انت هنا : الرئيسية » الواجهة » طُرْفَةُ صَدِيقَتيَ الخَالة

طُرْفَةُ صَدِيقَتيَ الخَالة

 

  الكاتب علي الجنابي – بغداد

 صديقتي خالتي تزورني كلَّ حينٍ وإذ الوَجهُ فيها مزخرفٌ بوشمِ وقَسَماُتُهُ مُتَوَرِّدةٌ من بهاها. إنَّها أرملةُ رغيدةٌ وسعيدةٌ وماليَ من خالةٍ سواها، وتملكُ طرفةً وحيدةً وفريدةً وما لها مِن طرفةٍ عداها. تزورني هيَ لتنالَ رضايَ وهي الكبيرةُ وقليلاً ما أزورُها ولا آبهُ لرِضاها، بيدَ أني وطاعةً لأمرِ الرَّحمنِ بِصِلةِ الرَّحِمِ، زُرتُها في فناها ليسَ رَوْمَاً في رُباها ولا حَوْمَا في حماها ولا عَوْماً في عَماها، بل لأنالَ حسنةَ صلةِ الرَّحمِ مضاعفةً في جزاها.

أجل، زُرتُها…

   زرتُ خالتي ذاتَ الإشراقة في المُبتَسَمِ، ذاتَ انشراحة في الصدرِ تٌزيّنُها، والَوجهُ بِبَشاشةٍ مُرتَسَم، فوجهُها مُزَخرَفٌ ويداها والقدمانِ بِفَيرُوز مِن وَشَمِ. 

نَديَّةٌ هي وبعُقودٍ ثَمانيةٍ وذاتُ نَكهةِ ريفٍ حَنونٍ أَصيلٍ أشمّ. أنا أصَغرُ منها بِثلاثةِ عُقودٍ، ومُغرَمٌ أنا بطُرفتِها الفريدةِ المريدة رغمَ ظُلمِها والسَّأم.

  خالتي لا تَعرِفُ الكبائِرَ إلا حظَّاً من لَمَمِ. نصفُ قرنٍ مكثُها في بغدادَ عرينِ عِزّةٍ وعنفوانٍ وقمم، وقرينِ مَعَزَّةٍ وصنوانِ دكَّانِ  الكَرمِ، ومَا فارقَتْ خالتي 

نَكهةُ الريف بل هي صِبغتُها وهي الأصلُ عِندَها  والمُعتَصَم. ولقد أقسَمَتْ ليَ أنَّ صِبغاً ما وَطِىء يوماً أظفرها ولهُ ما دَهَم، وأنَّ اُذُنَها كانَت دوماً في 

صِراعٍ مع غثِاء من نَغمِ.

وإنَّكِ لئن ٱسْتَدْلَلتِ عن دارِ صَديقتي الخَالة، سيقولون:

آوه! سَنَدُلُّكِ، أَوَ تَقصِدينَ بَيتَ تِيكَ المَحجُوبة المُحتَشِمِ؟ وماعلِموا بطُرفةِ خَالتي وقد سَمِعتُها مِنها عَدَدَ الشِّهابِ والنجمِ وعددَ ما على الأرضِ نَجَم. طرفةٌ 

عَتيقةٌ أقدمُ من توت عنخَ آمونَ ومِن كُلِّ تأريخٍ وقِدم. طُرفةٌ ثُقلُها طوى سجلَّ (غينيس)  وما حوى في سجلّاتِهِ من رَقَم. ومَا فَتِأت تَقذفُني بها كلَّما زُرتُها 

طَلباً للأجرِ وَلمزيدٍ من النِعَمِ. وقد قَصَفَتني بها البارحةَ غَفرَ اللّهُ لِكلينا وأعاذَكم من شِرذماتِ الهَرَمِ. تَقصِفُني هي، فَتُقَهقِهُ هي وَحدها بِقهقةٍ مُتَسارعةٍ كَأنَّها 

تَقذِفُ بالحِمَم! فَلا ينفعُ معها ساعتئذٍ تَجاهِلٌ ولا لَجَم، ولا يدفعُ تَخاصُمٌ ولا حتى القَسَم. ولا يشفعُ إن رَماها جَليسُها بسَهمٍ من شَتم. ويكأنَّ ضِحكتَها بركانٌ لن 

يهدأَ إلّا بعدَ هَزيمةِ خافِقِها وإفرَاغِهِ من الزَّخَم.

