بيروت لن تموت!
قلّما تستأسد القلوب عشقاً فوق عشق البشر, وقلّما تغفو الارواح حباً في بقعة تجاوز الماضي فيها نقش الحجر, ولا غرابة في ذلك فقد تعانق دوماً الجبلُ والبحر, وتمجلسا فوق قارعة الجمال وتلونا بحبات المطر, ففي بيروت لكل من عبرها يوماً حكاية, وفي بيروت حتى لمن لم يعبرها ايضاً رواية, فقد قيل عنها انها الاسطورة الحية العابرة للازمان, وقيل أن مجرد اسمها يزيد القصيدة اشتعالاً عند الحديث عن الاوطان, انها بيروت ايقونة الشرق بصوتها لحنٌ وبصمتها عنوان.
اهتزّت بيروت واهتزّ لبنان برمته على وقع انفجار كبير, انفجار اجزم انه اربك الراقدين في قبورهم بسلام, وترك القتلى والمصابين مشتتين لا يُبصرون وجهتهم ولا يُميزون قبلة ساعتهم تلك, انفجار ربما ايقظ حقبةً ثقيلةً وغليظةً من الموت, وفضح حاضراً يعلوه الوهن ويكسوه الشلل, حاضرٌ ملطخ بقسوة المحاصصة والطائفية الرعناء, وحاضرٌ أنهك فيه لبنان بحجة مصلحة لبنان, وأتخم فيه القاموس السياسي اللبناني بسرابٍ كئيبٍ من القهر والفشل, فالرئاسة طالما بقيت شاغرة والحكومة طالما اضحت معطلة, والثلث المخرّب والمعطّل ارتدى كساء الثلث الضامن, واستراتيجية النأي بالنفس قد غدت تتفاخر بحمل البنادق وتتغنى بجثامين من غُرّر بهم, انفجار ربما كشف الغطاء عن من يحكمون لبنان الجريح, واثبت ان التنظير السياسي والصخب الأيديولوجي لا يكفي وحده لإنقاذ لبنان, وانفجار قد فضح صنّاع القرار وازال واحرق جميع اوراق التوت عن برامجهم المحتضرة اصلاً.
بعد ان وقع ذلك الانفجار المدمر صدرت البيانات وتوالت التكهنات, لكنها جميعاً لم تُخلق من فراغ ولم تحيا من عدم, فمن قال انها شحنة كبيرة من المواد المشتعلة والمخزنة قد قال حقاً, في وصف بلدٍ تسرطن فيه الفساد والبيروقراطية والاهمال, وتضعضعت فيه اركان الدولة ومفاصلها من الوريد الى الوريد, ومن قال انها كتلة كبيرة من المفرقعات قد قال حقاً, لان كرامة اللبناني ولقمة عيشه تترنّح فوق فوهة بركان, وتعاني الأمرين على صفيح ساخن, ومن تكهن بأن الانفجار مُنبعث من مخزنٍ لسلاح حزب الله اللبناني ربما لم يقل باطلا, فلحزب الله سلاحٌ غير شرعي كان وسيبقى, حتى لو ادعى امجاد انتصارٍ وتشدق بشرعية مقاومة, ولحزب الله واذرعه الامنية والعقائدية صولات وجولات على مطار ومرفأ وربما حياة بيروت برمتها, مثلما ان له فسيفساءٌ من المخازن والأكمنة والانفاق المموهة الا عن عيون طهران وساستها, ثم من قال ان الانفجار هو نتاج صواريخ اسرائيل وطائراتها ايضاً ربما لم يكن حالماً, في بلد طالما استبيحت اجواءه براً وبحراً وجواً مهما تعددت الاسباب وتنوّعت الغايات, فقد اصبح تموز لبنان المهشّم بألاف القتلى والجرحى, والملطّخ بمفردات الدمار الاقتصادي والسياسي, والمكلل بغاياتٍ لم ولن تخدم لبنان يوما, قد اصبح يوم نصر وذكرى بطولة!.
تقف بيروت او ما تبقى منها تنشد الحياة وتبتغي الامل, تقف جريحة ضعيفة تستصرخ الأصدقاء والأشقاء لنجدتها مما المّ بها, وفي ذلك فليُبادر المبادرون وليتنافس المتنافسون, لصون لبنان الثقافة والفن والجمال, وليعرف نزار قباني حين قال: يا ست الدنيا يا بيروت…من باع اساورك المشغولة بالياقوت؟…ليعرف أن بيروت ستحيا ولن تموت!.