ميتروبوليس: أول فيلم خيال علمي في تاريخ السينما/1927!
*تحفة خيال علمي فريدة للألماني فريتز لانغ (1927) مع تصميم انتاج مدهش ومؤثرات غير مسبوقة، والمزيد من الجنس والعنف، وتمثيل عظيم أيقوني، ومشاهد انسيابية فنتازية خلابة، وقد انتجته الشركة الألمانية “اوفا” العملاقة ذات الاستديوهات الفخمة، لقد أثار الفيلم الأيقوني جدلا كبيرا حوله، ولكنه كان كارثة لمبيعات شباك التذاكر، حيث بدا وكان الجمهور حينئذ لم يفهمه فقد كان فيلما رؤيوي استبصاري سبق عصره!
*أما الحبكة فقد كانت بسيطة (مقارنة بمعظم افلام الخيال العلمي الراهنة)، وتتحدث عن فريدرسن (الممثل جوستاف فروليش) الذي يلعب دور ابن عمدة بلدة “ميتروبوليس (الفريد ىبل)، الذي تعلم ببراعة أساليب العمال لتسيير الامور، وقد انغمس بطرق المدعوة “ماريا” السحرية، التي تتقن ممارسة التخاطر عن بعد في الأجواء الصناعية، وأثناء وردية عمل طويلة لعشر ساعات في وحدة صناعية، يسعى العمدة المتنفذ لاستشارة المهندس المجنون “روث وانغ” المشرف على عمليات الطحن، وهو نفس المهندس الذي اخترع خلسة “روبوط شرير” شيطاني-مستنسخ، ليكون بديلا لماريا، وينتقل خلسة الى البلدة…ثم يقوم ما يسمى “روبوتريكس” بالرقص عاريا “متبجحا ومستفزا” في النادي الليلي الوحيد في البلدة…وهنا يحدث تمرد تدميري معاكس، مما يسمح للمخرج “لانغ” لاستغلال منشآت المصنع الكبير المتهالك، بنفخها سحريا ورفعها للأعلى ومن ثم تنزيلها واغراقها بعنف، هنا يتدخل كل من “فيدر وماريا الحقيقية الطيبة” لإنقاذ البلدة وأطفالها من الغرق، ثم يتحد الجميع لمواجهة الكارثة، وتقوم ماريا الحقيقية بأحداث تخاطر فعال ما بين “قلب فيدر” وكل من العمدة وعمال المصنع اليائسين، وتنجح بمعجزة لإنقاذ البلدة المنكوبة.
*ما حدث مباشرة بعد اصدار الفيلم، فقد سحبت نسخ الفيلم من التوزيع، وتمت اعادة صياغتها حسب رغبة “لانغ” نفسه، وتم الحفاظ على نسخة وحيدة مستحدثة لحين ادخال تقنية الألوان لها في ثمانينات القرن المنصرم، ثم تم استحداث نسخة جديدة كاملة لاحقا حسب رؤيا “لانغ” الأصلية،وتمت اضافة مشاهد جديدة لم تعرض لعقود، ولكنها حفظت النسخة الأصلية، ثم انشهر الفيلم لاحقا بكونه استعراض مدهش، ولكنه بسيط كسرد “خيال علمي”، ثم كشفت هذه النسخة المعدلة (القديمة-الجديدة)، بأن الرؤيا المستقبلية للفيلم لم تكن تنبؤات فقط، وانما اسطورية ايضا، مع عناصر معمارية وديكورات مدهشة من تصميم عقد العشرينات، وقد تمت صياغته وصهره مع عناصر “قروسطية” تاريخية، بهدف انتاج تصورات سينمائية مذهلة وغرائبية تتضمن رؤيا الكتاب المقدس ايضا…كما تتضمن رسالة الشريط رؤيا ماركسية مبكرة لصراع الطبقات ومعاناة العمال وطرق استغلالهم!
*يحتوي الفيلم على استبصار محتمل للروبوتات المستقبلية التي تتحكم بالبشر والأدوات، وعن قصة عالم مجنون بيد فولاذية مركبة، يمارس بشغف سحر كيمياء القرن “الخامس عشر”، مع كم كبير المشاهد الفريدة للعمال المتطفلين/المسحوقين اللذين يعملون بجد في مصنع ضخم، كبروفايل معبر لبدايات الثورة الصناعية الرأسمالية الكاسحة التي اشار لها كارل ماركس في كتابه الضخم…حيث يشير المخرج العبقري لمداخل “أفكاك” المكائن الضخمة التي تشبه مجازا “الها جيرمانيا عتيقا” وتبتلع البشر! ويرسل الفيلم في الخلاصة رسالة مفادها أن التخاطر ما بين “الرأس والأيادي” يكمن بالقلب، القادرعلى تحريك المبادرات والأهواء والمشاعر باتجاه الخيرأوالشر.
*لاحقا اثنى النقاد على اداء فروليش كبطل مغوار سخر طاقاته لإنقاذ البلدة، ثم على اداء المهندس الشرير”كلاين روغ”/ وعلى اداء عمدة البلدة المتغول، وعلى اداء “هيلم” بدوره المزدوج كقديس منقذ وكوحش مرعب قاتل لا يرحم.
*واخيرا فعن طريق حفظ هذه النسخة الجديدة المعدلة من هذه التحفة السينمائية الفريدة، وبالإشارة للحوافز والتنويهات والشخصيات المتناقضة، فقد أصبحنا اكثر شوقا لمشاهدة هذه النسخة التي اصبحت أكثر جدارة وجاذبية، حيث يمكن مشاهدتها كدراما عادية متداخلة وفنتازية، ذات تداخلات ومنعطفات تشويقية عديدة، وكنموذج فريد أولي “للثورة والقمع والنهوض مجددا”، وأستغرب حقا تجاهل نوادي السينما العربية المنتشرة وتقاعسها عن عرض مثل هذه التحفة النادرة، واستبدالها بكم كبير من الترهات والسخافات السينمائية القديمة والحديثة!
مهند النابلسي/ كاتب وباحث سينمائي