   والحقَّ أقولُ؛ إنَّ خالتي لا إثمَ لها، بلِ الإثم أثمُ جَليسِها أنَّهُ تَجَرَأ ولأَهوَالِ طُرفتِها اقتحم.

 وإنَّما سِرُّ غَرامي كامِنٌ في لَذَّةِ سردها المُمِل لِطُرفتِها المُدَمدٍمِ المُشَرذَمِ ذي القَهقَهاتِ المُكَبكَبةِ والدُّموعِ المُصبصبةِ وبأكتافٍ مُذَبذَبةٍ تَرقُصُ معها خدودُها 

وخاصرتُها بطياتِ الشَّحَم. وعَجبي!

إنَّها لا تُبالي بِمَن أحاطَها، أضَحِكوا معها أم اُصيبوا منها بِقَهرٍ أو بِسَقَم.

مُحَدِّقٌ أنا بِبَصري نحوها، ونَاظرٌ بوَجهٍ باسِرٍ آسِرٍ بسَأم:

 “أوَ يُعقَلُ هذا منكِ يا خَويلة”!

ثمَّ أرَانيَ أنجَرِفُ مُقَهقِهاً مع شَلالِ قَهقَهاتِها، وتَائِهاً ما بينَ عَجَبٍ ونَدَمٍ. وثَمَّ أختِمُ جولتي بمَلامةٍ على زيارتي لها وبوابلٍ من شَتَم.

 صَديقتي الخالة عجوزٌ نديّةٌ نقيةٌ تقيّةٌ لأنّها بقيّةٌ لجذورِ زمانٍ من هُناك، من…

زَمانِ الطِّيبِ والنَّقاهةِ وأطيافِ الشَّجَن.

زَمانِ البَسمَلةِ والحَوقَلةِ، والتَّوَكلِ والسَّكَن.

زمانِ العِزَّةِ لِلرُوحِ وجَبيِنِها والشَّاربِ واللَّحىً.

زمانِ العُنفوانِ رَغمَ كلِّ داءٍ وبلاء ورُغمَ كلِّ استياء وحَزَن.

زمانٍ يَقشَّعِرُ بَدنُهُ مِن نفخاتِ غِلٍّ وذُلٍّ ومن لفحاتِ عريٍّ ولَّعَن.

زمانٍ أسُّهُ مُكَرَّمٌ بلسانِ الضّاد وحسُّهُ مُحَرَّمٌ عن كلَّ حِسانٍ بِلَحَن.

زمانٍ يَبغُضُ كلَّ بليدٍ وقرفٍ هزيلٍ وَيرفُضُ كلَّ تقليدٍ للغرب رذيلٍ حتى بِصُندوقِ الكَفَن.

ذاكَ زمانٌ ما غَرَفَ من (حاسوبٍ)، ولو عَرَفَ فغَرَفَ لما انحرف ومَا انصرف بل لأزدادَ تَشَبُثاً بصَحراء الوَطَن!

  أعلمُ ألّا رَغبَةَ لأحدٍ لِسماعِ طُرفَتِها. نعم، لكنّي سَأتلُوها وما لأحدٍ من محيص، انتقاما من خالتي بِفَضحِها في “الصَّوتِ الآخر” علناً وبلفظٍ رخيص، فصبراً جميلاً على طنينها العويص، ولنستمِع إليها بعد تشذيبٍ منّي وتهذيبٍ وتلخيص، قد أبقى على جثمان الطُّرفة هوَ هو فلا تقليص فيه ولا منه تنقيص. قالت صديقتيَ الخالة:

  { أنصِتْ يا خُوَيل.. أتدري ما قالتِ العجوزُ للجابي إذ جلست ببطنِ طسْتٍ لها دَاخلَ حافلةٍ لمَّا طَلَبَ الأجرةَ مِنها ؟ لقد رَمَقَتْهُ العَجوز بنَظرةِ من عَجبٍ ورَدَّتْ من فورِها بردٍّ قد وَجَب: “ليُسامِحُكَ اللهُ بُنَيّ، أفي طَستي أنا قاعِدةٌ أم أنا في حَافِلَتِك صاعدَة!}.

لا تَضْحَكوا رجاءً فذاكَ ثأري الذي أفضحُ بهِ صَديقتي الخالة.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى