلويين. وبالتالي يمكن التأكيد بأن الإسلام، على الرغم من – أو ربما بسبب – خضوعه للدولة، أصبح لغة عرقية وقومية مهيمنة، ودلالة مميزة وبالغة الأهمية للهوية التركية.

 القومية والإسلام

كان تحول تركيا إلى سياسة التعددية الحزبية في الخمسينيات بمثابة بداية حقبة جديدة شهدت تحول الإسلام إلى لغة احتجاج وغضب. وعادت الطوائف والطوائف الدينية إلى الظهور، مما أثر على أجندة أحزاب المعارضة مثل الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إلى اليمين المعتدل، والذي وعد، على سبيل المثال، باستعادة رفع الأذان باللغة العربية استجابة للمطالب الشعبية. وعلى الرغم من ادعاءات النخب السياسية المتتالية بأن  الجمهورية القومية ولا سيما ركيزتها العلمانية تشكل المبدأ الموجه للنظام السياسي التركي، فإن إعادة التأهيل على أساس الدين من قبل الحزب الديمقراطي أصبحت سمة سائدة في السياسة المحافظة التي اعتمدت على الإسلام كقوة للتعبئة السياسية.

إن أبوية الدولة، التي انعكست في موقفها تجاه الإسلام، كان سببها عدم الثقة في الشعب الذين كان من المفترض أن تمثل الجمهورية سيادته. وحتمية بناء وتعزيز دولة قومية حديثة قوية، عطفا عن فشل المحاولات السابقة لإرساء الديمقراطية، أظهرت أن التحديث سيكون انتقائياً وموجها من الأعلى. وكان هذا التصور متطلبا لعملية شاقة من الهندسة الاجتماعية، لتنوير الناس و”إنقاذهم” من براثن التقاليد، وإنشاء مؤسسات سياسية في شكل ديمقراطي، ولكنها سلطوية في جوهرها، قادرة على حماية وحدة تركيا وتحديثها. وهكذا، ففي الحالات التي اعتبرت فيها الديمقراطية بمثابة اختبار لحدود السلوك السياسي المقبول، اكتسبت المصلحة الوطنية الأولوية على مصلحة الإرادة الشعبية، واستخدمت لتبرير التدخلات المتكررة في العملية الديمقراطية.

وكانت إعادة دمج الإسلام في تعريفات الهوية التركية خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين سبباً في تشكيل ما يسمى النموذج التركي حتى نهاية القرن العشرين، رغم أنه ظل تحت رقابة دولة رسميا علمانية . خلال هذه الفترة، وُصفت تركيا بما أسماه العديد من المحللين «ديمقراطية الوصاية”[7]، القائمة على التمييز بين الأمة والشعب، واعتمدت على مبدأ سيادة الذات المتعالية على الأمة. من المفترض دائمًا أن تحل الحقوق الفردية والجماعية بعد المصلحة الوطنية. في هذا التصور لتركيا الحديثة، تم إدماج الأمة في شعب غير منقسم  أحادي الهدف. وقد استلزم ذلك “إبعاد” أولئك الذين يُعتقد أنهم يشكلون تهديدًا للوحدة الوطنية، سواء كانوا من غير المسلمين أو الأكراد أو العلويين أو الأقليات الأخرى.

لقد صمد  هذا الانقسام الثنائي بين الأمة والشعب بعد زوال ديمقراطية الوصاية وأصبح أحد السمات المحددة  لحكم أردوغان. ولم يتم إعادة صياغة التوليفة السابقة والأكثر فاعلية بين الإسلام و التتركيك بشكل جذري، حتى في الوقت الذي بدا فيه أن المشروع الإسلامي  قد تمكن من السيطرة على جهاز الدولة الجمهوري العلماني. من المؤكد أن الإسلام خرج من التهميش، وأكد حضوره، لكنه ظل في الأساس أداة للتعبئة وإضفاء الشرعية،  تراقبه وتشكله  الدولة  التي تعتبره جزءا لا يتجزأ من رؤيتها الوطنية الخاصة.

“تركيا الجديدة”

لقد انتهى فعليا النظام الديمقراطي الوصائي  في تركيا ، لكن خصوصيات التحول السياسي، ولا سيما العداء الشديد بين الكماليين العلمانيين أنصار ديمقراطية الوصاية وكوكبة القوى البديلة التي وجدت تعبيراً لها في حزب العدالة والتنمية، بل ودعمته تكتيكياً، قد فاقمت خصائصه الاستبدادية والشعبوية . وفي هذا السياق الشديد الاستقطاب، كان المرشح الأقوى لخلافة النظام القديم هو النظام السياسي القائم على تصور إجرائي للديمقراطية والذي يعتبر الانتخابات التنافسية المصدر الوحيد للشرعية والتعبير عن الإرادة الوطنية.

اندلعت حرب المناورات بين حزب العدالة والتنمية والبيروقراطية العسكرية والمتطلعون الآخرون للسلطة بطريقة  سمحت بتطور حزب العدالة والتنمية إلى مؤسسة مضادة لرؤيتها الوطنية وحاملة أيضا للكثير من  صفا ت المعارضين الذين سعى إلى القضاء على سلطتهم. وقد عززت الاختيارات التي تم اتخاذها النزعات المركزية داخل الحزب وسهلت خلق عبادة شخصية  أردوغان. فرض الحزب تدريجياً سيطرته على المؤسسات الرئيسية لجهاز الدولة وقاوم الدعوات المطالبة بإرساء الديمقراطية الداخلية. ومن عجيب المفارقات أنه على الرغم من سقوط الدولة الكمالية، تبين أن خليفتها في مرحلة ما بعد الكمالية، “تركيا الجد يدة” بزعامة أردوغان ،شكلت نسخة أقل علمانية من النظام القديم.

وخلافا للحكمة التقليدية السائدة، أود أن أقول إن الأمر لم يكن محسوما سلفا. كانت هناك أوقات، وخاصة في المرحلة  البرغماتية الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية، والتي استمرت حتى عام 2010 تقريبا، آمال  حقيقية وقوية لظهور نظام ديمقراطي.  حتى أن حزب العدالة والتنمية أطلق مبادرة لحل المشكلة الكردية التي طال أمدها، سميت بعملية “الانفتاح الديمقراطي”. صحيح أن الإصلاحات التي قامت بها الدولة كانت تجميلية أكثر منها ملموسة غامضة وخاضعة لأهواء رجلين قويين، أردوغان وعبد الله أوجلان، الزعيم المسجون لحزب العمال الكردستاني الانفصالي. ومع ذلك، استمر وقف إطلاق النار بين القوات المسلحة التركية وحزب العمال الكردستاني لأكثر من عامين، واعتقد كثيرون أن العملية لا رجعة فيها.

وقد تبددت هذه الآمال في عام 2013 عندما تصاعد الاعتصام السلمي الذي نظمه نشطاء البيئة في 28 مايو لمواجهة خطط الحكومة لهدم حديقة جيزي في ميدان التقسيم الرمزي، وتحول إلى حركة احتجاجية على مستوى البلاد، تم قمعها بوحشية من قبل الدولة وأجهزتها الأمنية. وقد تفاقم الخوف الذي كان السمة المميزة للمرحلة الإيديولوجية الثانية لحكم حزب العدالة والتنمية بسبب الخلاف الكبير بين الحكومة وحركة غولن، وتدهور الوضع في سوريا وإعلان الحكم الذاتي في روج آفا (شمال سوريا) من قبل حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)،  المنظمة الشقيقة لحزب العمال الكردستاني، وسلسلة من الهجمات الإرهابية في مدن تركية مختلفة يُزعم أن تنظيم الدولة الإسلامية هومن ارتكبها.

وتصاعدت التوترات المتصاعدة عندما حاولت زمرة صغيرة داخل الجيش التركي الإطاحة بالحكومة في 15 يوليو 2016، مما أسفر عن مقتل 241 شخصًا وخلفت «رجلا قويا” بل أقوى. تم إعلان حالة الطوارئ التي أعطت صلاحيات إضافية للحكومة والرئيس، وأعقبتها موجة هائلة من الاعتقالات والاحتجازات التي امتدت إلى ما هو أبعد من الأفراد الذين يُزعم أنهم مرتبطون بحركة غولن، “العقل المدبر” للانقلاب وفقًا للرواية الرسمية.

ويمكن قراءة هذه التطورات على أنها تتويج لعملية موسعة اتسمت بموقف ملتبس تجاه التحول الديمقراطي. ويمكن النظر إليها أيضًا على أنها مظهر من مظاهر الاتجاهات الموازية الأوسع في العالم، صعود الشعبوية الاستبدادية أو ما يسميه المنظر السياسي شيلدون وولين بـ “الديمقراطية الموجهة”، وهو مصطلح يمكن تطبيقه بشكل ناجع على روسيا والهند والصين وروسيا. وبولندا والمجر في قلب أوربا.[8] في هذه الحالات، تصبح الديمقراطية مجرد قوقعة شكلية تمكن الأنظمة السلطوية من الازدهار باسم المصلحة والوحدة الوطنيتين.

الطائفية الدولتية    

ومن الشائع أن نتحدث عن “تركيا الجديدة” في عهد أردوغان من زاوية”عودة الدين” أو فشل العلمنة المفروضة من أعلى في مجتمع ذي أغلبية مسلمة. ولكن هذا لا يعكس الاستمرارية الأساسية بين تركيا الكمالية وتركيا ما بعد ها. إن لنظام أردوغان الإسلامي  تقارب بالدولة القومية العلمانية الحديثة التي كان مصطفى كمال ورفاقه يحاولون بناءها أكثر مما يرغب أنصاره في الاعتراف به. فهو نظام استبدادي، وأبوي، وتقوم على فكرة القيادة القوية وعبادة الشخصية التي تلازمها، وهي كاره للأجانب، ومعادي للغرب ــ على المستوى الخطابي على الأقل. ومن ناحية أخرى، وعلى عكس سلفها الكمالي، فإن القومية الاستبدادية الجديدة تصور تركيا كقوة إقليمية، وزعيمة محتملة للعالم الإسلامي (السني) – مدافعة عن تفسيرً معين للإسلام يحاول التوفيق بينه وبين التحديث وآليات مجتمع  السوق الرأسمالي.

وهذا ما شكل في الواقع جاذبية ما يسمى النموذج التركي: “ديمقراطية إسلامية” مثالية ذات نسخة من إسلامية معينة و نهج كمالي محدث مجرد من مفهوم صارم للعلمانية.

لماذا انهار هذا النموذج بهذه السهولة وبشكل مذهل؟ تكمن الإجابة على هذا السؤال جزئياً في واحد من أكثر جوانب الثقافة السياسية التركية ديمومة، وفي العلاقة بين القديم والجديد، أو ما أسميه طائفية الدولة. لقد كانت تركيا دائمًا (ولا تزال) أرخبيلًا من المجتمعات التي تم توحيدها معًا بالترغيب والقوة عند الضرورة. ومع ذلك، فإن هذه الوحدة المصطنعة  لم تنتج مجتمع قيم وممارسات مشتركة، وبالأحرى أمة لديها شعور بوحدة  الماضي والمصير.

تقوم طائفية الدولة على دولة أبوية قوية، دولة تعطي الأولوية للطوائف، خصوصا الأسرة والقبيلة والعشيرة، على الأفراد والمجتمع المدني. هذه الدولة الأبوية لا تضمن المساواة؛ ولا تسعى إلى العيش الكريم للمجتمع، أو حماية الأفراد أو الجماعات من التعدي على حقوقهم. بل على العكس من ذلك، يُنظر إليها وتتصرف مثل «الأب «الذي يترأس هيكلًا هرميًا يروج لشكل من أشكال الطائفية أقرب ما يكون لنظام الملة في الإمبراطورية العثمانية.

كان التحول إلى الاستبداد الكامل سريعاً وسهلاً للغاية في تركيا، وذلك لأنها لا تملك مجتمعا موحدا متماسكا بقيم مشتركة؛ لأن كل طائفة مستعدة للتحالف مع الدولة لتحقيق مصالحها الخاصة، وغض الطرف عن مشاكل الطوائف الأخرى؛ فالتغلب على الاستبداد يتطلب المقاومة، والمقاومة تتطلب الوحدة، لكن الطوائف المختلفة تحتقر بعضها البعض بقدر ما تحتقر المستبدين إن لم يكن أكثر ر؛ لأنه بالنسبة لكل طائفة، بما في ذلك المضطهدة، فإن الطريق الوحيد للخلاص هو إخراج زعيم من بين صفوفها حتى يكون بديلا  للمستبد ، ويسيطر على آلية الدولة.[9]

المستقبل؟

ويتعين علينا أن نكون حذرين من التشاؤم الذي تولده اللغة الخطابية المتعلقة بالأزمة؛ وربما يكون بالفعل صمود تركيا  الديموقراطي  أكبر مما هو واضح في هذه اللحظة. الديموقراطية أكبر مما يبدو حاليا .بمكن أن تصبح أزمة  اليوم  فرصة الغد. وحتى لو ثبت أن للأزمة طبيعة  مستدامة، فإن التفكير فيها سيسلط الضوء على التوتر العام بين الدولة القومية كمشروع ديمقراطي علماني منظم حول مجتمع ذي حدود واضحة المعالم، من ناحية،و بين مشاريع أكثر عالمية تعتمد على الاستبداد الثيوقراطي في الداخل والتوسع في الخارج  من ناحية أخرى(تدخلات الجيش التركي الأخيرة في سوريا والعراق وليبيا وحتى أذربيجان).[10]

ومن الواضح أن دولة غير متجانسة وحيوية مثل تركيا لا يمكن أن يمسكها حاكم مستبد مستند على أغلبية ضئيلة، بغض النظر عن مدى انقسام المعارضة. فإما أن تنزلق البلاد إلى حالة من الفوضى والاضطراب، وهو السيناريو الذي لا يمكن أن يقبله المجتمع الدولي نظراً لدور تركيا المحوري في المنطقة وفي مختلف التحالفات الاستراتيجية، أو أن تقرر المعارضة أخيراً دفن الأحقاد، ولو مؤقتاً، وتبدأ في العمل المشترك.

وغني عن القول أن هذا لا يتطلب حمل السلاح أو الانخراط في أعمال عنف قد تكون بمثابة تقليد النظام. توضح إيريكا تشينويث وماريا ج. ستيفان في كتابهما الحائز على جوائز “لماذا تنجح المقاومة السلمية”، أن حملات المقاومة السلمية تحقق نجاحًا كاملاً أو جزئيًا بمقدار الضعف تقريبًا مقارنة بنظيراتها العنيفة.[12]

لذلك ليس من الصعب الإجابة على السؤال اللينيني: ” ما العمل”؟، الحصول عليها. الأصعب هو التغلب على  طائفية الدولة، ونبذ العداوات والمشاحنات المريرة التي تعيق المقاومة المدنية المنظمة. والتي قد تجبرنا ، كما يقول أحد أبطال رواية “الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت إكزوبيري، أن نتحمل وجود عدد قليل من اليرقات حتى نلتقي  الفراشات.

 الثمنً  المطلوب غير باهض ، إذا كان هذا هو السبيل الوحيد للخلاص. 12

Note

* Nationalism,Islam and Democray in Turkey/UMUT Ozkirimi

In:Observatoire de la Turquie

 [1] Ali Çarkoğlu, “Turkey’s November 2002 Elections: A New Beginning?”, Middle East Review of International Affairs, Vol. 6, No. 4, December 2002.

 [2] Steven Levitsky and Lucan Way, “The Rise of Competitive Authoritarianism”, Journal of Democracy, Vol. 13, No. 2, April 2002.

[3] Freedom House, Freedom in the World 2021, available at https://freedomhouse.org/report/freedom-world/2021/democracy-under-siege/countries-and-regions

[4] Ibid

[5] Will Kymlicka, Multicultural Citizenship: A Liberal Theory of Minority Rights, Oxford: Oxford University Press, 1995.

[6] Umut Özkırımlı and Spyros A. Sofos, Tormented by History: Nationalism in Greece and Turkey, New York: Oxford University Press, 2008.

[7] Adam Przeworski defines tutelary democracy as “a regime which has competitive, formally democratic institutions, but in which the power apparatus, typically reduced by this time to the armed forces, retains the capacity to intervene to correct undesirable states of affairs.” See for example Adam Przeworski, “Democracy as a Contingent Outcome of Conflicts”, in Jon Elster and Run Slagstad (eds.), Constitutionalism and Democracy, Cambridge: Cambridge University Press, 2012.

[8] The Turkish political system has been variously called “competitive authoritarianism”, “majoritarian authoritarianism”, “electoral authoritarianism”. Here, I prefer to use the much broader term “managed democracy” – “the smiley face of inverted totalitarianism” – which Wolin defines as “a political form in which governments are legitimated by elections that they have learned to control” as it encompasses both Western and non-Western regimes, hence it is more comprehensive and less Eurocentric. Sheldon Wolin, Democracy Incorporated: Managed Democracy and the Specter of Inverted Totalitarianism, Princeton: Princeton University Press, 2017.

[9] Jenny White, “Spindle Autocracy in the New Turkey”, The Brown Journal of World Affairs, Vol. XXIV, No. 1, Fall/Winter 2017.

[10] For a detailed discussion of the Kurdish question which forms a backdrop to Turkey’s recent interventionism, see Umut Özkırımlı, “Multiculturalism, Recognition and the ‘Kurdish Question’ in Turkey: The Outline of a Normative Framework”, Democratization, Vol. 21, No. 6, 2014 and Umut Özkırımlı, “Vigilance and Apprehension: Multiculturalism, Democracy and the ‘Kurdish Question’ in Turkey”, Middle East Critique, Vol. 22, No. 1, 2013.

[11] Jenny White, Muslim Nationalism and the New Turks (updated edition), Princeton: Princeton University Press, 2014.

[12] Erica Chenoweth and Maria J. Stephan, Why Civil Resistance Works? The Strategic Logic of Nonviolent Conflict, Columbia: Columbia University Press, 2012.

[13] See also Emre Caliskan and Simon A. Waldman, The New Turkey and its Discontents, London: Hurst and Co., 2016.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عن الكاتب

عدد المقالات : 1696

اكتب تعليق

الصعود لأعلى