انت هنا : الرئيسية » الواجهة » فيلم الويسترن اللافت: “الأخوان سيسترز” (2018):

فيلم الويسترن اللافت: “الأخوان سيسترز” (2018):

قصة “نهاية الغرب الأمريكي وبدايات الحضارة” مع اخراج فرنسي وبعد عالمي:

مزيج من القتل المجاني وحمى الذهب والرومانسية ولعبة “القط والفأر”!

*يتناول هنا المخرج الفرنسي البارع “جاك اوديار” أشهر نوع سينمائي كلاسيكي “قصص الغرب الأمريكي”، مقتبسا القصة من الكاتب “باتريك دي ويت”(2011)، ويحولها بشغف لفيلم كاوبوي يفيض تشويقا وغرابة وطرافة ومغزى، حيث يركز على عناصر التشرد والعلاقات العائلية والحنين للاسرة والأمل، كما ادمان الكحول واوامر القتل الاجرامي بلا قيود وصولا للرومانسية والبحث عن الحب، كما انه يتعمق بفرادة في المغزى الأخلاقي والنبل والشرف والاستقامة وامكانية اقامة نظام ديموقراطي بدائي بديل متحضر في أمريكا ال1851…

*تكمن خلفية الأحداث المتواترة في “حمى الذهب” الطارئة التي سهلت مهمات الشريف حينئذ، حيث يجتمع جون سي. رايلي (المدعو ايلي)، الذي يتقن التلقائية الكوميدية الحماسية، مع شقيقه الأصغر “تشارلي”(جواكين فينيكس) الذي يتقن الهدؤ والغموض والاجرام، ونراهما يلتقيان بداية في لقطات الاستهلال المظلمة ليقومان بعملية قتل عشوائية لستة او سبعة أشخاص (ينتمون لعائلة واحدة) تحت جنح الظلام الدامس وبدم بارد وبدون التبصر بالعواقب، مع اننا لا نعرف السبب سوى انهم يلتزمون باوامر عراب غير مرئي يسمى طوال الشريط “بالعميد”.

*ثم يستمران معا بلامبالاة بأداء مهمات القتل المطلوبة في “اوريغون” خمسينات القرن التاسع عشر، وطوال  مهمتهما الاجرامية فانهما يتعاونان ويتعاركان ويتشجران بشكل عرضي كما يقتلان أشخاصا لا يعرفونهم تنفيذا لأوامر، ويتذكران حالتهما العائلية كشقيقين وذكرى قتل الشقيق الأصغر لوالدهما السكير العنيف المؤذي لوالدتهما المحبوبة، كما يسخر هذا الشقيق السكير من شقيقه الأكبر الرومانسي العاطفي…

*ومن حين لآخر تراود “ايلي” أفكار مستقبلية مهنية راقية للرغبة بالاستقرار والبعد عن العنف والجريمة، فيما يسخر شارلي دوما من هذه الأفكار، وما يلبث العميد العنيد أن يضعهما امام مهمة جديدة تتمثل بقتل مجرم هارب يدعى “هيرمان كيميث وورم”(ريتز أحمد) لأسباب ستتضح لنا لاحقا، وهو في الوقت الراهن، مجرد “مجرم خائن يستحق القتل”…وبنفس الوقت يلتقي ويتصادق موريس (جاك غيلينهال) مع “احمد” فيما يبدو وكأنه لقاء عابر، ثم يتضح ان موريس يعمل اصلا كصياد مكافآت محترف، تنحصر مهمته في تعقب الضحية وصيدها وليس قتلها!

*لكن مواهب “هيرمان” الخاصة بالتنقيب الكيماوي عن الذهب، تدعوه لكي يقترح على صديقه الجديد “موريس” تأسيس شركة ربحية تجعل الذهب يظهر بوضوح في الماء بالرغم من مخاطر هذه التجارب بحال فشلها…هكذا تتضح الخطوط المتوازنة في ايقاع هذا الفيلم البطىء نوعا ما…

*يعتبر هذا الفيلم تحفة سينمائية شيقة للعلاقات العائلية المعقدة المتوازنة بشكل جيد مع “لعبة القط والفأر” في أصقاع وتضاريس وظروف الغرب الشاسع المتوحش حيث نرى انها محاكة جيدا …وهي تدين بالكثير من سحرها النابض لتقمص “سي.رايلي” الفريد، الذي يعج بالرقة والطرافة والعواطف والنستولوجيا الخاصة احيانا، مثل طريقة تعامله الرومانسي الرقيق مع فتاة بيت البغاء، او بطريقة استرجاعه لذكرياته العائلية وظهور شبح والده المقتول بعد مرضه بالحمى الشديدة الناتج عن تسلل عنكبوت سام لداخل أمعائه عن طريق فمه (والتي كادت ان تودي بحياته وبتصوير غيرمسبوق وبالغ التشويق)، في حين يشعر شقيقه الأصغر “فينيكس” وكأنه اندمج مع شقيقه الكاريزمي في كيمياء طاغية، بالرغم من تناقض شخصيته التي تميل للهدؤ الغامض والاجرام المجاني اللانساني، فيقومان معا طوال الشريط باستعراض حالات متباينة من ” الصداقة والاخوة ووحدة الحال والتشاجر العرضي السافر”، بالمقابل فنحن نرى شخصية “جيلينهال” وكأنها أصبحت اسيرة شخصية “أحمد” الناعمة الساحرة الراقية…وكل هذه التفاعلات الثنائية المتوازنة تغذي النص السينمائي بطريقة غير مألوفة في أفلام الغرب الأمريكي، وتقدم لنا بعدا جديدا لمعنى الصداقة والاخوة العميقة في السراء والضراء، ضمن حكاية عنيفة تغذيها متطلبات العيش القاسي والعواطف العائلية الجياشة، وضمن بيئة خطرة تحفل بالدم والجشع والقتل والدببة والخيول الجامحة وكذلك العناكب السامة …

*يقدم هذا المخرج الفرنسي البارع شخصيا ت حساسة وعنيفة بآن واحد في تشكيلة عائلية “وصداقية” لافتة  تنبض بالعواطف الحقيقية الجياشة، كما يقدم وكاتب السيناريو بعدا قدريا لافتا يتمثل بنكبة “حامض الذهب الكيماوي” الذي ادى الحماس الزائد  وعدم الحرص وسؤ التعامل معه لعذاب ومقتل كل من “جيلينهال وأحمد” بعد تقطع ونزيف اوصالهما، ولنجاة فينيكس باعجوبة بعد فقدانه ليده مع بقاء ايلي سالما لأنه غادرهم لمعاينة حصانه، ومع ذلك فقد بقي الأمل مشعا بعد الوفاة الطبيعية للعميد المتنفذ، ما يعني تخليهما عن حياة الشقاء والقتل وامكانية بدء حياة شريفة حضارية تحقق طموحات الأخ الكبير…كل هذه التداعيات المتسارعة في النصف ساعة الأخير من الفيلم جعلت الأحداث تنطبع بذاكرة المشاهد المتأمل حتى بعد مغادرته لقاعة العرض…

*يعلمنا هذا الفيلم الشيق (الفريد الثيمة) كيفية خلط عناصر “المغامرة والكوميديا والجريمة بالويسترن والدراما والمغزى الحضاري الانساني” ضمن حبكة متقنة ومتجانسة ومتصاعدة، لنصل اخيرا لنهاية سعيدة تتمثل بعودة الشقيقين لبيت العائلة العتيق وللقاء الوالدة العجوز المكافحة المعزولة الصامتة دوما والصامدة هناك،  ليمارسا بشغف وحنين ذكرياتهما وليستعيدا طفولتهما الغابرة، المتمثلة في “النوم والأكل والاستحمام”، وليضغطا برقة على الحنين العذب لوعي المشاهد الحساس الذكي، الذي يشاركهما ربما نفس نمط الذكريات بتداعي خيالات شيقة لأيام الطفولة السعيدة وبدايات المراهقة..

*كما تكمن روعة هذه النهاية السعيدة بحدوث “موت طبيعي” مهيب لزعيم العصابة “العميد”، مما يقودهما تلقائيا للتوقف عن لعبة القتل والانتقام التي كان يؤججها لمصلحته، مما حقق لهما أخيرا امكانية السماح ببدء حياة مدنية مهنية مسالمة في اجواء متحضرة مستقرة كما كان يحلم “ايلي”، وتتمثل الطرافة هنا باقدام “ايلي” بلكم هذا الميت “الطاغية المجرم” في نعشه المهيب داخل منزله الباذخ وهو مسجى بلا حراك، وكأنه لم يصدق انه اختفى نهائيا من المشهد!

مهند النابلسي/كاتب وناقد وباحث سينمائي/

عن الكاتب

عدد المقالات : 1618

اكتب تعليق

الصعود لأعلى