انت هنا : الرئيسية » الواجهة » الأدب النسوي في تونس: أزمة مُصطلَح أم هوية؟

الأدب النسوي في تونس: أزمة مُصطلَح أم هوية؟

الكاتب والشاعر: عبد الوهاب الملوح – تونس – ” وكالة أخبار المرأة

حجم مساهمة المرأة التونسية في الأدب تنظيراً وإبداعاً في شتّى المجالات أكبر بكثير من مساهمة الرجل. كما أنها مساهمة نوعية وجادّة وجديّة أكثر من كتابات الرجل.
رغم مساهمة المرأة التونسية الفعّالة في الحياةِ العامةِ منذ بدايات القرن الماضي (تأسيس الجمعيات الخيرية والتعليمية والأنشطة الاجتماعية ومقاومة الاستعمار الفرنسي)، وسعيها الجاد للتحرّر من العزلة ومن العقلية الذكورية التي حبستها فيها التشريعات والقوانين المجتمعية، رغم كل هذا لم تكن مساهمة المرأة التونسية في الحياة الأدبية ذات شأن يُذكَر إن لم تكن معدومة تماماً.
هذا كان على عكس وضع المرأة في المشرق التي أبدت اهتماماً أكبر بالأدب فظهرت أسماء مثل نازك الملائكة في العراق ومي زيادة في لبنان وثريا ملحس في سوريا وفدوى طوقان في فلسطين، من دون أن ننسى النشاط المُكثّف للمرأة المصرية في الحياة الفنية. وهذه المُفارقة تطرح أكثر من سؤال.
كان لا بدّ من انتظار مرور أكثر من عشر سنوات بعد نَيْل تونس استقلالها لتظهر أول  مجموعة شعرية في العام 1968 لزبيدة بشير بعنوان “حنين”، ثم ليلى مامي في مجموعتها القصصية “صومعة تحترق”، إلى أن تتالت الإصدارات الأدبية بتوقيع المرأة التونسية في شتّى الأجناس الأدبية ولأسماء لفتت انتباه النقّاد والمُتخصّصين منهن نافلة ذهب، فاطمة سليم، عروسين نالوتي، حياة بن الشيخ؛ وهند عزوز، نعيمة الصيد، ناجية ثامر وفضيلة الشابي في الشعر. الأخيرة كان لها دور كبير في الجماعة التي أطلقها الراحل الطاهر الهمامي، للتمرّد على القوالب الشكلية في نظم الشعر.
تمرّد الشعراء والشاعرات الجُدُد جاء من قناعتهم أن الشعر ينبع من صميم الواقع ويحمل همومه وهو مطالب بالتغيير. من هنا برزت أصوات نسائية متمرّدة على الواقع التونسي السياسي والاجتماعي ، فكانت سميرة الكسراوي التي مثلّت مدوّنتها الشعرية عنوان رفض ومقاومة النظام البورقيبي ، ما أدّى إلى حبسها. لكن، بالموازاة، تواصل النتاج الأدبي للمرأة التونسية في شتّى الأجناس والأغراض وهو في أغلبه كان يخدم نضال المرأة التحرّري.
حول هذه النقطة تقول آمنة الرميلي، وهي دكتورة في الآداب وأستاذة محاضرة في جامعات تونس، تقول إن “نظرة سريعة إلى حركة الأدب النسائي في تونس منذ دولة الاستقلال وإلى ما بعد ثورة 2011 تبيّن بسهولة أنّها حركة تنمو ضمن مستويين؛ مستوى أفقي ومستوى عمودي. أفقيّاً حقّق الأدب النسائي التونسي توسّعاً وانتشاراً عبر مساحات الكتابة والقراءة بلا توقّف. فبعد أن كانت كتابات المرأة في تونس في الخمسينيات والستينيات معدودة ومحدودة فإنّها اليوم تطغى على المشهد الأدبي، وتحتلّ مكان الصدارة فيه وتتوَّج وتملأ الندوات وتحتلّ مكانة في المخابر العلمية في كلّيات الآداب. أما في المستوى العموديّ فإنّ كتابات المرأة في تونس تشهد جدّة وعمقاً وتنويعاً وآفاقاً أخرى إن في الشعر أو في النثر أو في البحث”.
الرميلي أضافت أنه إذا ما أردنا تحديد مرحلة مهمّة من مراحل المسيرة الأدبية النسائية في تونس فإنّ “العشرية الأخيرة تعتبر مرحلة نوعية، ففيها عرفت الكتابات النسائية طفرة تلفت الانتباه وتدعو إلى الدّرس وتبعث على الأمل. فما نُشِرَ من روايات ومجموعات قصصية ودواوين شعرية لا يُضاهي في كمّه وكيفه أيّة مرحلة سابقة”.
ثورة 2011 وأثرها في الأدب النسائي التونسي
“ينطلق الجواب من الجانب السياسي في السؤال ونقصد: هل لأنّ مشاركة المرأة في الثورة كانت قوية وفعّالة وعميقة، فإنّ أثر الثورة في وعي المرأة ولا وعيها كان كذلك قويّاً وفعّالاً وعميقاً؟”، تسأل الرميلي ثم تجيب موضحة أن “حدث الثورة لم يحقّق الانعتاق السياسي فحسب ــ بقطع النظر عن النتائج! ــ وإنّما مسّ خاصة رؤيتنا إلى الكون وتمثّلاتنا للسلطة ومخاوفنا من القمع. كانت الثورة لحظة حوّلت الذّوات وفجّرت الرّغبة في التعبير عن المخفيّ والمُهمّش. كانت لحظة فذّة حرّكت الكوامن. فكانت الكتابة العلامة الفارِقة لتلك اللحظة وتحديداً كتابة المرأة، فخاضت في مواضيع شتّى: الجسد والإرهاب والسياسة وغيرها من التّيمات التي كانت محجوزة غالباً عند الكتّاب الذّكور”.
إلاّ أنّ هذه المرحلة المفتوحة على كثيرٍ من الاحتمالات تحمل أيضاً مخاطر على الفعل الأدبي سواء عند النساء أو الرجال، وهو ما تصفه الرميلي بــ “استسهال الكتابة وانفتاح المشهد أمام كتابات ضعيفة مُتطفّلة”.
هكذا إذن كان مسار الكتابة عند المرأة التونسية في مختلف مراحله، وهو ما يؤكّده الناقِد المُختصّ في الأدب التونسي مصطفى المدائني. لكن الأخير يُعالج أيضاً مسألة أخرى تطال المُصطلح نفسه، أي الأدب النسوي. فهو يشرح أن هذا المُصطلح في الأدب “بدأ يفرض نفسه تدريجاً إلى أن قامت حوله بحوث ودراسات متنوّعة. لكن المُتمعّن فيه يلاحظ أنه مصطلح لا يخلو من مغالطة”، ذلك أن الأدب النسائي “يمكن أن يُفْهَم بنظرة بسيطة تتمثّل في اعتباره إبداعاً للمرأة فقط ووسيلتها لتعبِّر عمّا يختلج داخلها من مشاعر وآراء وأفكار. وبهذا المفهوم هو بالأساس أدب يُعبّر عمّا يختلج داخل الذات الإنسانية عامّة وبالتالي لا بدّ من البحث عن خصوصية ما لتبرير هذا المُصطلح”.
إذن، ما هو مُبرّر وجود هذا الصنف من الأدب؟ يقول المدائني “لأنه يتبنّى نروع المرأة للدفاع عن ذاتها كياناً مخصوصاً ولعلّ المثال الأنصع هو ما ألّفته الكاتبة سيمون دي بوفوار في مجمل إبداعها وخاصة مؤلّفها “الجنس الثاني” و”رسائل إلى البرايت” الأديب الأميركي الذي أمضت معه بضع سنين في أواسط الخمسينيات. وفي هذا الكتاب نتبيّن أنها تعيش حياتها وتصوّر كيانها بكل صدق وأمانة. فهي تعترف بحبها له وترثي ضمنياً حال صديقها جان بول سارتر صديق العُمر ورفيق الطريق والنضال”.
تفوقت على الرجل في مساهماتها الأدبية
إذا اعتبرنا الأدب النسائي هو الذي تكتبه المرأة فهو أدب وجد مع بروز الأدب العربي منذ الخنساء. أما في تونس فيمكن ذكر هند عزوز، وفاطمة سليم، وغيرهما. أما في ما يتعلّق بالناشئة فلا بدّ من ذِكر مجموعة من الكاتبات التلامذة وهن غادة كلاعي ورحمة بوزيد ونورس المكشر وإكرام عياري وغيرهّن ممن أنتجن كتابات مُتميّزة.
لقد أدّى التراكم الكمّي لإنتاج المرأة الأدبي في تونس لظهور مُصطلح ” الأدب النسوي” الذي أثار ومازال جدلاً حادّاً في الأوساط الأدبية وعند المرأة بالخصوص، فشقّ يدافع عن خصوصيتها وشقّ ثانٍ يطعن في هكذا فكرة.
إذ أن للأدب مرجعيات أخرى أهمها أن المرأة الإنسان، وهذا ما قد غفل عنه دُعاة الأدب النسوي الذين وجدوا أنفسهم أبعد ما يكونوا عن الأدب لأنهم وقعوا في فخّ النظرية النسائية السياسية وإشكالياتها المُتعدّدة.
هذا ما ينبّه إليه الأستاذ الجامعي خالد الغريبي في حديثه قائلاً إن الحديث عن الأدب النسائي “يقودنا إلى إثارة قضية الخصوصية والهويّة في مجال الكتابة. والرأي عندي ألاّ خصوصية بلا هويّة وأنّ الهوية في جوهرها تعني الاختلاف، لا الاتّـساق المُغلق”، ولذلك فإنّ كتابة الهويّة “لا تتأسّس إلاّ  بجدل الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، الزماني والمكاني، المؤتلف والمختلف. إنّه جدل يتحكّم في الذات المُبدِعة من خلال ما تريد إنجازه بعينها وعين الآخر، من دون أن يحجب هذا التواصل حرية الذات في التعبير عن كيانها وكينونتها”.
إذا اعتبرنا أنّ الاضطهاد وضع إنساني يشمل الذكر والأنثى على السواء مع اختلاف النوع والشدّة والأثر والسياق، أمكن أن نخلّص النزعة النسوية من حمولة تعصّبها إلى المرأة. فكلّ حديث عن الاضطهاد وتعرية الواقع الذي يخدمه والأفكار التي تتستّر وراءه، إنّما هو حديث لصالح انعتاق الإنسان بصرف النظر عن لونه وجنسه وسنّه. وعليه تصبح الكتابة النسائية مصطلحاً ملتبساً (وزلوق) فهو إن دلّ على كتابة الهويّة الشاملة لفعل الاضطهاد، صَلُح استعماله. وإن دلّ على الجنس المخصوص سقط في محظور التفريق بين الذكر والأنثى.
لم تؤثّر الأوضاع السياسية والاجتماعية في تونس على العملية الإبداعية الأدبية للمرأة التونسية التي عانت الكثير في عهديّ الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي وما بعد الثورة. فظهرت المرأة التي تكتب أدب السجن ومنهن حياة بالشيخ ورشيدة الشارني. أما نجوى المرزوقي التي سكنت في عهود بن علي فتحدّثت عن تجربتها قائلة:”انطلقت تجربتي في الكتابة السجنية أثناء تواجدي بسجن النساء بمنوبة أواخر سنة 1993 وقد بقيت في السجن مدة سنتين ونصف السنة بسبب نشاطي الطلابي في الاتحاد العام لطلبة تونس. وخلال هذه الفترة ورغم صعوبة ظروف الإقامة ومنعنا من الكتابة فقد تمكّنت من كتابة عدّة قصائد كنت أخفيها بعناية حتى لا تطالها عمليات التفتيش الروتينية. وبعد انتهاء محكوميّتي حرصت على إخفائها في ثنايا ثيابي وإخراجها معي. وقد قمت بعد ذلك بنشرها في الصحافة السرّية على غرار جريدة “صوت الشعب” السرّية ثم في بعض المواقع الإلكترونية المعارضة وما تبقّى من الجرائد الورقية التابعة للمعارضة مثل جريدة “الموقف” وجريدة “مواطنون”.
من بين القصائد التي كتبتها المرزوقي في السجن هذا المقطع:
“اللّيل أطوَل في سنين الغربة
والحلمُ يُطفِئُهُ الخراب
فهل أخطأ سربُ الحمام طريق المجيء إلينا؟
هل خلّف وجهي وحلمي هناك
وضيّع كل التفاصيل الدقيقة في خطايْ
وكل المواويل التي لن تموت؟
تشابَهَ صمتُ السّنين
فلا فرق بين الكلام وبين العويل”.
تضيف المرزوقي إنه “بعد خروجي من السجن وجدت نفسي في سجن أكبر لا يقلّ مُعاناة عن سابقه خاصة بعد زواجي من عبد الجبار المدوري الذي اضطر لدخول السرّية والتواري عن الأنظار بعد أن صدر بحقّه حُكم غيابي بالسجن. عانيت من لوعة الفراق وشراسة البوليس وقد ألهمتني هذه الفترة لكتابة قصائد حول الفراق والقمع منها هذا المقطع الذي أهديته لزوجي بعد أن حرمت من رؤيته لسنوات”.
وهذا مقطع من كتاباتها في السجن:
“الشّوارع تفتح أحضانها للغرباء
وتُوصدها دوننا
وحيدين نمشي على رصيف من ضباب
وحيدين كنّا
نقتسِمُ الأماني
وننتظر اختزال الجرحِ من زمن
وحيدون نكتشف اختلاس أحلامنا
على أعمدة الجرائد
ونَعُدّ كمْ مرَّ على انشطار البلاد إلى صرختين
وصرْخة ثالثة
قُلْتُ:
أتوجِعُكَ دمعتي الحارقهْ
إذا ما تفرّ مراراً
وبعض الفتور الذي يعتريني
وبعض القلقْ؟
– وتقْتُلني البسمة الزّائفهْ
وألاّ يكُونَ لديْنَا احتمالٌ وحيدٌ بأن نلتقي
وأن نفترقْ..”.
أما الروائية خديجة التومي فقد أصدرت ثلاثية روائية عن تجربة زوجها في السجن في عهد بن علي وتتحدّث عن أعمالها فتقول إن رواية “الشتات” تتبّعت مسيرة زوجين. كانا رمزين لمعارضة المُستبدّ، آمنا بالحريّة والكرامة والعدل فكان مصيرهما السجن والتشريد وضياع حلم راودهما بمدرج الجامعة أن يريا الوطن حرّاً مزدهراً مؤمناً بأبنائه”.
حاكمت الروائيّة في “الشتات” النظام الذي ساق المناضلين إلى السجون وامتهن كرامة المواطن وشرّد العائلات وشتّتها إرضاء لولعه بالتفرّد بالسلطة. كما لا تخفى القضايا الحارقة التي تجتاح الوطن كالتخلّف والتبعية والتفاوت الاجتماعي والعولمة والجشع. لكن شكل معمار الرواية على معالجة الشتات الاجتماعي والسياسي والثقافي والتربوي.
ليست المرأة الكاتبة في تونس تلك التي عانت من سلطة الرجل أو النظام، ولكنها أيضاً تلك التي عانت من الغربة والترحال بما راكم أدب المهجر للمرأة. فهناك كاتبات تونسيات يعشن خارج البلاد وكتبن عن معاناة الغربة. هذا شأن علياء التابعي التي كتبت رواية يتيمة وحيدة أثارت ضجّة كبرى إبان صدورها في أوائل التسعينات لما طرحته من معالجات مختلفة من حيث الشكل السردي والموضوع المطروح. كما سوف تنشر الكاتبة خولة حمدي كتاباً بعنوان “في قلبي أنثى عبرية” وتنشر إيناس العباسي رواية “منزل بورقيبة”، إضافة إلى أخريات مثل الشاعرة لمياء المقدم وفتحية دبش.
يجمع المتابعون للشأن الأدبي في تونس اليوم أن حجم مساهمة المرأة في الأدب تنظيراً وإبداعاً في شتّى المجالات أكبر بكثير من مساهمة الرجل، بل إن هذه المساهمة نوعية وجادّة وجديّة أكثر من كتابات الرجل. وهو ما يدلّ على أن المرأة في تونس تجاوزت المُصطلح وعانقت الإنسانية من خلال إبداعاتها.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1619

اكتب تعليق

الصعود لأعلى