الأسطورة في روايتيّ (إخناتون ونيفرتيتي الكنعانية، وهاني بعل الكنعاني) لصبحي فحماوي
د. جميل كتاني
المصدر: رأي اليوم
في رواية هاني بعل الكنعاني نجد تجسيدًا آخر للأسطورة غير الذي رأيناه في قصة عشق كنعانية. يتجلى ذلك في شخصية البطل “هاني بعل”، باعتبارها شخصيةً أسطوريةً عابرةً للزمان والمكان، وليس مجرد قائد تاريخي قام بتحقيق الإنجازات والانتصارات على الرومان وانتهى أمره. لقد أراد صبحي فحماوي لهذه الشخصية أن تكون أسطورية حتى تترسّخ في أذهان الناس في العصر الحديث، سواء أكانوا عربًا أم عجمًا. إضافة لذلك، سعى الكاتب إلى إضفاء هذه المسحة الأسطورية على “هاني بعل” من أجل أن يدحض التاريخ المشوّه الذي رسمه الغربُ حول هذا القائد البطل، وأن يفنّد كتابات المؤرخين الغربيين الذي سعَوا جاهدين لطمس هذه الشخصية الكنعانية الفذَّة، أو لتشويه سمعتها بشتّى الطرق والوسائل.
من هذا المنطلق، يُبرز الكاتب الأبعاد الإنسانية لهذا القائد البطل، الذي يسعى إلى إحقاق الحق، وإرساء دعائم السلام والمحبة، لأنه يحارب من أجل غرس القيم الإنسانية، وتحرير الشعوب من طغيان قادتهم. لذلك، نرى “هاني بعل” يوجّه خطابه إلى الشعب الروماني، واعدًا إياهم بتعيين قيادة رومانية تحكم الناس بالعدل، وتعلّمهم سُبُل الحضارة والرقيّ، بدلاً من الغزو وامتصاص دماء الشعوب الأخرى. يقول “هاني بعل” مخاطبًا الشعب الإيطالي:
“أريد أن أدخل عليكِ يا روما كأسطورة تخترق جبالَ الألب بتلك الفِيَلة المخيفة. فأنا لستُ مجرَّدَ قائدٍ عابرٍ في التاريخ. ستبقى بصماتُ جيشي، وخبطاتُ أرجُلِ فِيَلَتي راسخةً إلى الأبدِ على صخور الألبِ. وعندما تُدَمِّرُكُم قُوَّتي، أريدُكُم أن تخضَعوا لشعوبِكُم وليس لي، من دونِ مقاومة. وسأُعَيِّنُ على إيطاليا كلِّها قائدًا من بلادكم، يُعَلِّمُ النّاسَ الزراعةَ والصناعةَ والتجارةَ، بدلَ الغزوِ وتحطيم كراماتِ الشُّعوب وكيانات الأمم التي تعيشون على غزوِها وامتصاصِ دمائها، ثمَّ تقومون بنهب خيراتها وتدميرها. سأوقفُ استعبادكم لشعب إيطاليا أولاً، قبل نهشِكم حيَواتِ الشعوبِ الأخرى. سأمنحُ الحُرِّيَّةَ لشعوب العالم التي ينوي الرومانُ اكتساحَها، والسيطرةَ عليها، ونهبَ ثرواتِها، واستعبادَ شعوبها”.(17)
من الملامح الأخرى لأسطورية القائد “هاني بعل” حديثُهُ المباشر مع الكاتب صبحي فحماوي؛ ففي إحدى الليالي حين يعود فحماوي من مسرح الحكواتي جوّال إلى غرفته في الفندق الذي يقيمُ فيه، تحققت أمنيته في رؤية “هاني بعل” في المنام، وفي طرح العديد من الأسئلة على هذا القائد الرمز، الذي يجسّد أفكارًا إنسانية وأخلاقية متعددة. يقوم الكاتب بطرح العديد من الأسئلة على “هاني بعل”؛ عن طفولته، وصباه، ومعاركه، وبطولاته ضد الرومان. وحين يسأله فحماوي عن سرّ تفانيه في النضال ضد روما، يجيبه “هاني بعل” بالآتي:
“بناءً على طلب أبي هاملكار، وإيماني الشخصي، وبصفتي القائد العسكري لقرطاجنة، فإنني أكرّس حياتي كلها للنضال ضد روما. أريد أن أبقي روما جمهورية على حافة الهاوية، ليس كراهية لشعب روما الذي أحبُّ، ولكنني أريد أن أبقى أمثّل تهديدًا مستمرًّا لها، لأجعلها ترعوي عن غيّها، وتتوقف عن جشعها بشهوة قتل الآخرين وتوَرُّث ممتلكاتهم. أريد لإيطاليا كلها أن تبقى وتعيش، وتدع الآخرين يعيشون”.(18)
واضح من الاقتباس السالف أننا لسنا إزاء قائد عابرٍ عاش منذ آلاف السنين واندثر، بل نحن إزاء قائد أسطوري، يجسّد معانيَ ورموزًا إنسانيةً واضحةً؛ فحديثه المباشر مع صبحي فحماوي، رغم الفارق الزمني الكبير الفاصل بينهما، يؤكّد على كون “هاني بعل” رمزًا ومثالاً لا يمكن حصرُهُ ضمن حقبة زمنية محدّدة، بل تعبيرًا حاملاً لأفكار إنسانية نبيلة، تمثّل الخير والتسامح البشري، وذلك خلافًا لما تجسّده روما من الشرّ والكراهية والطغيان. من هذا المنطلق، أراد “هاني بعل”، الرمز والمثال، أن ينقل هذا التاريخ الكنعاني العظيم، من خلال صبحي فحماوي، لأبناء هذه الحضارة وورثَتِها في العصر الراهن. من هنا، يمكن اعتبار “هاني بعل” رمزًا للتاريخ وللحضارة الكنعانية برمّتها، بكلّ ما تحمله من قيمٍ وأخلاقٍ ورقيٍّ.
من التجليات الأسطورية الأخرى للقائد الكنعاني “هاني بعل”، طريقةُ القتال التي اتبعها في المعارك، والخطط الحربية التي كان يضعها في مواجهة الأعداء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تظهر أسطوريّته حين اختار طريق جبال الألب الوعرة والمحفوفة بالمخاطر، ولم يختَرِ الطريقَ الساحليَّ، وهو في طريقه لاحتلال روما. فصعودُ جبال الألب تجسيد لأسطوريّة هذا القائد الفذّ الذي قلبَ كلَّ الموازين واستطاع أن يخترقَ جبالَ الألبِ رغم صعوبتها ووعورتها وبَردِها الشديد. لقد أراد أن يُثبِتَ للرومان وللعالَمِ أجمع بطولتَهُ وأسطوريته وعبقريَّتَهُ العسكرية. كما أنه أراد أن يُثبِتَ للشعب الإيطالي نفسِهِ أنَّهُ لم يدخل إيطاليا من أجل القتل وسفكِ الدّماء، بل من أجل العدل ونشر الحرية. وهذا ما تمَّ تحقيقُهُ من خلال انخراط جنود القبائل الشمالية الإيطالية في جيش “هاني بعل”، بعدما تيقّنوا من عدلِهِ وإنسانيّتِهِ، وذلك خلافًا لبطش الحكومة الرومانية التي كانت تُعامل هذه القبائلَ باعتبارهم عبيدًا عندها، وكانت تمتصُّ خيرات البلاد وتفرض الضرائب الباهظة على السكان.
ملمح آخر من ملامح أسطورية القائد “هاني بعل” ما رواه بنفسه عن طفولته. ففي استرجاع للطفولة التي عاشها “هاني بعل”، يتبيّن أنه رمزٌ لمعانٍ وقيمٍ إنسانية عظيمة؛ فهو مثال للإنسان المتواضع الشفوق، الذي يهتم بشؤون الغير، ويلتفت إلى احتياجات الفقراء. كما أنه لم يعِش حياة البذخ والترف كما اعتاد أبناء الملوك أن يعيشوا. كل ذلك يجعل من “هاني بعل” رمزًا للمُثل السامية والنبيلة. يقول “هاني بعل” متحدّثًا عن نفسه:
“وبعيدًا عن قصور الأثرياء المشيّدة بالحجر المكعب الصلب المتين، والمبنية من عدة طوابق، والمحاطة بأشجار الأرز والشوح والزيتون واللوز الشامي وحقول العنب، كنتُ أتحسس معاناة الحُفاة من أبناء الفقراء، وأشعر بشعورهم وهم يرعون الأغنام والماعز. تصوّر أنني منذ الخامسة من عمري وأنا أنتبه إلى لغاتهم المختلفة، وأستقصي أسرارهم، بصفتهم خليطًا من بلاد البحر الكنعاني القريبة والبعيدة من دون تمييز بين الكنعاني والمصري والآشوري والبابلي والفارسي، ما دام يحتضنهم عالم متداخل بفكره وثقافته وفنونه، وتجدهم يتبادلون تجارتهم الرابحة بكل سعادة وهناء، جاعلين من بحرهم بحيرة كنعانية”.(19)
على النقيض من شخصية “هاني بعل” الأسطورية، التي ترمز إلى القيم الإنسانية النبيلة، كما رأينا آنفًا، نجد الكاتبَ يوظّف أسطورة “رومولوس وريموس” الرومانية الشهيرة، ليعبّر عن زَيف التاريخ الروماني وعدم مصداقيته من جهة، وعن أسبقية الكنعانيين في الوصول إلى حوض البحر الكنعاني (البحر المتوسط) من جهة أخرى. يقول الكاتب على لسان “هاني بعل”:
“أمّا عن أولئك الرومان القُساة، فتقول الأسطورة التي لا أؤمن بها لأنها مجرّد أسطورة، إنَّ طفلاً وطفلةً رضيعين مُتخَلًّى عنهما، كانا مُلقَيين تحت شجرة وارفة الظلال، فمرّت بهما ذئبة في الغابة، وبدل أن تنهشهما وتلتهمهما أو تأخذهما ليأكلهما أولادها، أنا لا أعرف كيف حنّت عليهما فأرضعتهما واستمرت تحنو عليهما، إلى أن كبرا متوحّشَين بين الناس والذئاب، فاتّخذا لهما اسمَي رومولوس وريموس. ومع الوقت تضاجعا فأنجبا أطفالاً وتكاثر أحفادهما، فأسّسا مدينة أسمياها روما على هضبة تشرف على نهر التيبر[…]، وتوالد أولادهما فصاروا عصابة. وعندما اتّفقوا على أن يعيِّنوا واحدًا منهم، ليكون أول ملك لروما وهو رومولوس، وذلك في حوالي العام 700 بما تسمونه اليوم “قبل الميلاد”، بينما أتينا نحن عشيرة البرق قبلهم بحوالي مائة عام، إذ وصلت زعيمتنا الملكة أليسار من صور الكنعانية إلى شمال أفريقيا، فأسست مملكة قرطاجنة على إحدى شواطئها، فوق ربوة مطلّة، وذلك في عام 818، أي أننا سبقناهم في الوصول إلى حوض البحر الذي أسميناه كنعان”.(20)
في رواية أخناتون ونيفرتيتي الكنعانية، قام صبحي فحماوي بتوظيف الأسطورة من أجل الإشارة إلى الصراع بين الخير والشر، وبين العدل والظلم. فقد صوّرت الرواية الآلهة التي عبدها الكنعانيون والفراعنة، وبيّنت وجهَين متناقضين لرمزية الآلهة. فبينما جسَّد الإله “آمون”، الذي آمن به المصريون جانبَ الشرّ والاستغلال، نجد أنَّ “آتون”، إله النّور والشمس والطاقة، قد مثَّل جانب الخير، ممّا حدا بكلٍّ من “أخناتون” و”نيفرتيتي” إلى الإيمان به، وليس بالإله “آمون” الذي آمن به المصريون. فحين يلتقي “أخناتون” بـ “نيفرتيتي” بالقرب من بحيرة الشاطئ، ويحصل الانسجام والحبُّ بينهما، يقوم بقراءة إحدى قصائده أمامها، مُظهِرًا فيها رأيه بالشمس:
ما أروع بزوغ الشمس،
حيث يندفع من قلبها الإله آتون
إلى عباب السماء،
لينير الدنيا بأكملها،
فنجد عيدان الزرع، وأغصان الأشجار
تهبُّ كلُّها له ابتهالا،
ويشرئبُّ له الضّرع تضرُّعًا،
فيطفح حليبًا
يتدفق نحو الجداء الصغيرة،
ويشربه رعاتها الكبار،
تجدينها تتألق في الفضاء الرّحب،
فتمنحهم النور والحياة..
وهذا التضرّع ليس عبادة لآمون
الذي يضرّ ولا ينفع،
بل هو تضرّع لمن يُجري الحليب في الأضرع..
وعبادة لمن يُجري الدّم في العروق،
ولمن يُبزغ الأوراق من بطون نباتاتها،
ويدفع الثمار،
لتبتلج من أعناق أوراقها،
ويُشكّل الحبوب في ثمار النباتات.(21)
من قراءتنا لقصيدة “أخناتون” السالفة، نلاحظ تمرّده على معتقدات المجتمع الفرعوني في عصره. فقد آمن المصريون بالإله “آمون”، الذي رأى به “أخناتون” مصدرَ قوةٍ وحُكمٍ واستبدادٍ، إذ من خلاله قام الكهنة ورجال الدّين بالسيطرة على الأموال وثروات البلاد، وباتوا يتدخلون في كلّ كبيرة وصغيرة، فاستولَوا على عقول الناس عن طريق السحر والشعوذة، واختلقوا الخرافات والأوهام ونسبوها إلى الإله “آمون” من أجل ترسيخ أفكارهم ونشر الفساد السياسي في البلاد.
لقد آمن “أخناتون” أنَّ الإله “آمون” لا يضرُّ ولا ينفع، وأنَّ الناس مخدوعون به، فيعبدونه من غير بصيرة ولا هدىً. كلّ ذلك بسبب الكهنة ورجال الدّين الذين أوهموا الناس بهذه العبادة، فجعلوا من ذلك مطيّة لتحقيق أهدافهم ومنافعهم الشخصية. بناء على ذلك، يقوم “أخناتون” بالدعوة إلى عبادة الإله “آتون”، الذي يجسّد الخير والنور والمحبة، كبديل للإله “آمون”، الذي يجسّد الشر والاستغلال. يقول “أخناتون”:
أيها الربّ آتون
أعطيتنا الحياة بدل الموت
والحرية بدل أغلال الشّعوذة
والجمال والحق بدل الفساد والاستغلال
لقد أشرقَ نورُ آتون
كالإوزّ البريّ الطائر في الفضاء،
كالحصاد في الحقول
كأزهار اللوتس الزرقاء والحمراء والزهرية
كنباتات البردي
البساطة والصدق هدفي
الجرانيت الأحمر وصل من أعالي النيل
سنبني “مدينة الشمس”.(22)
يصوّر المقطع السالف مدى تعلّق “أخناتون” بالإله “آتون”، الذي يرمز إلى الطبيعة بكل ما تحتويه من سحر وجمال وحرية. وتجسيدًا لهذا الأمر، قام الزوجان “أخناتون” و”نيفرتيتي” ببناء مدينة آتون، بعيدًا عن العاصمة الفرعونية طيبة، التي ترمز إلى الصراع على الحكم، وإلى تسلّط الكهنة ورجال الدين على البلاد. ففي خطابه أمام المصوّرين والرسامين والنحاتين، طلب “أخناتون” منهم أن يرسموا الإله “آتون” بصفته أشعة الشمس، ومصدر الطاقة التي تهب الحياة للبشر. كما بيّن لهم أنَّ “آتون” هو ربّ الحبّ، لِما له من قدرة على إخصاب الأزهار والحيوانات. فالطاقة الحرارية التي تنبعث من “آتون” هي التي تخلق الذكر والأنثى، والتي تدفع بحرارة الحُبّ بينهما، سواء أكان إنسانًا أو حيوانًا أو نباتًا. من أجل ترسيخ دين “آتون”، طلب كلّ من “أخناتون” و”نيفرتيتي” إزالة الفنون والتماثيل التي تُمَجّد “آمون”، ربّ العذاب والنار، وذلك لإعطاء فرصة لانتشار الدين الحقيقي؛ دين المحبة والنور، بدلاً من الحقد والعقاب والشرّ.
فلسطين 48