انت هنا : الرئيسية » الواجهة » المهندس زيد عيسى العتوم: المثقف العربيّ بين المدّ والجزر

المهندس زيد عيسى العتوم: المثقف العربيّ بين المدّ والجزر

المهندس زيد عيسى العتوم

رأي اليوم
في عالمٍ تقدّمت فيه بعض الرؤى والمفاهيم, وتقهقرت فيه كثير من الصياغات الفكرية والمعرفية رُغما عنها, حيث لم تجد غير فتات الذاكرة واسطر التاريخ موطناً لتحطّ رحالها, وفي ازمانٍ تتسارع وتيرة تبدّلها حتى انحسرت براءة الحدث ربما في ابتسامة طفل او نظرة كهل مسكين, لم تكن الثقافات بتجانسها وتباينها بمأمن من حرارة الامر الواقع, مثلما أن المثقف العربيّ في حيرة من امره, بين أن يؤمن بما لديه ويعمل على تغيير وجه الحياة بأرقى الوسائل وأنبل الادوات, وبين أن يرضى بكونه انسان بضاعته أفكار حتى لو كانت احلامه تلامس الاقمار!.
لقد ابحر المفكرون وغاص الدارسون في تحديد مفهوم وركائز الثقافة, وحاولوا لمّ شمل سماتها بوصف وجهها الجميل, فقالوا انها انسانية يبتكرها وينقلها الانسان, ولكن هل بسّطوا تلك العلاقة الجدلية كون الثقافة تُحفّز انسان اليوم الذي بدوره ينبت ثقافة الغد التي ترسم بدورها ملامح المستقبل في تبادلٍ لا ينتهي, ثم يأتي ربيعٌ وربما خريفٌ عربيّ غريب, ينهمك فيه المثقف العربيّ ويجتهد ليلحق بجموعٍ بلا قيادة او منظرين, كان في الماضي هو وليس سواه من يقودها ويحدد وجهتها القومية والفكرية والعقائدية, وانتهى به المطاف مُرغماً ان يكون آخر من يجد مقعداً في حافلة واقعها الجديد, وقالوا انها مكتسبة لا ارادياً من أسرةٍ ومدرسةٍ ومجتمع, ولكن هل أغفلوا تجبّر الحضارات واستقواء المجتمعات على نفسها وربما على غيرها, تحت طيفٍ عريضٍ من الحجج والمبرّرات, حتى اصبح بعض المثقفين يتمنون الانتداب ويتباكون على محاسن الاستعمار, كونهم تحت وطأة القهر وديمومة الاحباط وشحّ لقمة العيش والعجز المفرط عن تغيير كبوات الامر الواقع, وقالوا انها تطوّرية تتجدد بالممارسة والتطبيق, فهل ربما كان وصف التغيير اكثر واقعية من وصف التطوير, فأبجديات وابتكارات المثقف العربيّ لطالما عانت التشرذم واستساغت الركود, وكرّرت اقوال ومفردات من رحلوا, وتاهت في تصنيفها وانشغلت في المقارنة والمقاربة فيما بينها, وكانت النتيجة ان زاد عشق الماضي وتوهّج الحنين اليه, واول الغيث قطرةٌ من العجزِ تُبقي الحاضر حاضراً وتجعل القادم مخيفاً وغريبا, ثم قيل ايضا انها تكاملية تريح النفس وتشبع الحاجات, وفي الحاجات يتلوّن شيطان التفاصيل, فيقف المثقف العربيّ تائهاً احياناً بين التغني بمحاسن الحرية وفوائد الممارسات الحزبية والديموقراطية, وبين ارضاء جموعٍ تريد ان ترى قبل ان تسمع, وتريد ان تتواصل قبل ان تتحزّب, وتقدّم رغيف الخبز على صندوق الاقتراع!.
ربما من الظلم ان يُحمّل المثقف العربي وحيداً كل ذنوب الواقع, وربما من الاجحاف أن تُرى بصماته وحده على معاول التردّي والهدم, فهو رغم خصوصيته الايدولوجية ومسؤوليته الشعبوية يبقى مجرد بشر يخطئ ويصيب, ومساهمته الثقافية تُشكّل في ابهى صورها مجرد حلقةٍ في سلسلةٍ من الحقب والتجارب, أكتوى كغيره بتاريخها المرير من الخيبات المتكررة, فلا تجربة وطنية حديثة عاشت, ولا وحدة قومية أنجزت, ولا عدالة اجتماعية تحققت, ولا انتصارات ملهمة تشكلت, ولا أراض أحتلت قد عادت الى اهلها ولا أوطان اهتزّت ثم ما لبثت ان استقرّت, فكيف سيُدان في محاكمة أكبر منه وأكبر من غيره؟!.
المثقف العربيّ كغيره من المثقفين, بما له وما عليه هو ظاهرة انسانية تؤثر في الشعوب والنفوس, كحال المدّ والجزر كونهما ظاهرة طبيعية تؤثر في البحار والمحيطات, في المد يرتفع منسوب مياه السطح تدريجياً وفي الجزر ينخفض أيضا, وفي حاضنة حرية الرأي والابداع ينبري ضوء المثقف العربيّ اشتعالاً وفي غيرهم ما يلبث أن يخبو ضوئه ويتبدّد, وكما ينتج المدّ والجزر من محصلة قوى فلكية طاردة, يبقى موقع المثقف العربيّ نتاج خليطٍ من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وربما المحصلة طاردة حتى لو عاش عمره في وطنه!.
كاتب اردني

عن الكاتب

عدد المقالات : 1688

اكتب تعليق

الصعود لأعلى