انت هنا : الرئيسية » الواجهة » كتب الدكتور سمير محمد أيوب 

كتب الدكتور سمير محمد أيوب 

الحب وجدل الموت والاغتيال !!! 

عشوائيات في الحب  – العشوائية 13

عصرَ الأمس قبلَ المغيب ، كنتُ برفقةِ صديقٍ يُحاصرُ الشيبُ لحيتَه وناصيةَ رأسه ، بعد أن استقر بنا المقامُ على الشاطئ الشرقي للبحر الميت ، قبالةَ فلسطين المحتلة ، مُتَهكِّما وبنبرةِ مُشكك ، قال مُكْمِلا هجماتَه ضدَّ الحبِّ والمُحبين : ماتَ الحبُّ يا شيخنا وشبِعَ مَوْتا . يا وحْدَنا في مساقاتِ الحياة ودهاليزها.

 قلت معترضا : دعني بداية اقول لك ، ولغيرك في معتقل ” يا وحدنا ” ، أنَّ الحبَّ لضرورته لا يموت  وإنْ تشظَّى زمنُ وفرةِ الأوفياء فيه . ومِنْ ثَمَّ أُضيفُ ، لا يوجد قلبٌ حيٌّ سويٌّ ، غيرَ مسكونٍ ، لا تحتلُّهُ اشباحُ حبٍّ راحلٍ ، أو مُشتهى في الأفق.  

عاجَلني بِتشفٍ قائلا : ولكن الأشباح ميتة او متماوتة في العادة. 

ونسائمُ بواكيرِ المساء تغمرُنا محمَّلَة بعبقِ أبو نُقطه الموز الريحاوي غربي النهر ، قاطعته قائلا : قد يتسربُ بعضُها ولكنَّه لا يموت كفلسطين قبالتنا ، ينساب بعيدا عبر هواجس مفتعلة ، وبايقاع يحاكي ما في القلب من ظنون صامتة ، ولكنَّ جلُّها حيٌّ تجلس قبالتَك كلَّ ليلةٍ ، تناديك لتَسمعَ حِكاياتها وتُسمِعًها أبالِسِتَك. 

قال مستنكرا:أصغي كلَّ ليلةٍ للصمت ، لا أسمع له طحنا ولا جعجعة .

قلت : المهم أن تكون وقت وميضه حيّا ، مُستعدا لالتقاط  ايماءاته ، وابجدياته ، ولمساته المنثالة صوبك ، محاولا ايقاظك من سباتك. 

في محاولةٍ ساذَجَةٍ للتهرب سأل متأفِّفا : مَنْ هي ملهمَتُك في كلِّ هذه الثقة ؟

قلت فرحا وانا أجولُ ببصري في حواري قريتي شويكه ،غربي النهر : وُلِدتُ وفي سمعيَ حبٌّ يا هذا ، وفي بصريَ حبٌّ . ترعرعتُ والحبُّ يُزرَعُ في روحي غيطانا . ما أنِ تفتَّحَ شيءٌ مِنَ الوعي على الحياة ، ( ومُبكِّراً تفتح ) ، إلا وكان الحبُّ على لساني أصيلا مُتدفقا منْ قلبٍ سليم .  ملهماتي كثيرات ، قناديل مسرجات بالفطرة والطيبة  . سهوبي ثرية بهن . حضور بعضهن مرئي . واللامرئيات من الأشباح والأشباه وفيرات. 

في البدءِ وأنا صبيٌّ يافعٌ ، في زمن التَّلقي الخَصبِ وبواكيرِ التَّمرُّدِ ، كانت خيرية وفاطمة يرحمهن الله ، ككل الطيبات من الامهات والعمات ، تكثران من سؤال ربهما ، أن يُحَبِّبَ خَلْقَهُ بي . وفي ليلة قَدْرٍ، استجاب السميع الكريم . كعادته أفاض علي ما اصطفى لي من رزق عميم.

قال صاحبي دون صبر ، متعجلا وكأن عفريتا قد ركبَهُ : ثم مَنْ ؟ 

أجبته مبتسما متمهلا لأغيظه : بالتأكيد ، بعد أن أعْدَدْنني بعناية خُلُقيَّا وقِيَميَّا ، امتلكت قلبا سليما شجاعا. قارب العديدَ منَ النساء من عديد المِلَلِ والنِّحَلِ . وما بين ضراوةِ القُطبِ وخطِّ الاستواء ، تلقيتُ الهام الكثيراتِ ممَّنْ أعتز. 

ثمة نساءٌ التقتهن عيوني فعانَقَتْهُنَّ ، وأخَرٌ قَبَّلَتْهُنَّ ابتساماتي ، وفي بعض اللحظات الهاربة ، احتَضَنَتْ روحيَ بعضهنَّ ، وتَنَشَّقَتْ نفسيَ  بعضَ الهمسِ  في خاطرة ، وأذبت البعضَ في فنجانِ قهوتي . وثمة نساءٌ رائعاتٌ ، أزورُهُنَّ وراداراتي هامدةً لنقصٍ عندي. 

التفت إليَّ صديقي ، دون أن ينبس ببنت شفة ، وبحركةٍ عصبيةٍ إعتقل رأسَه بين كفَّيه ، وكأنه يخشى عليه من الضياع  ، تَبسَّمْتُ وأنا أكمِل : على مدى عقودٍ ، كان للحب حضورٌلافتٌ في حياتي . يُلاعبُني ويلعبُ بي . يثيرُ مُخيَّلَتي ويأسَرُني . يُروِّضُ الشرَّ في دواخلي . لأستَسلم لسحره . تفاعلت معه . وكما إلهامُ الأماكن تواصلنا ، وتبادلنا الإشارات السرية المشفرة . وحين كان ينسكب ثراؤُنا كنا نُلَمْلِمُه ، ونتسلل في دورة دموية متشابكة. 

لعديدِ الأسبابِ وتعدُّدِ الفصول ، وحتميات جغرافيا ما قد مضى من العمر ، كانت ترتبط صِلاتنا الوثيقة ، بتجلياتٍ يتعذر إحلال أخرى محلَّها ، لفرط لزومياتها وفقَ مقاصدِ الحبِّ آنذاك .  

عميقا تنهد ، وقال وهو يشعل أوَّل سجائره : ولكن في زمن المجانية وعشوائيات المتطفلين ، بات الحب خَوَّانا سريعَ العطَب سريعَ التهافُت ، الأسلم الابتعاد عن شره والغناء له. 

أوقفته لنتمشى قليلا . قلت وقد بدأنا المسيرَ نحو الغربِ : يا صديقي  يا رعاك الله ، لا جدوى من قلبٍ لا يَسكُنه حبٌّ ، يُفَعْفِصُه ويُنضِجُه . هل تعلم ما معنى أنْ تُنْضَجَ بتفاصيلِ الحُب ؟! الحبُّ الموهوبُ تفاصيلٌ مثيرةٌ تَحتلُّ ضِفَّتَيه . دونها تختلط إشارات المرور في الحياة . واعلم علم اليقين ، أنَّ المحب لا يخون وإن تسرب أو ابتعد . ولكن البعض من المتطفلين لا يعشقون إلا خَوَنْ . طَمِّنْ بالَك ، إنْ كانَ القطُّ  بِسبعةِ أرواحٍ كما تقولون ، فإنَّ الحبَّ يا صديقي بسبعين.

 الاردن – 26/12/2019

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى