عمر المختار…قصة أسد ومشنقة!
المهندس زيد عيسى العتوم
الاردن، إربد
جامعة اليرموك
نعرفه جيداً ونخاف منه وننتظره دائماً ونتناساه, وندرك كونه لا بد وأن يكون, ونستحسن كوننا لا نعرف متى وأين سيكون, عندما يحلّ ويأتي أوانه الرهيب, يقف الزمن ويتجمد السكون ويسقط الكبرياء, يتبدّد الداء ويخجل الدواء, فهو الضيف الكبير والزائر الاخير, يأتي متحدياً قيم الحياة ومكذباً شتى مزاعمها الحالمة, هو الحقيقة التي لا يرقى اليها شك, والسرّ المقنّع باللثام, هو الموت سبيل النفس الى الراحة الأبدية, وطائرها الصاعد الى عظمة السماء, يخشاه من يخشون المجهول ومن ينتصر عليهم ذلك القلق المرافق لأنفاسهم المتردّدة, ويتصورون حالهم احياءً وامواتاً بنفس اللحظة وفي تلك القبور المظلمة, فكأنما يشرعون في الموت بمجرد أن يولدوا, لكن البعض يرونه حقاً لا بد منه وموعداً لا بد وأن يكون, يصافحونه واقفين حتى لو تمدّدت أجسادهم المسافرة رغماً عنها, ويعانقونه فرحين حتى لو فارقوا وطناً عزيزاً قضوا بالذود عنه, ويلامسونه واثقين مدججين بذلك الايمان المطلق وتلك المبادئ الراسخة.
قبل عقودٍ طويلةٍ وفي سبتمبر ليبيّ لا يُنسى, وبكاميرات ثقيلة وبائسة, كاميرات تؤرّخ ذلك اليوم المشهود بصورة أبيضها كأسودها, وبصحبة ثلة من المارقين يتصنعون ابتساماتهم القلقة, وبرفقة جلادين لم يمنح انتصارهم الذي حسبوه ثباتاً لأقدامهم المرتجفة, يقيّدون ذلك الشيخ المغوار بسلاسلهم الطويلة والجاثمة على صدور الأحرار وسكرات الخلاص, كان ملتفاً برداءه الذي يلوّن صورة حلم ويغطي مساحة وطن, لم يكن فزعاً ولم يكن مبتسماً ففي تقاسيمه قصة وفي جديته رسالة, وتقاسيم وجهه وأطياف كهولته تهلل صامتة بساعة العبور العظيم, تمتم بنفسه لنفسه معلناً مسك الختام, حتى يغادر عالمنا راضياً مرضياً بامتياز, أحاطوا رقبته النحيلة سمراء اللون من شمس الكفاح, أحاطوها بحبل ارعن ومجرم وثقيل, ربما امتدت ظلاله البائسة فوق تلك الشواطئ الحزينة, اخبرهم بأن تلك اللحظة ليست بحاسمة, وأن النهاية لم تحن بعد, ما دامت الأمواج تتلاطم والأحلام تتوالد, وقبل ان يُشدّ الحبل وتُكتم الأنفاس العطرة, حدّق وبعينيه الغائرة لمحة نور ورشفة رضى, فالبطل لن يبرح خشبته ولن يغادر عرينه, بل سيتربع على ناصيتها وسيدفن في ثراها, ثم جاء الموت وكانت الشهادة, وصعدت الروح وكانت البداية!.
ألا يكفي ذلك اليوم فتفيض تلك الذكرى المغروسة دائماً وابداً في رمال ليبيا العميقة, والا تهبّ نسائم اسد الصحراء وشيخ المجاهدين فتطفئ لهيب وتسقي عطش صحراء ليبيا المحترقة, والا تُستنبت تلك الحقبة الخالدة في ضمائر وأفئدة جموع الليبيين دأينما كانوا, فيتيقنوا أن ليبيا لليبيين فقط كانت وستبقى, وان أرتال الغزاة وحشود الطامعين وقطعان المرتزقة قد زالت وسوف تزول, فقد كان السيف يناطح المدفع, وسيبقى عمر الأحرار أطول من عمر شانقيهم!.