انت هنا : الرئيسية » الواجهة » د. فيرا مطران: “دهاليز النفس وشذرات فلسفية”: عندما تلتقي طلاقة الفكر بجماليّة التعبير

د. فيرا مطران: “دهاليز النفس وشذرات فلسفية”: عندما تلتقي طلاقة الفكر بجماليّة التعبير

د. فيرا مطران

“يغيب ذلك القرص العسجدي الذي تربع على عرشه في كبد السماء لساعات طوال، تاركاً للأرض حرارة لا تطاق.  مع غيابه، تستعيد الأرض برودتها شيئاً فشيئاً، تماماً كما كانت في الدقائق الأولى من نشوء الكون..” بهذه الكلمات يبدأ نورس كرزم إحدى النصوص في كتابه: “دهاليز النفس وشذرات فلسفية”.  نُلاحظ منذ البداية، أن الكاتب يجمع ما بين التعبير الأدبي الرفيع وما بين التأمل العميق، الذي ينمّ عن بصيرة متّقدة قلما نجدها لدى شاب في الخامسة والعشرين من عمره.  سأحاول في هذه القراءة المقتضبة أن ألقي الضوء على أبرز الجوانب التي راقت لي في الكتاب، مع بعض الاقتراحات الطفيفة هنا وهناك، وسأولي اهتماماً خاصاً للعناصر الجديدة التي أتى الكاتب على ذكرها في الكتاب على المستويات الرمزية، الفكرية والأدبية.

يقع الكتاب الذي بين أيدينا في 160 صفحة من القطع المتوسط، وهو من إصدار دار الرعاة في رام الله، ودار جسور في عمان (الأردن).  قسّم الكاتب الكتاب إلى ثلاثة فصول، أو أقسام –إن صح التعبير- كما يلي: القسم الأول يحوي خواطر وتأملات أدبية، بينما يحوي القسم الثاني ملاحظات ومراجعات سيكولوجية وفلسفية، أما القسم الثالث والأخير، فيحوي ملاحظات سيكو-موسيقية، وهي مجموعة كتابات تتناول التقاطع الجلي ما بين علم الموسيقى والعلوم النفسية والعصبية.  ومن هنا، فإن الكتاب عبارة عن مجموعة من التأملات والكتابات التي تتناول الإنسان، الموسيقى والوجود عموماً، وهي مرتبة بطريقة أنيقة سواءاً على الصعيد الأدبي البحت، أم على الصعيد الفكري والمعرفي.

في الواقع، عندما قرأت عنوان الكتاب لأول مرة، أوحي لي بأنني أمام نصّ مجرّد، لا صلة له بهموم واقعنا المتأزم.  ولكن سرعان ما تلاشى هذا الانطباع بعد أن وقعت عيناي على الإهداء.  فلفتني بداية في الإهداء أنه بحد ذاته نصٌ أدبي جميل يفتح شهية القارئ كي يتابع بنهمٍ ويُنهي الكتاب ربما دفعةً واحدة.  نلاحظ ومنذ البداية بأن القسم الأخير من الإهداء موجه إلى شهداء وأسرى فلسطين، مما يقرّب الكتاب ربما إلى الهم الفلسطيني الموحد، وخصوصاً عندما يذكر الكاتب: “…إذ أن معلمي في الحياة، ليس عالماً برجوازياً يجلس في مقعده الوثير، وينظّر على الناس من علو دونما احتكاك بالواقع الفعلي، وإنما معلمي هو أسير فلسطيني، أضرب عن الطعام أياماً طوال، متحدياً هرمية ماسلو، ومبدياً ضروباً من شدة البأس تقشعر لها الأبدان، وتنحني لها الهامات إجلالاً”.  يقترب الكاتب بهذه العبارات من معاناة الشعب الفلسطيني، فيمنح القارئ إحساساً برسوخ الانتماء واطمئناناً داخلياً بأن ما سنُقبل على قراءته هو كتاب من رحم السياق الفلسطيني وليس مجرد نصوص ميتافيزيقية بعيدة عن الواقع.

يحوي القسم الأول من الكتاب مجموعة من الخواطر والتأملات التي تشد القارئ مباشرةً من خلال عناوينها المنتقاة بعناية.  ونلاحظ أن الكاتب يدوّن ملاحظاته مستنداً إلى ذخيرةٍ لغوية عالية المستوى، ما يدلّ بشكل قاطع على كمية القراءات التي قرأها الكاتب سابقاً، وهو مجهودٌ هائل إذا ما أخذنا عمره في الاعتبار.  لاحظتُ في هذا القسم نوعين من النصوص أودّ الإشارة إليهما بإيجاز.  أولاً، العديد من هذه النصوص عبارة عن نصوص أدبية بحتة، تختزل جمالية لغوية خاصة.  ومن الأمثلة على ذلك نص بعنوان “ورطة غرامية: ما بين العشق والاحتلال”، إذ يقول الكاتب: “…أمام جدائل الوطن الملائكية يخبو ألق ضفائرها التي كانت يوماً ما ذهبية. أمام ابتسامة الوطن الدافئة، تضيعُ ملامح ثغرها، أمام حنو نظرات الوطن يتضائل بريق مقلتيها…”.  ويقول في موضع آخر: “…يقال الحب أعمى، إلا أنه في هذه الحالة ارتدى نظارات، وهي من النوع الذي يجعلك ترى تفاصيلاً ما بحجم مهول، بينما تتراجع التفاصيل الأخرى خجلاً…”.  ومن النصوص الأخرى في هذه القسم، نص بعنوان “ربما”، ومن العبارات التي لفتتني فيه: “ربما لأني أسمع في الحديث العادي صدىً أثيرياً متعاظماً، لا أسمعكِ، ربّما لأن مقاربتي للموجودات تمر بعدسة استطيقية دقيقة، لا أميزك…”.  إضافة إلى ما سبق، في نص آخر بعنوان “في خضم زحام الحياة” يقول الكاتب: “في خضم زحام الحياة، ووسط اكتظاظ المهام، وضجيج الأنفس المثقلة بهمومها حد الضجر، وأنين الأرواح المطمورة خلف فقاعات المادة، ولجتُ في غيبوبة قصيرة الأمد…”.

أما النوع الثاني من نصوص القسم الأول، فهي تلك التي تختلط فيها الروح الفلسفية بالروح الأدبية مع بعض الملامح السيكولوجية، ومنها نص بعنوان: “حرية العقل سابقة على حرية الجغرافيا”، إذ يتبدّى للقارئ تأثر القارئ بالفلسفات المرتبطة بالعقل والإدراك، وهو جانب جديد لعلنا لم نألفه في عالمنا العربي.  ومن النصوص المشابهة، نص بعنوان: “بعيداً عن تعقيدات العقل” والتي يذكر فيها الكاتب ما يلي على سبيل المثال: “أثناء تدخيني النرجيلة في أحد المقاهي في هامبورغ في ألمانيا، حدّقتُ ملياً في مقلتي فتاة حالمة، فرأيتُ الماوراء.  ثم راقبتُ بتمعّن كيف يأخذ الهواء بخصلات شعرها يميناً وشمالاً، فدغدغتني أحاسيس علوية…”.  كما يتطرق الكاتب أيضاً إلى مواضيع غير مسبوقة في هذا السياق، من قبيل التعاليم الثورية للسيد المسيح، عبثية المنافسة وبعض التأملات ذات العلاقة بالمجال الأكاديمي، إذ يتبنى الكاتب مقاربة نقدية بهذا الخصوص.

إذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني من الكتاب (ملاحظات سيكولوجية وفلسفية)، نلاحظ أن الكاتب يعبّر عن توليفة من القضايا النفسية والفلسفية، والتي ربما انتقاها من وحي دراسته.  لاحظتُ بدايةً تأثر الكاتب بالمنهج الديالاكتيكي في التفكير، فهو يشير دوماً إلى العلاقات الجدلية ما بين الأمور والأفكار، وهو ما يضيف إلى النصوص روحاً علمية موضوعية تبتعد عن التجريد الممل.  يتناول الكاتب في هذا القسم عدداً من القضايا، فيحلل كيف تتشكل نظرتنا تجاه العالم، ثم يخصص عدداً من النصوص للحديث عن المفكر وعالم النفس الشهير كارل يونغ، وهو مفكر ربما لم يُعط الحق الكافي في عالمنا العربي.  ولعل أحد النصوص الملفتة في هذا القسم، هو ذلك النص بعنوان : “الفلسطيني والاغتراب”، إذ يعقب الكاتب هنا على مقال سابق للدكتور عادل سمارة.  وتكمن فرادة هذا النص –برأيي- في كونه حلقة وصل ما بين النظريات الغربية الكلاسيكية وما بين السياق الفلسطيني الراهن.  بالإضافة إلى ما سابق، لفتني في ذات القسم نصٌّ بعنوان: “علاقتنا اليومية بالميثولوجيا” وهو نصٌّ جميل يحلل فيه الكاتب كيف أننا نوظف عناصر ورموزاً من الأساطير القديمة في حياتنا اليومية المعاصرة، دون أن ننتبه إلى ذلك.

وفيما يتعلق بالقسم الثالث والأخير، فهو قِسمٌ مُميّز بما تحمله الكلمة من معنى، وذلك لأنه يحوي نصوصاً لم أقرأ ما يماثلها باللغة العربية سابقاً.  أعتبر شخصياً أن هذه الطريقة التي يتبعها الكاتب في الدمج ما بين العلوم النفسية والموسيقى لهي طريقة إبداعية جديدة في الأدبيات العربية.  ويتضح للقارئ، ومن النصوص الأولى في هذا القسم، مدى تعمّق الكاتب في الجانبين: السيكولوجي والموسيقي معاً، وهي ميّزة يتفرّد بها الكاتب لكونه موسيقياً إلى جانب كونه أكاديمياً.  أدهشني في هذا القسم تحديداً نصين أود الإشارة إليهما.  النص الأول بعنوان: “الفارابي والموسيقى”.  لم أسمع من قبل عن أية كتابات تتناول هذا الجانب، وتُبرز ما لمفكرينا ولعلمائنا المسلمين والعرب من إسهامات في سيكولوجية الموسيقى.  يُظهر لنا الكاتب في هذا النص المقتضب أهمية إسهامات الفارابي في هذا المجال، وذلك في كتابه “الموسيقى الكبير”، حيث يصنّف الموسيقى إلى اقسام عدة وفق قوّة وشدّة تأثيرها على النفس البشرية.  أما النص الثاني الذي وقفتُ عنده مطولاً، فهو نص بعنوان: “عقدة فرويد من الموسيقى”.  يكشف لنا الكاتب في هذا النص عن بعض الجوانب الخفية من شخصية فرويد المُحاطة بالأسطورية عادةً، وعرض لنا خوفه العميق من الموسيقى مما يكشف عن جهله –أي فرويد- بعمق النفس البشرية.  سأكتفي بهذه التعليقات على هذا القسم، رغم أن جميع نصوصه تستحقّ منّا وقفةً مُتأملة ومراجعة دقيقة.

يُمكننا القول، وبوجه عام، بأن كتاب “دهاليز النفس وشذرات فلسفية” يجمع ما بين الإتقان الأدبي وجمالية اللغة، وما بين العمق الفكري سواءاً في الجوانب الفلسفية أو السيكولوجية التي يتناولها، ولهذا فهو كتاب جديرٌ بالقراءة سواء من قبل القارئ المتخصص، أو من قبل كل من هو مهتم بهذه القضايا المثيرة والشائكة في الوقت عينه.  أتأمل أن ينال الكتاب حظّه من الترويج الذي يستحقه، ولا أبالغ إذا ما قلتُ بأن هذا الكتاب يستحق أن يكون متوفّراً في كلّ مكتبةٍ وفي كل بيت عربي، كنموذج على عملٍ إبداعي شاب يقدّم الكاتب من خلاله إسهامات نوعية في المجالات المطروقة.

 ألماني

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى