صالح الرزوق: الحقيقة المفقودة في نقد التفكير الديني: قراءة في كتاب لماجد الغرباوي
صالح الرزوق
رأي اليوم
يشكك ماجد الغرباوي، المفكر الاسلامي المقيم في استراليا، في كتابه «النص وسؤال الحقيقة – نقد مرجعيات التفكير الديني»* بطرق انتقال وتداول الأفكار الدينية، وبهالة التقديس التي أضفاها أنصار الظاهراتية في التفكير والتفسير. ويبدأ من ضرورة إعادة التفكير بما ينسب للرسول من أحاديث وأفعال. ويؤكد إن الجانب الأسطوري من أي قائد روحي يكون مفيدا أحيانا لأغراض التعبئة، ولكنه يتحول مع الزمن لعبء يمنعنا من التطور وإدراك الواقع. فالنص لا يرتبط آليا بمعناه، والعلاقة بينهما ليست أوتوماتيكية وتخلو من المشاعر والخلفيات، والذي يبدأ بالوحي يجب أن ينتهي بالعقل. و(لنعرف الواقع لا بد من معرفة الحقيقة). ثم يهاجم القراءة السكونية، و يؤكد أن الحقيقة ليست مطلقة وأمامنا طرق لإدراكها. ثم يحدد شروط معنى أي مدونة بثلاثة عوامل أساسية هي: مؤلف النص والسياق والقارئ. ولكنه ضمنا يشير لشرط رابع وهو علاقة اللغة باللغة. أو ما يسميه فوكو (التمثيل المضاعف). ومن هذا المدخل يبدأ الغرباوي بمناقشة مسألة “منطقة الفراغ التشريعي”. وتعني (كل موضوع لم يرد فيه حكم شرعي). وحسب هذا المفهوم يقسم مصادر الدين الإسلامي إلى “نص مقدس وإلى تفسير هو نتيجة للجهد البشري). ولكن يجب علينا أولا أن نثبت صحة هذه النصوص وأنها موجودة وثابتة فعليا. فأحاديث أبي هريرة تبلغ 5374 حديثا مع أنه لم يرافق الرسول غير عامين. فكيف تسنى له رواية هذا العدد الكبير، و(من المعروف عن النبي صمته وقلة حديثه). وقد عبّر الغرباوي بشكل بليغ عن هذه الظاهرة حين ربطها بسلطة الدولة، فقد (اعتاد المسلم على الإيمان والتسليم لا على الدليل والبرهان). و ذلك نتيجة سياسة الترهيب و التخويف التي اتبعها معظم الخلفاء لإسكات المعارضة السياسية. و(هذا لم ينتج معرفة علمية)، وإنما (لا معقولا دينيا، يحرض على الخصوم).
ثم ينتقل لمشكلة تبدل المعنى أو المبنى أو كليهما في النصوص الدينية، والأسباب برأيه هي:
1- مقولات البنية المعرفية في بدايات تشكل الوعي عند الأفراد. فهي تصورات ومفاهيم تستمد وجودها من أعماق البنية المعرفية.
2 ـ دور الوسيط أو المتلقي لأن الحقائق التراثية غير موضوعية، ولا يوجد لها طريق غير النص.
3 ـ الخلفيات الثقافية. وهي قبليات مكتسبة وتبدل من طبيعة إدراكنا لفضاء المفهومات في البنية المعرفية للأفراد والجماعة.
وأصلا حض القرآن، لتلافي هذه التحديات، على الإيمان البرهاني واستعمال العقل، ومتابعة الأدلة وعدم التوقف عند الانقلابات الثقافية، لتدارك الشكوك والمتغيرات. وعلى هذا الأساس يعرّف الغرباوي الحقيقة على أنها “ما يطابق الواقع بدليل حسي أو برهاني بدون الدليل الحدسي أو الظني ما لم تكن مقدماته يقينية، إلا الحقيقة الدينية فهي نسبية وتستمد صدقيتها من النص، وتتوقف على إذعان المؤمن وشروط تحقق النص وسلامته من التحريف أو الوضع”. وهنا تواجهنا مشكلة النص الديني. فهو جزء خاص من التراث، ولا تجوز مساءلته، لكن هذا لا يمنع إمكانية إدخالات ظنية عليه، كما حصل بعد إضافة النقطة والهمزة للكتابة. ومن الأمثلة على ذلك (قتل من أذعن). وهذا غير ممكن لأن الأساس في الإسلام هو التسامح والمغفرة وتوسيع أبواب التوبة، وربما المقصود هو قتل النوايا الشريرة أو منعها. فالتعبير مجازي إذا لم نكن جاهزين للاعتراف بأن الكلمة الصحيحة ليس (اقتلوهم) ولكن (أقيلوهم). وكل ما حصل هو التباس في التنقيط.
وإذا نظرت لواقع الحركات الإسلامية المعاصرة سيخيفك مقدار التراجع في الأهداف أمام شهوة التملك والسلطة. ولم تنج من هذه المجزرة الإسلامية النصوص المقدسة وكل ما يبنى عليها. فالفتوى بالأصل أن تعود للنص، يعني أن تفهمه، وترفع ما يبدو متعارضا بين نصوصه. والفتوى بالتعريف هي: “رأي الفقيه المستند إلى دليل”. لكن إذا نقبت في التشريعات الدينية ستكتشف بكل سهولة انحيازها لمصلحة الواقع السياسي والاجتماعي. ومنها نشأت ظاهرة الحيل الشرعية التي تبرر ما هو في أساسه حرام أو لا يجوز، حتى أن التشريعات تحولت لقيود تكبل يد الإنسان. ففتاوى ابن تيمية طبعت في 20 مجلدا مع أن آيات الأحكام في القرآن بمجموعها هي 500 آية فقط. ومن أبرز عيوب الاجتهادات والفتاوى الحديثة:
– الانتقائية: فقد استبعد أكثر من 60 آية تدل على التوسعة والرحمة وركزت على آيات السيف والتكفير.
– الجمود: فالكلمات محدودة لكن المعاني مفتوحة ولا نهائية. ولنأخذ كلمة سيف على سبيل المثال فهي تدل في معجم المعاني على أداة حربية وعلى ساحل البحر.
– إهمال السياق: وعدم ربط اللاحق بالسابق. وهذه مشكلة تسبب التسرع وأحيانا التهور والنقصان. كما في تفسير معنى القوة في آية (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة). فقد جاء بعدها ومن رباط الخيل، وعطف عدة الحرب على عدة الحرب ينتفي مع بلاغة وحكمة القرآن.
وبالنتيجة أصبح لدينا كم غير مسبوق من الأحكام السياسية التي جردت الدين من تاريخيته. ولذلك أجد أن دعوة الغرباوي لتخفيف القيود على العقل النقدي ومحاصرة عقل المحاكاة لها ما يبررها، لأن التراث نتاج بشري وليس له أي سلطة معرفية، حتى لو كان هذا التراث من المقدسات. وبهذا المعنى يسأل نفسه: لماذا نقتدي بسيرة وعهد الخلفاء الراشدين؟. ومن جعلهم مثلا أعلى في السياسة والحكم، ومعيارا للفضيلة والحكمة؟ هل النموذج العملي ذاته لسلوكهم؟ أم الخطاب التنزيهي الذي تلا حقبتهم؟ لقد كانت فترة الخلفاء الأربعة فترة دموية مضطربة تخللها أكبر كم من الجرائم السياسية والاغتيالات والحروب في سبيل السلطة. إن الخلافة شأن سياسي، بينما النبوة شأن ديني، وصلاحيات الخلفاء بالتوافق. لكن صلاحيات النبي ربانية وإلهية. ولا يمكن جعلها لغيره إلا بنص صريح واضح وهذا غير موجود. ويندرج المنطق نفسه على مفهوم العصمة، ولا سيما خصوصها في أهل البيت. فكيف يكون ذلك مع انقطاع الوحي، والخلل في الإسناد لا تعالجه العصمة، ولذلك يجب النظر لهذه المسألة في إطار اللامعقول الديني. وتأتي في درجة تالية مشكلة الألقاب مثل الحاكم بالله وسيف الله، ثم العناوين مثل نهاية الأصول ونهاية الدراية ونهاية الفقه. إنها ألقاب وعناوين ذات إيحاء رمزي وبلاغي. وبسهولة تستطيع مقارنتها مع ألقاب وعناوين كانت شائعة قبل التوحيد وفي العصر الوثني مثل فارس بني عبس (عنترة)، الملك الضليل (امرؤ القيس)، و(جمهرة أشعار العرب) وما شابه ذلك. وهو ما يسميه الغرباوي: سلطة النص على الوعي، حتى لو أن الحقيقة تجافيه وتعارضه. فالوحدة الدينية ليست مشروطة بالوحدة السياسية. وكل هذا الخراب كان يمكن تجنبه باعتماد نظام غير ثيوقراطي وتعددي يضمن للمسلمين فرصا متكافئة في إدارة شؤونهم. إن المبالغة دائما تكون بالنص وليس في الحقيقة. فكل نظام لديه حسناته وسيئاته. ويثبت الغرباوي هذه الفكرة من خلال الصور والبورتريهات التي رسمتها المذاهب لشخصية النبي. فقد وجد فرقا أساسيا بين ما ورد في الآية والرواية. كانت الآيات تؤكد على بشريته، في حين أن الروايات تعزو له العلم بالغيب وتميل للمبالغة وترفعه لصفات أسطورية. حتى أن الرواية صادرت على الآية، وحصرتها (اشترطت التمهيد للآية بالرواية). ولذلك يتحتم علينا التدقيق في هذه الروايات. وإذا كانت من بين الأحاديث يجب التثبت من صحة صدورها، ثم مراعاة قواعد إضافية للتأكد من فعلية الأحكام وصحة المضامين. ويختتم الغرباوي كتابه باقتراح عملي. أن نقرأ النص ونعقله أولا، ثم نعود لمصادره. ففي زمن النقد الرجالي ورواية الآحاد لا تستطيع أن تضمن أن الإسناد ليس مزيفا. وكما قال جون ماكوري في كتابه «الوجودية»: الوجود الحقيقي يفترض فك الارتباط مع الواقع الزائف والمشوه الذي هو نتيجة لاتفاقات يبرمها العقل الجمعي وانحرافاته.
*منشورات دار الأمل الجديدة في دمشق، ومؤسسة المثقف العربي في سيدني. 2018/ 308 صفحات.