الحياة لا تبتسم كثيراً !
بقلم زيد عيسى العتوم
في صبيحة يوم خريفيّ هادئ, يوم لا بد سأتذكره بكثير من التمعن وربما بشيء من الابتسامة, أفقت من نوم أقل ما يوصف به هو العمق الشديد, كنت كمن يغفو وهو فوق قارب بالكاد يلامس ماء نهر ٍ يزحف ببطء, أو كمن غادر الوجود ثم عاد قبل قليل, شعرت بالرضى ما أن تنبهت أنه يوم راحتي, فنزلت أثقال يومي سحلاً عن أنفاسي, ثم أدرت جسدي صوب الضوء الساطع من نافذتي المشجّرة, لم يأبه الضوء العابر لأيٍ من أوراق الشجر, فقد تساقطت اغلبها رغماً عنها في ميدان الخريف, وبقيت أغصانها تحاول جاهدة ستر سيقانها انتظاراً للربيع, أغمضت عينيّ قليلاً مستهجناً من الذين لا يعطون الخريف حقّه, فلا يرون فيه الا الكآبة والسقوط واللون المصفرّ, وينسبون خريف العمر وحشرجات النهاية الى ذلك الفصل الجميل, كانت سعادتي تغمرني بلا سبب أدركه, وابتسامتي تلازمني دون هدف ابتغيه, وكانت المياه الدافئة تداعب وجهي وأنا أتجهّز للمغادرة, فروعة ذلك اليوم تستلزم تناول وجبة الصباح في مكان يخرق العادة, عقدت العزم على لبس قميصي الأصفر, ظننته متسخاً في بداية الأمر, ثم وجدته في كامل جاهزيته عكس ما توقعت, ينتظر مرافقتي على عجلٍ واستحياء, ارتديته وهممت بالخروج متنعماً بصفاء تلك اللحظات المنعشة, وفي الحديقة كانت أكوام الاوراق المتساقطة بلونيها البنيّ والأصفر ترسم لوحات عفوية بلا فرشاة, وتصنع طبيعة لم تقربها يد فنان, ولم يشارك في كشف سرها انسان, وكانت نسمات الصباح تتبارى فيما بينها, بأن تنقل بعض الاوراق من تلك الكومة الى جارتها, ثم تهمّ غيرها بإعادة ما تيسّر منها الى حيث كانت, في مراوغة ومنافسة لا يحصيها أحد.
وقفت أمام إحدى الاشجار مستغرباً ولربما مذهولاً, فقد بقيت تلك الشجرة تحمل على اذرعها ورقة واحدة فقط, كانت تترنح لكنها ترفض الاستسلام, اقتربت منها قليلاً علني أبصر لغزها, ثم تذكرت ما قيل عنها كونها بحالتها تلك توصف بالخيانة في عيون أخواتها الاوراق, وما قيل أنها تُنعت بالوفاء في عينيّ أمها الشجرة, ابتسمت لها وقطفتها وجعلتها تحلّق الى الأعلى, وما أن امتدت قدماي أمام بيتي حتى رأيت جارتي التي ظننتها مريضة, كانت امرأة ستينية العمر تواظب على تنظيف فناء بيتها يوميا, وأحزنني اختفائها فجأة لما المّ بها, حيّيتها متسائلاً, فحيّتني مجيبة بأنها قد تماثلت للشفاء, وبأن روعة ذلك اليوم قد دفعتها لمعاودة عملها المنزليّ, أكملت مسيري في تلك الطريق أستنشق عطر الصباح بكل شغف, وأغتنم مزيداً من اللذة في كل خطوة أخطوها, واتلهّف للخطوة التي ستليها, وفجأة وقرب أحد الاسوار المنمقة والعالية, سمعت صوتاً ملائكياً يناديني بغير اسمي, التفتّ نحوه بسرعة, كان طفلاً صغيراً بيده وردة صغيرة بيضاء اللون, أظنه قد تفانى ليقطعها, القى بها نحوي فأمسكت بها وشممت رائحتها الفوّاحة, لوّحت له بكلتا يديّ وأشعرته بغبطتي لما وهبني, وبعد قليل اقتربت من المكان الذي أردت تناول وجبتي الأولى في رحابه, كان مكاناً فسيحاً ومرتباً, فيه جزء مغطى بأكمله والجزء الآخر منفتح على السماء تماماً, وفيه يتحرك الجميع كخلية يملأها النحل في ذروة نشاطه, جلست عند الطاولة المقابلة لفرن الخبز صدفة, كانت الرائحة تزلزل نهم جوارحي, وكانت معدتي تتمايل وهي تشاهد انتفاخ أرغفة الخبز في الفرن شيئاً فشيئاً, كان كل شيء شهياً, والجميع يلاطفون بعضهم بعضاً, تناولت طعامي وأنا أجترّ جمال وسلاسة ذلك اليوم, أحسست كما لو كان قد خلق من أجلي فقط, وأنني أكثر المحظوظين في تلك الساعات التي لا أرغب حتماً بانتهائها, أعدت كرسيي بدفع اطرافه الفضية اللون تحت الطاولة, وتناولت محفظتي متثاقلاً من الشبع, ليبادرني رجل سمينٌ طفوليّ الوجه أنيق الثياب, ويخبرني أنه صاحب المكان وأن ذلك اليوم هو يوم ميلاده, وأنه قد أمر بأن يكون كل شيء بلا مقابل حتى آخر اليوم, ترددت قليلاً لكني وافقت أخيراً, ولم أجد غير الوردة البيضاء التي معي أقدمها له احتراماً وعرفاناً, ثم واصلت المسير نحو مكان بيع الصحف الذي لا يبعد عني وقتها سوى بضعة أمتار, تناولت إحدى الصحف لأقرأ عناوينها, كان كل شيء فيها مفرحاً, لدرجة أنني كنت أعيد القراءة لأكلل عينيّ بما أرى, وفجأة أحسست بيدٍ تطبق على كتفي, نظرت الى صاحب تلك اليد القادمة خلسةً, كان أحد أصدقائي القدامى وأقرب رفاق طفولتي الى قلبي, لم أره منذ سنين طويلة بسبب سفره الدائم, وقد شاءت الاقدار وجادت الصدف بأن نلتقي أخيراً, احتضنته بشدة وكادت عيناه أن تدمع حباً لي, جلسنا سوية نتحادث وشرعنا بنبش ما لذّ وطاب من الماضي, انقضت الساعتان كخفقتين متتاليتين في قلب جسدٍ يتراكض كثيراً, وكان الوداع مزهراً بأمل اللقاء في أقرب وقت.
عدت الى بيتي كما لو كان يحملني بساط الريح الذي لم يشعرني بالزمان, ولم يتجرأ بسؤالي عن العنوان, نظرت الى السماء فرأيت السحب تتقلب كما لو كانت ترغب بمصافحة الشمس بعد أن غُسل بياضها عدة مرات, وصلت بيتي ونفسي تغبط نفسي في كل لحظة, ولولا أن تيقنت سماع صوت الباب يطبق مغلقاً لظننت أني أحلم, كان يومي يحتاج مسك ختامه, ويصبو حالماً الى فنجان من القهوة اللذيذة, وجلسة على شرفة بيتي أرقب فيها ما تيسّر من طلّة النهار, أعددت القهوة وسكبتها في فنجاني المفضّل ما دامت البهجة تطلب المزيد, جلست في الشرفة على مقعدي الدافئ من دفئ ذلك اليوم في خاطري وروحي, ووضعت أرجلي على حافة الشرفة ربما تحسباً لغفوة قد تسرقني قريباً, تناولت فنجان القهوة وقرّبته من فمي طمعاً في أول رشفة أبتغيها, ثم نظرت صوبه الى الأسفل, فانتفضت مسرعاً وأنزلت أرجلي بشدة, وأبعدت الفنجان عنوة عن فمي الممتعض, لقد رأيت بعوضة سوداء مقيتة تسبح راغبة او مجبرة في قهوتي التي غدت محرمة عليّ, رأيتها تتفنن بالتجديف بأجنحتها للعبور من أي طرف الى أي طرف آخر في فنجاني الجريح, كانت مثيرة للاشمئزاز والسخط, تمنيت لو تسمعني فأسألها ولا يسمعني غيرها, ….لماذا أتيتي؟…..ولماذا أتيتي اليوم؟…..ولماذا أتيتي الآن؟….هل ساقك القدر اليّ؟…هيّا أبلغيه بأن مراده قد تحقق!
كثيراً ما تطربنا الأهواء وتخطفنا الأضواء, فننسى أننا نبحر في يقين الضعفاء, ونسكب من مداد العمر ونظن أننا سعداء, نعطف الغد على اليوم كعطف اليوم على الأمس, وببريق صعودنا نحسب أننا كبار هذا الكون, وندّعي امتطاء سرجه والامساك جيداً بلثامه, ونفتح القلوب إن ابتسمت الحياة, ونغلق العيون إن لم تبتسم لنا كثيراً !