د. أحمد جبر: سيرة فدوى طوقان بين الصعبة والأصعب
د. أحمد جبر
رأي اليوم
حظي العنوان في الآونة الأخير بأهمية خاصة من الدرس والبحث، وقد درج على لسان العرب قولهم: (يقرأ المكتوب من عنوانه) وهذا التعبير عام ودارج لا يمكن إسناده لشخص بعينه بل إن عامة الناس يستخدمون هذا التعبير عن أمر أو خبر ما، ونظرا للأهمية التي يحظى بها العنوان فقد أصبح الكتاب والأدباء يولون العنوان عناية خاصة وفائقة؛ فالعنوان يحمل في كلماته القليلة حجم ما يكتنزه النص من معان وأبعاد تجعل منه مكثفا ومشحونا يمتلك من الجذب والإثارة ما يثير انتباه المتلقي ويحفزه على الإقبال للغوص في النص نثرا كان أم شعرا، وبهذا يكون للعنوان ردّة فعل يقوم بها المتلقي سلبا أم إيجابا.
لقد أصبح الارتباط بين العنوان والنص ارتباطا جذريا يرقى لذلك الارتباط بين النص وكاتبه، فعناوين بعض الأعمدة في الصحف _مثلا_ كثيرا ما ترتبط باسم الكاتب ، لذلك يمكن القول بأن العنوان دال على النص والنص دال على صاحبه؛ ومن هنا يأتي التجويد في اختيار العنوان الذي يحمل الكثير من الدلالات المرتبطة بعمق النص وبأبعاده وأهدافه والوصول إلى الغاية المثلى التي دفعت الكاتب لإنتاجه وإخراجه.
إن العنوان اسم له ملامحه الخاصة ومعانيه المنسجمة المتكاملة وله كذلك لونه الخاص ومعجمه الخاص، وقد حفلت الدراسات والأبحاث السردية اهتماما كبيـرا بالعتبات كما عند جيرار جنيت، أو هوامش النص عند هنري ميتـران، أو العنوان بصفة عامة عند شارل كريفل، أو ما يسمى اختصارا بالنص الموازي.
وهذا ما أقدمت عليه الأديبة الراحلة فدوى طوقان في سيرتها الذاتية التي حملت عنوانين متصلين متقاطعين إلى حد كبير وشامل، فكانت الرحلة الجبلية الصعبة التي روت من خلالها تلك الظروف التي عاشتها بمرها الكثير وحلوها القليل.
لا شك بأن فدوى طوقان قد أجادت إلى حد بعيد انتخاب العنوان الذي يتناغم مع سيرتها الذاتية، ذلك العنوان الذي تظهر فيه الإيقاعات التي عاشتها بين منخفض وعال وبين عاطفي حالم وادع وآخر صاخب مرعب، فرحلتها لم تكن رحلة عادية، ولا هي بالسهلة كذلك، فهي رحلة جبلية وعرة المكونات والمسالك، فيها من الأخطار ما فيها، وفيها من الأطلال والاستشراف من الأعلى ما يحيط بمجتمع خالطته وكان وسطها الاجتماعي الذي عايشته بكل مكوناته ومقومات وجوده ومعتقداته، وكأن لسان حالها يقول : ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر، بكل ما يحمله بيت أبي القاسم الشابي من معان تلامس تلك المعاني التي رامها أبو ذؤيب الهذلي في حكايات اشتياره العسل حين رام الموقع الأصعب والأشد خطورة كي يحقق مبتغاه وهدفه الذي كان نتاجه امرأة حديثها ضرب العسل.
لقد كانت حياة فدوى طوقان في الرحلة الجبلية صعبة، كابدت فيها المشاق وذاقت ألوانا وصنوفا من العذاب لكنها تمردت وأعلنت ثورتها وتصميمها على النمو الايجابي المثمر وقد كان ذلك في سني طفولتها، ولما تغيرت معالم الجسد وشبّت بدأت تدرك المحيط وتتلمس العلاقات فإذا بها تنغمس في هموم أخرى أوسع من همومها الذاتية فكانت الرحلة الأصعب، وهي رحلة تمازج فيها الخاص بالعام بل تغلب فيها العام على الخاص فكان وقوفها إلى جانب قضية شعبها وأمتها وهناك تختلط المشاعر وتتمازج الأحاسيس وتتوحد الهموم لتصبح هما واحدا ومركبا واحدا يتناغم فيه الذاتي مع الوطني و القومي، وهنا يتنوع الخطاب وتتنوع إيقاعاته ومعانيه وغاياته ليشمل دائرة أوسع من النفس البشرية ألا وهي دائرة الوطن تليها دائرة الأمة بل والإنسانية، لقد حملت أديبتنا الصخر والتعب وقامت بدورات الصعود والهبوط التي لا نهاية لها لكنها أدركت أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة.