انت هنا : الرئيسية » الواجهة »

م. سليمان حاتم: مفاتيحُ فولتير الذهبيّة ؟

م. سليمان حاتم

رأي اليوم

ما يزال فولتير المفكّر الموسوعي الفرنسي ” المُذهل ” يتصدّر مكتبتي منذ ربع قرن إلى اليوم  ، مع أنني تخليّتُ عن كثيرٍ من المؤلفات والكتب التي بهرتني في أوانها ، ولكن ليس على ” الطريقة الدونكيشوتية ” التي نذر حياته لأجلها كيما تكرسه ” فارساً ” لايشق له غبار ، إنما في قناعةٍ تولدّت لديّ  أنّ  على المرء أنْ يضع كلّ المرجعيّات على مقربةٍ منه بدل أن تبقى على كاهله طيلة الوقت فيما إذا أراد أنْ يفكر ذات يوم بكتابة حتى مجرّد ” خاطرة ” أو يدّون” هذياناته في لحظة قيلولة ” ، لأنّ الحياةَ والواقعَ أوسعُ من حدود ” الأبجدياتِ ونصوصِها

فولتير العقلُ المفتوح إلى اللانهاية ، إلى المطلق ، من الصعب عليك للوهلة الأولى أن تفهمَ الأمورَ على طريقته ، وربما تُخطئ في تقدير مواقفه ، وهو المُتمرد على كلّ الشعارات التي يصنعُها البشر في غفلةٍ عن العقل ، ويقبلونها كما لو كانت أقداراً حتميّةً لامفرّ منها ، لم يجد غضاضةً أن يبصقَ في وجه الإمبراطورية الرومانيّة ويقول ” لاهي مُقدسة ولا هي رومانية ولا هي امبراطورية ” في وقتٍ كانت مقولة ” الإمبراطورية الرومانية المقدسة ” أشبه بلازمةِ ” نشيدٍ وطني ” .

إنه يفهم ” القداسة ” في ظل العلاقة التي عرفها شاعر الحكمة وحكيم الشعراء ” هاينه ” الألماني الذي كتب بالفرنسية ” إنني اقبلُ ببساطةٍ أنّ الإنسان يمكن أن يصبح ربّاً ولكن   لا أستطيع أن أقبل البتّة أن الإله  يمكن أن يصبح إنساناً ” .

هي علاقةٌ وحيدة الإتجاه ، ولأن ” القداسة ” مفهومٌ إشكالي وخلافي ، كان فولتير واضحاً وقطعياً في الإجابة ” إن الامبراطورية الرومانيّة برمّتها ليست مقدسة ” وهناك اليوم من معارضي فولتير الذين يصل بهم الحال إلى حد تكفيره في بعض طروحاته ومواقفه   ولا ضير  فالتكفير اليوم صناعةٌ ” سياسيّة ” رائجةٌ بامتياز .

انّ الأقوال المأثورة لفولتير تملك طاقة ” الحكمة ” وتمنحنا ” المفاتيح الذهبية ” لإعادة النظر في كثير من القضايا المعاصرة والمشاكل والأزمات التي نواجهها اليوم .

سُئِل فولتير ، من هي الأمة المرشحة لقيادة وإدارة هذا العالم ، أجاب ببساطة” الأمة التي تقرأ أكثر من غيرها ، والتي تعرف ماذا تقرأ ؟ “

ربط تفرّد وتميّز الأمم بكميّة القراءة ونوعيتها ، وحقيقة الأمر فإن قوة الأمم لاتقاس بكميّة مواردها الماديّة من احتياطي النفط والغاز والذهب والفضة وحسب بل تقاس بما تملكه من العلماء والمفكرين والمثقفين .

ذات يوم رفع الرئيس الكولومبي ذراع غابرييل غارسيا ماركيزعالياً أمام الشعب الكولومبي قائلا : ” إنّ راس غابرييل غارسيا ماركيز ثروةٌ قومية يجب أن نحافظ عليها “

ويقول فولتير: ” إذا استطاعت جهة ما أن تُولّد لدى الناس قناعاتٍ ومعتقدات لايقبلها العقل فإن تلك الجهة قادرةٌ على دفع هؤلاء لارتكاب المجازر” .

ثمّة وكالاتٌ ومنظّمات ومراكز دراسات وأبحاث دوليّة نشِطة تعمل على غسل العقول  باستخدام كلّ التكنولوجيّات والبرمجياّت المُتاحة  بهدف تحريك هذه ” الكائنات ” بواسطة الغرائز واللاوعي ، والتحكم بها عبر ” تعطيل دارات الدماغ  ” لديها ،  وما ” الإرهاب العابر للقارات والحدود ” إلا نتيجةً لهكذا أدواتٍ ووسائلَ .

ويصل فولتير إلى حقيقة أن الذي يختلفُ معك في العقيدة ويسبّك قائلاً ” اللعنة عليك ” لايلبث في لحظة قادمةٍ أن يشهر السلاح في وجهك ويقتلك ” بدعوى أنك  مختلفٌ معه في العقيدة وأنّك” كافر ” .

لن أناقش مقولات فولتير هذه أبعد من ذلك ، فهي تفسر بوضوح تام- دون الحاجة الى مقارباتٍ واقعية-  كثيرا من حقائق الواقع الذي نعيشه اليوم في عالمنا العربي .

ولكن يبدو أن مواجهة الأزمات والمشاكل تتطلب العمل على ” بنية العقل ” وهذا يستلزم ضخ كميات قصوى من العلم والمعرفة والثقافة في كل مكان من روضات الأطفال إلى المدارس والأكاديميات والجامعات ، في الأحياء والأرياف والمدن والأسواق وعلى الجدران ومواقف الباصات والتكايا وحتى دور العبادة.

سُئل الإسكندر المكدوني لماذا يجلس أرسطو على يمنيك وكبير الموظفين على يسارك     ” والمقام للميمنة” قال ” ويحكم أما هذا فأجلبه بأمر إداري ولكن من أين لي رأس بحجم رأس أرسطو ” .

القراءة محاولة للتنقيب في أعماق التاريخ والحضارات والثقافات عن المفاتيح الذهبية التي بواسطتها نفتح كل تلك الأبواب الموصدة في وجه العقل الى عالم مفتوحٍ الى اللانهاية والحقيقة المطلقة ، هي المفاتيح التي تساعدنا على حلّ كافة المشاكل والأزمات التي تواجهنا ، لابل يراهن فولتير أنه بالقراءة وحدها بمقدورنا ان ندير ونحكم العالم بالشكل الأمثل والأجمل شريطة ان نعرف ماذا نقرأ ، فهل تستيقظ ” أمة إقرأ ” من بَيَاتها الشتوي ؟.

سوريّة

عن الكاتب

عدد المقالات : 1688

اكتب تعليق

الصعود لأعلى