صباح الأنباري: قراءة في مجموعتي القاصة أمل مطر صهيل الذاكرة وهجرة القمر
صباح الأنباري
أصدرت القاصة العراقية المغتربة أمل مطر مؤخراً مجموعتين قصصيتين في العراق هما صهيل الذاكرة، وهجرة القمر. تناولت في المجموعتين موضوعة الهجرة والغربة والاغتراب وما نجم عن ذلك من معاناة ومرارة في الداخل والخارج. معاناة تمتد مسافتها من مدينتها الأثيرة بعقوبة – التي هاجرتها مضطرة تحت وطأة وثقل ضغوط كثيرة وكبيرة – إلى فايلا المدينة الدنماركية الحلم التي حطت الرحال فيها. هذه المسافة وما تضمنته من المخاطر والأهوال والمغامرة هي ما أسست الكاتبة عليه مشروعها القصصي. وكما اعتدنا في مقالاتنا ودراساتنا السابقة فإننا نلج عالم المجموعتين من عتبات بسملتهما، ومن بوابات عنونتيهما لتسهيل الدخول إلى عالم المجموعتين المتشابهتين في الشكل والمحتوى حد أنك تستطيع الجزم انهما مترابطتان ومكملتان إحداهما للأخرى على الرغم من زعم الكاتبة أن الأولى جاءت على شكل رسائل، والثانية على شكل قصص قصيرة. اشتغلت عنونة الرسائل على مفردتين:
(صهيل) و(ذاكرة)
والصهيل لغة هو “حدة الصوت مع بحح كالصحل” حسب ما جاء في (لسان العرب) ومن هذا المعنى أرادت الكاتبة جر انتباهنا إلى شدّة الصهل والبحح الذي تطلقه ذاكرتها بشكل هائل قوي تستجيب له أدواتها فتبثها بهيئة رسائل تترى وترتبط بتسلسل منطقي، وبحبكة واحدة متحكمة بطرق مرور شفراتها أو مذكراتها وكأنها رجل مرور ينظم سير المركبات لا لكي ينتظم مرورها ولكن ليضمن مصادمة بعضها ببعض مصادمة تخلق حالة من الصراع الذي يفرض علينا متابعته لمعرفة ما سيؤول إليه في نهاية المطاف. هذه المذكرات التي صرَّحت بها أمل مطر على غلاف المجموعة لم ترد البقاء عليها لهذا أضافت إليها مفردة أخرى ليكتمل المعنى فجاءت مؤكدة أن مجموعة (صهيل الذاكرة) إن هي إلا (مجموعة رسائل) أرسلت بعد المرور بتجربة النأي عن المكان الأول، مرتع الطفولة ومهدها وحاوية التكوين والنضج والتطور، والوصول إلى المكان الحلم الذي سيوفر الأمن والأمان والحياة المستقرة الرغيدة وهو حلم كان ولا يزال موضع جذب وشد لغيرها ممن ثقلت موازينه بالشقاء والعذاب والاضطراب، وعلى الرغم من سحر المكان/ الحلم وجماله وما يتمتع به من الاستقرار والثبات إلا أن الكاتبة لم تستقر، ليس بيئياً كما يظن ولكن معنوياً، ولهذا وجدنا أنها لم تكتفِ بتصريحيها السابقين حول العنونة بل أضافت لهما تصريحا ثالثاً تبنّى إضافة توكيدية جديدة في المقدمة المقتضبة التي وضعتها كفاتحة لمجموعتها واصفة فيها المجموعة على أنها (قصص قصيرة على شكل رسائل).
أمل مطر لا تريد لعنونتها الثبات والاستقرار ربما لأنها لا تريد للقارئ أن يكتفي بعنونة واحدة حسب، فابتدأت بصهيل الذاكرة، ثم مجموعة رسائل، فقصص قصيرة.
ولا غرابة أن نجد هذه العنونة (صهيل الذاكرة) وهي تخترق سطور مجموعة (هجرة القمر) في عبارات مبثوثة هنا وهناك في إشارة واضحة إلى أن كل ما كتبته أمل مطر إنما كان بفعل صهيل ذاكرتها فهي تقول في هجرة القمر:
“تصهل في ذاكرتي آلاف الأسئلة” (2)
عنونة مجموعة الهجرة، كمجموعة الصهيل، لا تثبت على عنوان واحد حسب، بل تضيف إليه عنوانا توضيحيا (الحقيقة كانت هناك) وكان الأفضل، حسب زعمي، أن تترك اكتشاف الحقيقة لنا لنسعد، كقراء، بهذا الاكتشاف علما أن الإشارة إلى (هناك) في هذه العبارة تعني المكان الأول حسب.
العنونة الأساس في هذه المجموعة تأسست على مفردتين أيضا هما: (هجرة) و(القمر) وفي هذا إشكالية أيضا فالقمر مجازا هنا هو المعنيُّ بالهجرة وقد وقع تأثير فعل الهجرة عليه فاذا ما بحثنا عن بديل موضوعي له فإننا لن نجد غير الكاتبة المهاجرة التي أرادت وصف نفسها به تلطيفا لقساوة الهجرة، وتجميلا لقبحها وبشاعتها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان الهجرة هي همزة الوصل بين مجموعتي الكاتبة القصصيتين، وباب الهروب من المكان الأول (بعقوبة) إلى المكان الثاني (فايلا).
في مجموعة الرسائل إذن ثمة ثلاث بوابات أو ثلاثة نوافذ نطلُّ منها على مجموعة من الرسائل التي بعثتها الكاتبة للمكان الذي ارتبطت به منذ نشأتها الأولى ومن خلاله أرادت أن تُسمِع صوتها ونوستاليجيتها إلى بضعة أشخاص من ذلك المكان ارتبطت حياتها، بشكل أو بآخر، بكل واحد منهم وهم شخوص حقيقيون جاءت بهم من أرض الواقع المعيش لتنقلهم ،كما هم، إلى شخوص وأبطال تصول بهم وتجول على مساحة تلك الرسائل أو المذكرات أو القصص دون فسحة ولو صغيرة من الحرية التي تجعلهم يستقلون في حياتهم عن حياتها وهذا ما أدى – بالضبط – إلى فرض القيود على حركتهم، وعلى خيالها الفعال في الوقت نفسه. الشخوص إذن واقعيون وما حدث لهم حدث في الواقع فعلاً، وفقط قامت الكاتبة بتصويرهم فوتوغرافياً لتحوّلهم تحت ضغط الكتابة إلى صور ثابتة على الورق. التصوير الضوئي الذي مارسته في واحدة من مراحل حياتها العملية بدا تأثيره عليها واضحاً، فبدلا من أن تشحن صورها بطاقة الخيال المطلوب تركت لعينها الثالثة تصوير ما أرادت تثبيته في هذه الرسائل، وعلى هذا الأساس وجدتُ نفسيَ داخل نصوصها كما أنا لا كما ينبغي أن أكون داخل القصة، ووجدتُ أشقاءَها وأقرباءَها وأصدقاءَها كما هم في الواقع أيضاً مع احتفاظها واستخدامها لأسمائهم الحقيقية. لقد أرادت التمسك بالواقع الحي إلى أبعد ما يمكن وفي هذا مغامرة كبيرة غير محسوبة النتائج فالكتابة الإبداعية تشترط الخلق والابتكار ولا تستكين إلى الصور الواقعية الجاهزة. ولو إنها قدمت مجموعتها كمذكرات فقط دون الإشارة إلى كونها رسائل أو قصص لكان هذا في صالح تناول مادتها الكتابية كمذكرات حسب، فمن خلال متابعتنا لمسالك هجرتها ابتداءً من سيدة المدن (بعقوبة) ومرورها على مرافئ، وشواطئ، وبحار، وأماكن غريبة، وقارات (آسيا، أفريقيا، أوربا) واستقرارها في الدنمارك يمتد شريط من الذكريات القاسية والاسترجاع الأشد قسوة لماض محكوم بالمعاناة والألم. إن هذا الاسترجاع ومرارته ومكابدته وهذا السفر القسري وطريقة تناوله لا يرتبط بالسيرة الذاتية إلا برباط بسيط فلكل شكل أدبي شروطه وقوانينه التي لا تتداخل مع شكل آخر إلا إذا تقصدنا ذلك بطريقة فنية ابتكارية تستند إلى قوانين مبتكرة تبيح لنا كسر طوقها والانتقال إلى فضاء إبداعي جديد، بينما اكتفت المجموعة بالتصريح عن نواياها فقط تقول الكاتبة عن مجموعتها إنها:
“تجمع ما بين الأمس، بين الرحلة وما صادفتها، من تكوينات الكتل من إرهاصات سيرة ذاتية، واستذكارا لماضيها وذكرياتها”
فالمجموعة على وفق هذا التعبير ظلَّت تراوح في الماضي دون عبوره إلى الحاضر أو أي زمن آخر فجملة الـ(بين) ينقصها العطف الذي يبين حقيقة المعطوف، فاذا افترضنا أنه جاء سهواً فانه لن يغير من حكمنا الافتراضي عليه. إن خط الرحلة الطويل والعسير مرَّ ولا شك بأمكنة كثيرة اختصرتها الكاتبة حين قالت في مقدمتها:
“حطت قدماي عند المرافئ والمدن ذات اللغات المختلفة” (3)
وستقوم بذكر التفاصيل عند البدء بسردها الذي جاء بستة عشر رسالة. امل مطر إذن أرادت أن تجمع تركيبة مختلفة يصعب جمعها، وان تعبر عنها كلّها في عدد من الرسائل أو ما شاءت لها التسمية، ويظل السؤال الأهم عن كيفية نهوض السرد بهذه المهمة الكبيرة والجريئة.
لنتخطى عتبة هذه المجموعة (عنونتها) وندخل إلى عالم نصوصها المرسَلة إلى المدينة التي تجلّها الكاتبة لنجد أنها لم تمنحْ النصوص عناوين مختلفة، واكتفت أن يكون لكل منها تسلسلاً رقمياً: الرسالة الأولى، والثانية، والثالثة إلى آخر الرسائل التي بلغت ستة عشر رسالة، ومن الرسالة الأولى حددت ماهية المرسَل إليه من خلال جملتها الافتتاحية:
إلى سيدتي العزيزة… إلى المدينة التي أجلها وانحني راكعة أقبل ترابها وثمة أسئلة تراودني. وتصهل في ذاكرتي”
ثم تطلب منها الإجابة عن الأسئلة الاختبارية الآتية بتعجب:
“هل يمكن لمثلي، أن تكتب من دون إحساس، من دون وجل، وبشكل هادئ وعابر؟!
هل يمكن لمثلي، أن تكتب لك سيدتي، مثلما يكتب الآخرون وبحرية؟!”
عند هذه الأسئلة نتوقف قليلاً ونحن ندَّعي التماهي مع عقلية المكان لنرى إن كان من الممكن أن نجيب نيابة:
نعم يمكن ذلك.
لنكتشف بأنفسنا سهولة الإجابة. نحن إذن إزاء رسالة مرسَلة إلى مكان يعبّر عن ضمير جمعي مرتبط بمصير المرسِل الفرد عبر سرد محكوم بتعابير إنشائية رومانسية جميلة، وعواطف عاصفة مدمرة أحيانا ومستكينة في أحايين أخر، شاعرية أحياناً وقاسية في أحايين أخر. تلتزم بكونها رسائل أحياناً وتتحرر من التزامها في أحايين أخر. تقفو وراء كونها قصصاً أحياناً وتتخلى عن القص في أحايين أخر. تلامس ملامح السيرة أحيانا وتنسحب عنها في أحايين أخر. تقصينا كقراء عن محدداتها أحيانا وتقربنا منها في أحايين أخر. وهكذا تستمر بحار المجموعة بقذفنا تارة إلى الشواطئ الباردة، وتارة إلى شواطئ الجحيم. وإذا عاينا المجموعة الأخرى (هجرة القمر) فإننا نجد أن الكاتبة مستمرة في اشتغالها على الموضوعة ذاتها من أول القصص إلى آخرها.
أخيراً عندما أتأمل المجموعتين كاملتين فإنني أجد جراء تسلسل الحكايات، والأحداث، والمنطق فيهما أنهما شيّدتا جسراً عائما بينهما وبين الشكل الروائي التقليدي.
تحية كبيرة للقاصة المبدعة أمل مطر التي أسعدتنا بأجواء مجموعتين بعقوبيتين بامتياز.
هجرة القمر/ مجموعة قصصية صادرة عن دار المتن في بغداد 2016
صهيل الذاكرة/ مذكرات/ مجموعة رسائل صادرة عن دار المتن في بغداد 2017.
مجموعة هجرة القمر/ قصة الامتحان صـ14
من مقدمة مجموعة صهيل الذاكرة.
رأي اليوم