زهير فخري: القصَّة القَصيرة بالمَغرب والتجريبُ الراسِخ.. النّاقد عُمر العَسري يُشرّح عَوالِم أنيس الرافعي القصصية
زهير فخري/ المصدر:رأي اليوم
-1-
“القصة والتجريب”(*) كتاب نقدي قيّم رافق فيه الناقد عمر العسري، عبر سبعة فصول، تجربة لافتة في كتابة القصة القصيرة بالمغرب، هي تجربة القاص أنيس الرافعي. وبهذا الكتاب يضعنا الناقد أمام مغامرتين اثنتين: مغامرة في القول القصصي سِمتها التجاوز والتخطي يذهب بها صاحبها إلى الأقاصي في تجريب مذهل، ومغامرة نقدية علمية ينصت من خلالها الناقد عمر العسري إلى ذبذبات هذه النصوص القصِيّة ويقيس سقف المغامرة فيها ويقف عند تحولاتها المستمرة وهويتها الأدبية غير المستقرة. يجد الناقد نفسه أمام تجربة جديدة في الكتابة (أحب أن أقول) استباقية لا أساس ثابتا تقوم عليه، تجربة تفتح جبهة لا هوادة فيها على “السلف” من أجل “التأسيس لنص مضاد يصفي حساباته مع أشكال المنجز القصصي السابقة”، وهذا ما صرح لي به القاص أنيس الرافعي في حوار معه قبل ثماني عشرة سنة (2004) في “القدس العربي” (1)، ثم وبنفس القسوة يفتح جبهة على الذات أيضا حتى تكون هي هي لا غيرها. لهذا فهو يتجاوز ذاته باستمرار متنقلا من شكل تجريبي إلى آخر، حتى أن الناقد نجيب العوفي وصف الكتابة لديه بأنها نوع من “الطوارئ القصصية”. أمام تجربة بهذا الغنى وبهذه الجدة، تتسلح دراسة الناقد عمر العسري بالجرأة لاقتحام عالم بدون أصول (إذا جاز لي القول)، عالم يتحول باستمرار ولا يستقر على حال حتى إن القبض عليه يصير مستعصيا استعصاء القبض على الماء.
لقد دخل الناقد عمر العسري هذه المغامرة من باب المعرفة العلمية بسياق التحولات التي عرفها جنس القصة القصيرة بالمغرب، ومن باب المواكبة الحثيثة لتجربة القاص أنيس الرافعي التي يتمثلها ويعرف مستضمراتها وخباياها هو الذي واكبها أولا بأول.
-2-
يفتتح عمر العسري دراسته لمشروع القاص أنيس الرافعي بالحديث عما أسماه “طفرة مثيرة” طبعت المشهد الأدبي بالمغرب بطابع فريد ولافت. طفرة بدت ملامحها واضحة في المنجز القصصي المغربي الجديد الذي بدأ يتحرك خارج دائرة المعروف والمتداول ليصنع مزيته الخاصة التي لا تبنى إلا بالهدم المستمر، باعتبار أن “كل فعل من أفعال الإبداع هو في المقام الأول فعل من أفعال الهدم”، وتلك قولة لبيكاسو استرشد بها الناقد عمر العسري واستدرك بعدها مباشرة أن عملية الهدم تلك لن تكون إلا “بغاية اكتشاف أشكال جديدة ورموز جديدة ونماذج جديدة يمكن أن تشيد عليها حياة جديدة محتملة الوجود” (ص 9). إن جدلية الهدم والبناء المقصودة هنا هي تلك التي يمكن أن تتأسس على رؤية جمالية ترى إلى التجريب في الكتابة القصصية بوصفه وسيلة وترى إليه، في الآن نفسه، بوصفه غاية. وبكل تأكيد، فخلاصات هذه الرؤية الجمالية ستفضي إلى نصوص قصصية تجريبية لم نعد معها “نبحث عن الواقعي، أو التاريخي، أو عن الممتع، ولكن بدأنا نألف أسلوبا قصصيا جديدا متعلقا بأدنى عناصر الارتباط بالسرد القصير، ومنفتحا على كل الجماليات باعتبارها سندا تخييليا” (ص11)، وتوضيحا لهذا الرأي أو اختزالا له، نقول مع القاص أحمد بوزفور إن “الكمال والفائدة في الفن (عموما) وهمان كلاسيكيان لم يعد أحد يصدقهما” (2).
وبالمجمل فنحن، مع تجربة القاص أنيس الرافعي، أمام نصوص فارقة تُتعب عقل القارئ (ولعل هذا واجبها) وتروضه على تقبلها ككتابة جديدة لا قبل للتصنيف الأجناسي السائد بها، كتابة متحولة على الدوام، نعدها مع الناقد عمر العسري “تمثيلا واعيا للسرد المتعدد في مقابل السرد المثالي الثابت” (ص 10). وليس غريبا والحالة هذه، أن تعلن كتب أنيس الرافعي القصصية على أغلفتها عن هوياتها المتحولة التي لا قبل للقارئ بها، وليس من الغريب أيضا أن تأخذ الأخيرَ (القارئ) الدهشةُ وهو أمام تصنيفات غريبة من مثل: “تمارين قصصية” أو”استخطاطات قصصية افتراضية” أو”تعاقبات” أو”ملاحظات قصصية” أو”متتاليات ما بعد سردية” أو”قصص مينمالية” أو”قصص صوتية” أو”مراجع بصرية” أو”طقس قصصي” أو”دليل حكائي متخيل” أو”فوتوغرام حكائي” …إلى غير ذلك من التجنيسات المبتكرة والغريبة. وتبعا لطبيعة القصة التجريبية عند الرافعي التي تتجدد وتتحول على مدار القص (في مغامرة بسقف عال)، فإن الاقتضاء المتطلب هنا هو “أن ننظر إلى نصوصه القصصية نظرة اعتياد جديدة وإضافة استثنائية” (ص12).
وقد تعقّب الناقد عمر العسري هذه المغامرة الإبداعية بمغامرة نقدية موازية حفر من خلالها عميقا في عوالم القاص أنيس الرافعي، وخبر موضوعاته واختياراته الجمالية. وقد رأى في هذه التجربة ما لا يراه إلا ناقد فطنٌ، منتهيا إلى خلاصات باهرة ضمتها سبعة فصول على ضوئها نتبين عناصر الإدهاش والغرابة في هذه التجربة الفريدة.
-3-
يقربنا الناقد عمر العسري من عوالم أنيس الرافعي من خلال عمل تشريحي يقف على تموجات جسد القصة القصيرة لدى الأخير، ويصف عناصر الدهشة فيها ويستخرج “قوانينها” الجديدة التي ليست هي هي في كل ما يكتبه، إذ الأخير يعمد إلى تقويض هذه القوانين فيما يبتدع أخرى قابلة بدورها للهدم والنقض تبعا لما سنه و”التزم” به في “دفتر تحملاته” الذي يجعل مشغله (يقول لي في حوار ثان في جريدة الاتحاد الاشتراكي) “يعرف على الدوام حراكا وتعديلات دينامية في المواد السردية التي يُبنى بها معمار كل كتاب قصصي على حدة (…) لأن التجريب إذا اكتمل صار بدوره كتابة تقليدية” (3).
يلتفت الناقد عمر العسري في المقام الأول إلى مسألة الغرابة التي تغطي مجموع كتب أنيس الرافعي بدءا مما سماه “توصيفات إبدالية لجنس القصة” ويقصد بها ما درج القاص الرافعي على فعله وهو يجنس نصوصه تحت مسميات غريبة، وهي التوصيفات التي “تنبئ عن وعي خاص نابع من مشروع كتابي يروم تجاوز السائد وخلق غرابة بين المتلقي والنص” (ص17)، مرورا بالاشتغال المضني على اللغة الذي تلخصه مظاهر اللعب الاستعاري الذي يذهب إلى مداه، حيث المجاورة بين مفردات لا تتجاور إلا في السياقات الغريبة وحيث الذهاب بالتراكيب إلى اللامنطق الذي به يتحقق عنصر الإدهاش، مثلما في الفقرة التالية ” كنت أرغمه على الاستلقاء بطاعة موظف بلدية ولساعات طوال مترهلة كثدي عجوز أركيولوجية للإنصات إلى موسيقى صاخبة من ذلك النوع القادر على فقء معدة الساكسوفون، أو على السقوط عموديا في سطور وعوالم مؤلفات مرعبة لكتاب معقدين ومنحرفين يعجزون بشكل مزمن على الإطلال من فوق كتف الحياة بتفاؤل كبير” (ص 22)، هذا بالإضافة إلى إيراد خصائص أخرى لا ينتبه إليها القارئ العادي وهي مميزات داعمة للنص التجريبي لدى أنيس الرافعي، وضمن هذه الخصائص أنماط من الحكي جديدة وقف منها عمر العسري على ما أسماه “الحكي بالاستنتاج” و”الحكي بالتكرار” و”الحكي بالتجريد” و”الحكي بالتناسب”… إلخ، وكلها أنماط حكي لافتة أفرد الناقد لشرحها نماذج من المتن القصصي لأنيس الرافعي أضاء بها ما قد يلتبس على القارئ ويستغلق. واستمرارا في عد مميزات التجريب في القصة عند الرافعي يورد الناقد عمر العسري إمكانات كثيرة من خارج مجال الأدب، يستثمرها (القاص) لإثراء نصه القصصي، ويتعلق الأمر ب”لغة العين” المعتمدة في كتاب “اعتقال الغابة في زجاجة” باعتبار الأخير كتابا قصصيا يستدعي الخطاب السينمائي ويوطد به رهانه التجريبي. وقد بدا هذا الكتاب للناقد “أثرا سرديا يتمثل لقطات ومشاهد بصرية مستقاة من أفلام عالمية” (ص39). ولا يعدو هذا التوسل إلى اللغة البصرية أن يكون من الحيل الذكية التي يركبها أنيس الرافعي من أجل تقوية ما أسماه الناقد عمر العسري “الكتابة بالصورة”، وهو ما يخول الحديث عن خصيصة اختراق الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية والفنية.
يركز الناقد من جهة أخرى على ملمح ذي أهمة قصوى لجدته من طرف، ولصعوبة إنجازه من قِبل أيٍّ من كتاب القصة من طرف آخر، ويتعلق الأمر بمعمار المجموعة القصصية التي ليست (بالنسبة إلى أنيس الرافعي) مجرد بضع قصص متناثرة تجمع كيفما اتفق بين دفتي كتاب، بل إنها، يقول عمر العسري، “تخضع لبناء خاص (…) وتنتهج مفهوم التصور التفاعلي للنصوص الذي يسمح برصد التجاوب القائم بين قصص المجموعة، وحدود التفاعل المتحقق بينها وبين كل بنية مستدعاة” (ص48)، وفي هذا السياق يتحدث الناقد عن مفهوم “وحدة الرؤية” الذي يؤطر مجموع مواد الكتاب القصصي.
ولم يفت عمر العسري في كتابه النقدي المحكم أن يقف عند علامات أخرى وسمت الكتابة القصصية لدى أنيس الرافعي ودعمت خياره التجريبي، مثل ملمحٍ سماه “العجائبية التاريخية” وهو ملمح متأتٍّ من ارتباط التخييل لدى الكاتب بأحداث الواقع، حيث “يستعين الحدث المتخيل بالحدث الواقعي” (ص62)، إضافة إلى ميسم التصوير الفوتوغرافي (خاصة في كتاب “مصحة الدمى”) وهو مظهر آخر به يعمد القاص، الذي برع في الوصف تسجيلا وتوثيقا، إلى ما وصفه عمر العسري ب”إعادة تأهيل القصة بصريا”، فضلا عن تجليات أخرى تحيد بالنص القصصي المعني بالدراسة عن الدأب الجماعي المعروف فتنأى بنفسها عن المألوف وتجعل المتداول عجيبا، بل وتسهم في “تصدع البنية السردية” مثلما انتبه الناقد إلى ذلك من خلال وقوفه عند كتاب “خياط الهيئات”، الذي يخرق فيه القاص أنيس الرافعي مواضعات الكتابة القصصية منطلقا من “نزعة ما وراء السرد أو ما وراء القصة أو الميتاقصة”، ويستثمر فيه، علاوة على ذلك، مفاهيم ومصطلحات من مجال مغاير عن مجال صنعته، وهو نزوع، يرى الناقد، “ينأى بالسرد إلى جغرافيات غير سردية” (ص84)، مثلما يتوافر في الكتاب المذكور الكثير مما يعزز خصوصية الكتابة عند أنيس الرافعي ويؤشر على فرادته وروحه الانقلابية الخلاقة.
هذا غيض من كثير مما ورد في كتاب الناقد عمر العسري “القصة والتجريب…” بشأن تجربة قصصية غير مسبوقة ويُشهَد بفرادتها. ولأنها كذلك، يحق لي اعتبار الكتاب المذكور مغامرةً وتحديّاً من أجل ابتكار المعنى ومن أجل ابتكار أدوات اشتغال نقدية جديدة. وقد كان لعمر العسري بهذا الكتاب قصب السبق في ذلك.
(مغربي مقيم بالنرويج)
——-
هوامش:
(*) عمر العسري، القصة والتجريب، مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2019.
(1) أنيس الرافعي، (حوار زهير فخري) القدس العربي. عدد 4571، 2004 – فبراير.
(2) أحمد بوزفور، الزرافة المشتعلة (ص127)، شركة النشر والتوزيع- المدارس- الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2000.
(3) أنيس الرافعي، (حوار زهير فخري) الاتحاد الاشتراكي، في 21 -04-