قصة قصيرة : بائعة الهوى
بقلم زيد عيسى العتوم
قرب نهرٍ صغيرٍ يشق تلك الغابة الكثيفة, وحوله قرية شاءت الأقدار أن تجتمع أكواخها القديمة طمعاً بمائه العذب, وتحت ظلال جبل تنحني قمته الملبّدة بصخورها البيضاء المسنّنة, وطيور لا تنفكّ عن التأرجح بين فوهات المواقد العاشقة لدخانها المتصاعد, وحول ساحة يتراكض فيها بعض الفتية للإمساك بدجاجة يغمرها الخوف ويصرعها الجنون, تترامى أصداء ضحكاتهم بينما ترمقهم الأشجار بنظراتها الحانية, تستجدي نسمات يومها لتهزّ أوراقها حتى تسامرهم في لعبتهم تلك, كان يسكن المزارع ذو الشعر المجعّد وزوجته السمراء البدينة وثلاثة من أطفاله, وصوت زوجته لا يخلو كعادته من التذمّر وسوء الحال, وبقربه بيت رجل تثقله الكهولة ويصبغه لون الطحين ببياضه كرجل الثلج, يعمل خبازاً وبالكاد تكفيه أرغفته القليلة لعيش أبناءه بعد موت زوجته قبل بضعة أعوام, وليس ببعيد عنهم بيت من ساكن الوحدة واستمرأ الهدوء, رجل فارقه آخر أبنائه بالسفر بعيداً, لا يعلم عنه أي شيء, يقضي جلّ يومه بالصلاة والتعبّد, لا يعنيه عبث العابثين ولا انشغال الآخرين, تكفيه دراهم أرضه المؤجرة لزراعة القمح وربما تزيد, فكلّ شيء تحسبه عيناه بأنه مجرد زائل, وعلى الضفة الأخرى من النهر يقبع أصغر واغرب تلك الأكواخ, تفوح منه رائحة الأبخرة المحروقة, ولا يقربه سوى من قهرته الكآبة ورغب باستراق النظر صوب مستقبله الموعود, كان مشعوذاً صدّقه البعض وأنكره الآخرون, وقصَده ضعفاءُ وأشقياءُ القرى المجاورة طمعاً في شفاءٍ أو ثراءٍ قد يحمله القدر يوماً, أما أبعد تلك البيوت فهو ذلك الكوخ المسيّج بقطع الأخشاب المائلة, تعلوه قطعة مدببة تلتفّ صوب وجهة الريح أينما شاءت, وفي فناءه الكثير من الزهور الملونة, كان أهل القرية يمقتون ذلك المكان وربما يتناسونه بسبب بعده وانكفاءه عنهم, ويخشون الحديث عنه في حضرة صغارهم, فقد كانت تسكنه فتاة في منتصف عقدها الثالث, كانت جميلة الوجه رشيقة القوام, عادة ما تمتطي على أكتافها قطعة ناعمة من الفراء الأسود, وتبدّل أحذيتها اللامعة في كل يوم تعبر فيه ساحة القرية لشراء بعض الأرغفة, ويتناثر عطرها فيعتلي رائحة الخبز ويملأ المكان, إنها بائعة الهوى.
لقد كانت نظرات الاشمئزاز وقسمات القرف لا تفارق من يرى تلك الفتاة, لم تكن تعبأ بهم ولا تطيل النظر الى وجوههم, بينما لا تفارقها تلك الابتسامة الغامضة, والتي قد تُفلح برؤية طفلٍ قبل أن تشده يد والدته الغاضبة حينئذ, لكنّ لنظراتهم ما يؤرقها ولأنفسهم ما تخفيها, فالمزارع يحاول النظر اليها خلسةً يرقب حُسنها, ثم يُزيح وجهه عنوةً وهو يندب حظه المتعثر بزوجته شديدة البُعد عن الجمال, والخباز ينتظر في قرارته قدومها اليه كلّ يومين أو ربما ثلاثة للتزوّد بالخبز, ويسأل نفسه بحرقة عن بقاءه وحيداً بعد رحيل زوجته التي أفناها المرض, ثم ينظر اليها بلا اكتراث وربما بغضب, ويبعد يده المعفّرة عن يدها المعطّرة ما أن يلتقط النقود منها, أما الرجل المتعبّد فيتمتم بالدعاء عند رؤيتها راجياً ومتمنياً أن لا يصادفها مرة أخرى, فهي كما يراها تغرق في الخطيئة وتنأى بنفسها عن الصواب, ويبقى المشعوذ الذي قليلاً ما يبرح بيته ونادراً ما يراها وكأنه لا يراها, كونه لا ينفكّ عن التأرجح بين الحقيقة والوهم جيئة وذهاباً, فهو بعيد عن عالم الجميع أشد البعد, سوى من بضعةٍ من الحجارة التي تُقذف نحوه من بعض الفتية وهم يستهزئون به عند رؤيته.
بمرور الأيام وتوالي الفصول أخذ حال القرية يزداد بؤساً, ووتيرة الحياة تزداد تقهقراً, فالغيوم المثقلة لا تقترب والأمطار لا تسقط, وسنابل القمح لا تقوى على مقارعة العطش او حتى مهادنته, ومياه النهر تتوالى ضحالتها ازدياداً حتى تكاد أن تجف, ومؤونة عيشهم تكاد أن تنفذ حتى تكاد خزائنهم أن تفرغ, جلس المزارع قرب حقله فاقد الحيلة, والخباز متكئ أمام مخبزه لا يدري ماذا يفعل, والمتعبّد يوصل الليل بالنهار يرتجي رحمة السماء, والمشعوذ يرتجف أمام بخوره الذابل, رفع الخباز رأسه الى الأعلى ثم أنزلها مرة أخرى, كانت بائعة الهوى تقف أمامه وظلها يغطي احمرار وجهه وجفاف فمه وقطعة من السيقان الجافة ينقش فيها أمامه….
بائعة الهوى: أعرف أن ما سأقوله ربما لن تتقبله أنت وغيرك, ولكنني أملك الكثير من الطحين المخزّن في بيتي, لنضع نظرتكم اليّ جانباً, ليس ذلك مهماً الان, أتمنى أن تُبلغ الجميع بأنه يمكنهم أخذ حاجتهم من الطحين متى ارادوا
وقف الخباز بسرعة, وأخذت شفاهه تترطب فرحاً بما سمع, ونادى للجميع أن يأتوا في الحال, فهرع الجميع اليه يحيطون به وبها في تلك الساحة التي ما عادت خالية وقتها, وأخبرهم بما سمع قبل قليل, ثم استدار نحو بائعة الهوى…
الخباز: لست أدري كيف أشكرك يا سيدتي, هذا لطفٌ وكرم كبير منك, وأنا اعتذر عن أي شيء اقترفته بحقك يوما ما
المزارع: وأنا أيضاً ممتنٌ لعطاءك, فنحن جميعاً في قرية واحدة, وإن شئت فسأعتني بحديقتك متى اردت
المتعبّد: يا ابنتي, واسمحي لي أن أقول لك ابنتي, إن مد يد العون للآخرين تقدّرها السماء كثيراً, والسماء لا تنسى أهل الخير من خيرها
ابتسمت بائعة الهوى ولم تتحدث شيئاً, وتبعها الجميع نحو بيتها كباراً وصغاراً, فقدّمت لهم ما يحتاجونه لخمسة أيام, وأخبرتهم بوجود المزيد إن بقيت الأمور على حالها, وبعد انقضاء تلك الأيام عاد الجميع يطرقون بابها, بينما كلمات المودّة وعبارات الامتنان لا تبرح حناجرهم, فأعطتهم ما يكفيهم لخمسة أيام أخرى, وقبل المغادرة وقفت بائعة الهوى من خلفهم
بائعة الهوى: أرجوكم اسمعوني قليلاً, لقد اعطيتكم معظم ما لديّ من الطحين, وأبقيت القليل الذي سيكفيني وحدي بعض الوقت, وعدا ذلك لم يبق لدي المزيد, يحزنني ذلك, لكنها الحقيقة فلا تعتمدوا عليّ بعد اليوم
بعد أيام لم تتجاوز أصابع القدر, ولم تخرج من رحم الخشية والضيق, كانت طرَقات خُطى بائعة الهوى تمخر عباب تلك الساحة التي فرغت من ضجيجها, وتصمت عاجزة أمام غدها, لم يكن فيها سوى بضعة رجال يقصّون بؤسهم ويروون خوفهم, اقتربت بائعة الهوى منهم وحيّتهم, لم يُحيّوها ولم يأبهوا بها, بل تجهّموا لرؤيتها, اقتربت منهم أكثر فأكثر..
بائعة الهوى: هل أنتم غاضبون مني؟ صدقوني لست أملك المزيد, وأنا اشاطركم الان ما تشعرون به
الخباز: لا تقتربي منا, هيّا اذهبي, لست الا مجرد قذارة يكسوها العار وتلتفّ حولها الشبهات
المتعبّد: ربما لا يصلح من هو مثلك للعيش معنا, لأنك قابعة في الخزي, وأبعد ما تكونين عن الحياء
أخذت شفاه بائعة الهوى تطبق على بعضها, ووجنتاها ترتجفان لزجر دموعها حتى لا تسقط, أخفضت راسها واحتضنت ردائها, وأكملت مسيرها بعيداً عنهم, وبعد قليل تعالى صراخُ من توسّط تلك الساحة, كان صوتاً نادراً ما سمعوه, وقليلاً ما ألفوه, كان المشعوذ بشعره المترامي وذقنه المتعرج وثوبه الضارب في الارض, كان ينبئ بالخطر وربما يحمل الخبر, أحاط الجميع به دون أن يعرفوا مراده, ثم نظر اليهم..
المشعوذ: اسمعوني جيداً, أنا لست أبلهً, وانا بريء من الخبَل, صدقوني حتى تستطيعوا النجاة, لقد أخبرتني تلك الأرواح المظلمة بأنها غاضبة منكم, ولقد حبَست الماء عنكم وستمنعه أينما رحلتم, لقد رجوتها الصفح وناشدتها الغفران, فطلَبت القربان منكم وليس سواه, أن يصعد أحد قاطني هذه القرية الى قمة ذلك الجبل الرهيب, انظروا اليه جيداً, إنه وحده من سيُحيي ويُطعم أجسادكم الجائعة, وبعد الصعود لا بد وأن يلقي بنفسه من فوقه, ليكون بموته عيشكم, وبفنائه راحتكم, والا فالهلاك قرب أقدامكم كما أخبروني..
المتعبّد: كيف نصدقك وأنت تائه في الشعوذة, وقلبك يخلو من محبة السماء !
المزارع: ليس أمامنا الا أن نصدقه, إننا لا نملك خياراً آخر, ولكن من سيفعل ذلك!, ومن منا سيهرب من الموت بالارتماء بين مخالبه
الخباز: أنا اعرف من هو, وليس سواه من قد يفعل ذلك, إنها تلك الساقطة التي ساقتها الأقدار قربنا, ولا ضير إن شاءت الأقدار موتها, ثم إنها تعيش منفردة ولا بواكي لها, ولن يأبه لغيابها عن عالمنا أحد, وأنتَ من سيخبرها ويطلب منها ذلك
والتفت الى المتعبّد مثلما التفت اليه جميع من أقرّوا رجاحة ما رأى
المتعبّد: وهل تظنون أنها ستُقبل على قتل نفسها من أجلنا! إنكم واهمون
المزارع: أخبرها بأننا سنرميها غصباً إن لم تفعل هي ذلك وحدها, وأننا سنحيط ببيتها الملطّخ بالرذيلة حتى لا تفلح بالهرب منه
المشعوذ: هيّا اذهب الآن, فإنهم لا ينتظرون وقد يضيع كل شيء
وبعد قليل كانت يد المتعبّد تطرق باب غايته, وصوته يناديها على استحياء, خرجت اليه مستغربة قدومه, ثم أنزلت رأسها أمامه…
المتعبّد: لا تندهشي من قدومي يا ابنتي, نحن جميعاً نتذكر عطاءك, وقد شاءت السماء أن تخرجي من الفحش الى الطهارة, ومن الفسق والظلمة الى النور, فقد يكون الموت أنقى من عالمك الملوّث بالمعصية, وبذلك ستصبحين مثلنا وربما أحسن منا, وسنبقى نُجلّك في عقولنا وأفئدتنا مدى العمر, واعذريني يا ابنتي إن قلت لك أنك لا تملكين غير هذا السبيل, وقد تركت لتوّي الجميع وهم يُحيّونك بمحبتهم الغامرة, ولكنك…ولكنك قد تُجبرين على فعل ذلك
بائعة الهوى: لست افهم ماذا تريدون مني, أرجوك أن تخبرني
أخذ المتعبّد يخبرها بما جرى, ويمزج سمّ مقصده بعسل مفرداته, ويُنذرها إن هي عزمت الرحيل من مرقدها هذا, ثم يبشرها بنُبل مرقدها الأبديّ, سقَطت باكية تسأله الرحمة ولكن بلا فائدة..
المتعبّد: لا تحزني يا ابنتي, سننتظرك غداً صباحاً, يجب أن تأتي وأن لا تتأخري, وأرجوك أن لا تنسي جوع الأطفال وعطشهم, منذ الغد ستسكنين في أفئدتنا بدل هذا الوكر المريب, هيا انهضي يا عزيزتي
في الصباح الباكر قَدِمت بائعة الهوى وهي تمشي وترتجف سوياً, كانت تحدّق بهم طمعاً في أي شيء قد يُنجيها, لم ترتدي الحذاء ولم تلبس الفراء, أخذ الجميع يدفعونها بودّهم, ويتعجلونها بنظراتهم, وقفت عند تلك الحافة المتوحشة, كانت أنفاسها تتصاعد وأرجلها تهتزّ, أغمضت عينيها, رأت زوجة والدها تلقيها خارجاً بعد موته, وتغلق باب طمأنينتها آخر مرة, ثم رأت طائراً صغيراً أبيضاً يحلق فوقها, لم تكن تسمع صوته أو أيّ صوت سواه, فرياح الموت حينها قد غلبت كل شيء, ابتسمت له ثم ألقت بنفسها وهو يبتعد عنها, كانت اللحظات تمرّ بسرعة, وفجأة تلبدت السماء بالغيوم السوداء, ظن الجميع أن وقت الغروب قد تعجّل الوصول, أو أن حدثاً عظيماً يكاد أن يولد, أخذت الأمطار تنهمر بغزارة, والحقول تصحو من سباتها العميق, ومياه النهر ترتفع سريعاً, ركض الجميع نحو ساحتهم وهم يتراقصون فرحاً, كانت أفواههم تنفتح الى الأعلى طمعاً بمزيدٍ من التيقّن, ثم يحتضنون المشعوذ ويقبّلونه مراراً, بينما هو نفسه يكاد لا يصدق هول ما جرى.
في تلك اللحظات الفارقة كانت تلك الفتاة جاثمةً مهشّمةً تستلقي على طبقاتٍ من الأغصان المرنة, كان جسدها مبللاً بأكمله, وثوبها ممزق وأقدامها دامية, لم تمت بل أفاقت تتلمّس عالمها الآخر, وتتذوق طعم العبور بعيداً عن الدنيا كما ظنت, لكنها لم تحلق بعيداً مثلما فعل ذلك الطائر الأبيض, وبقيت روحها ترسو قرب شاطئ الحياة, وقفت متثاقلة وحاولت إزاحة شعرها المبلل عن عينيها, وقاربت كتفيها لتجعلهما يغمران رقبتها المثقلة, أخذت تنزل شيئاً فشيئاً, لا تدري هل تسعد ببقائها أم بتلك السحب السخيّة, وصلت ساحة القرية أخيراً, رأتهم يحتفلون ويحتضنون صغارهم, تعجّبوا لرؤيتها ما أن وقعت أبصارهم عليها, لم يرأفوا بها ولم يقتربوا منها, بينما عيونهم تستنكر عودتها فينكفئون بعيداً عنها, أخذت أقدامها المتصلّبة تزحف صوب بيتها, وقبل الوصول تريّثت قليلاً, استدارت نحوهم كما لو كانت ستخاطبهم, وهمست لنفسها…لقد بعتُ جسدي لكي أعيش…فهل بعتم قلوبكم لتعيشوا!…ربما تكون السماء قد أحبتني أكثر مما أحبتكم…هنيئاً لكم الخبز…وهنيئاً لقلبي الحياة!