انت هنا : الرئيسية » الواجهة » أمام قبر محمد الماغوط!

أمام قبر محمد الماغوط!

المهندس زيد عيسى العتوم

إربد،جامعة اليرموك

 في طريقٍ تتبدّل معالمه, وتتلاشى حوافه بمجرد النظر اليه, وفي صمتٍ يُعانق الضياع ويشبه التيه, وبأنفاسٍ خجولةٍ وحائرةٍ أضاعت ذاكرتها واستسلمت, فقد تلاشى مفهوم الزمن وتبدّدت رائحة المكان, وغرقت أكفان الوطن وامتلأ العالم بالهذيان, ربما خلف ستار ذلك الموت الرهيب أو أمام بدء تلك الخليقة الموحشة, كل شيءٍ بلا إرادة تُذكر, وكل فكرة في منفى يحتضر, نرى ما تريده الشمس في غيبوبتها, ونتلمّس رفات ذلك القمر الحزين, أكثر ما يُبكينا الغياب, وأصعب ما يؤرقنا الإياب, وآخر من يجالسنا السحاب, في ذلك الطريق غدت الطفولة بعيدة وأصبحت الكهولة بعيدة, وسقط ذلك المنديل الأبيض على أقرب رصيف, وتموضع تحت  ذلك المطر الحنون, ليبوح بسره الخطير ويفكّ أسر كونِه المهول, هنا نكون في حضرة محمد الماغوط, وأمام قبره الكبير!

رحل محمد الماغوط تاركاً وطناً يضحك ويبكي في الظلام, وطناً تكسّرت أصابعه بحجّة أقلام رصاصه, رحل والدم البارد يغطّي الدم المذعور, وحبل المشنقة يلوي حبل السرّة, وأسطورة الليالي الملاح يقتلها الصباح, وصافرة الإنذار تنتهك النهار, رحل تاركاً وطناً تحوّل لحانة من الخشب الأحمر, يرثيه الشعراء ويملكه الأمراء, يهجره الفقراء ويستبيحه الغرباء, رحل والكثيرون قد نسوا مرغمين ثلج الحرية عند البكاء وقبل النوم في العراء, رحل قبل أن نخبره بأن العذاب البشريّ قد استوفى حقه ونال توقيعه, بشفاه الجياع وأهداب المنتظرين, وقبل أن نُعلِمه بأن الغد المنظور بالكاد يزحف بلا سيقان, وأننا بقينا نقدّس الخريف بينما لا توجد أوراق من رحم أيّ خريف, فمن أخذوا الزمن لم يبقوا الساعات أيضا, ومن أخذوا الطرقات لم يتركوا الأحذية سالمةً في مكانها, ومن أخذوا الايمان لم يعتقوا الجوامع والكنائس من شرورهم, أما من أخذوا الطفولة والحب فقد احرقوا الحليب وأشعلوا العطر, ثم أخذوا الربيع ونثروا السماد بسخاءٍ فوق أرواح المقابر, وغطّوها بطبقةٍ رقيقةٍ من البارود الكريه, بعد أن خلطوا الدماء بالدموع, وداسوا فتات الطفولة وأطفأوا ما تبقى من الشموع, فهل تستشعرهم وأنت راقد ها هنا في سباتك الأبدي؟!

 قرب قبرك الراقد في الخواطر, وجنب حجارته المصنّعة في الوجدان, وعند ذلك الشاهد العاجز عن ذكرك, او حتى احتضان حرف من اسمك, او قراءة سطر من عنوانك, يقف الوطن قربك ثم يدور من حولك, يلاطفك ويستأذنك ويهمس في أذنك, بأن شيئاً تحطم في أعماقه غير الاضلاع, شيء أهم من العظام, شيء ربما لا يمكن ترميمه على الاطلاق!

عن الكاتب

عدد المقالات : 1688

اكتب تعليق

الصعود لأعلى