نزار حسين راشد: حوار من طرف واحد
قال صديقي:ما بالك إذا ذُكر السّلفيون،انكشف سنّك وانفرجت أساريرك،واهتزّ جذعُك ضاحكاً؟!
فقلت:لي معهم قصّة وحكاية!
-إحكِ لي إذن!دام فضلُك، وأورف عزُّك!
-كان من مقررات منهاج اللغة العربيّة،مقاطع من قصيدة “نهج البُردة” للبوصيري!وقد مسّت هذه القصيدة شغاف قلبي،لا بل نفذت إلى أعماقه بلا انعطافٍ ولا التفاف، حتّى كُنتُ إذا أنشأ المعلّم قائلاً:أمن تذكّر جيرانٍ بذي سَلَمٍ،لا أملك نفسي من أن أُتمّ مترنّماً صادحاً،ومائلاً بأعطافي ورأسي،من جانبٍ إلى آخر!
وكان المعلّم يتجاوز مبتسماً عن سلوكي الخارج عن القواعد والأصول المدرسيّة،لسببين:أوّلهما نبوغي في اللغة والأدب،وثانيهما حتّى أغضّ الطرف عن هِنة له هنا،أو خطأٍ له هناك،ولا أثيرها على مسمعٍ من الطلّاب!
ولكنّ الذي ثارت حفيظته ولم يتمالك نفسه من التصدي لي والوقوف في وجهي،هو طالبٌ استقطبه التيّار السلفي،حتّى قال لي يوماً متصنّعاً النُّصح،ومتكلّفاً كبت غضبه،ومخفياً إيّاه تحت نبرة المرشد:
-ألا تدري أنّ هذه القصيدة شركيّة،وأنّ في مضامينها الكثير من الشّرك؟
-كيف يا صديقي!؟
-أولاً لأنّ البصيري توسّل بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم ليشفى من مرضه والتوسّل بالميت حرامٌ وشرك،وثانياً لأنّه زعم أن علم الرسول صلى الله عليه وسلّم من علم اللوح والقلم أي علم الله، فساوى بين الله والرسول وهذا شرك!
-في كلامك يا صديقي كثير من المغالطة أولُّها أن البصيري توسّل بالرسول لله،ولو كان ساواه بالله لدعاه ليشفيه دون حاجة للتوسل به إلى الله،هذا من ناحية،ومن جانبٍ آخر فقد توسّل عمر بعبدالله ابن عباس،فمن أكرم على الله الرّسول أم ابن عباس؟فإن قلت أنّ ابن عبّاس حيُّ والرسول ميّت،فحسب الأحاديث التي تصححونها أنتم فالرسول حيّ في قبره ويردُّ سلام مَن يسلّم عليه!ثم إن الرسول جاء بالوحي”القرآن” فإن لم يكن القرآن الذي علّمه الله إيّاه علمُ لوحٍ وقلم فماذا يكون ؟علم تنجيمِ وتحزير؟!
المهم أنّ الشّاب تلجلج وانسحب،فهم لم يلقّنوه كيف يجيب بل لقّنوه كيف يدين فقط!والمهم أنني ناديت خلفه وقلت له:إن كانت هذه القصيدة شركاً فأنا زعيم المشركين!ولم يملك إلا أن يقول لي:
-أنت أصلاً من الإخوان!
وقد دارت بعدها الأياّم وتصرّمت ،وتطاولت وانقضت،ونال صديقي هذا درجة الدكتوراة وأصبح مدّرساً للشريعة في أحد الجامعات في العربية السعودية!
وحدث أنني عثرت على اسمه عَرَضاً على فيس بوك وتويتر،وهو يغرّد و”يُبسّت” من على منابرها بالمواعظ ـفأرسلت إليه بالتحيّة تلو الأخرى،والسلام تلو السلام،والسؤال عن أحواله والدّعوة لكفّ الملام،ولكنّه اعتصم بالصّمت ولم يجب نداءاتي،وقدّرت طبعاً أنّه في الأجواء المشحونة التي نعيشها والاتّهامات التي تطلق بلا وازع من هنا وهناك،بقي على فكرته القديمة أنني من الإخوان،وأنّ تواصله معي قد”يودي به إلى “حلقة اخيرة” فامتنع عن التواصل معي!
وكعادتي في المجابهة والمواجهة، وخاصةً مع الجبناء والمتنطعين ،لم أوفّره فأرسلت له متسائلاً :
-ألا تشرح لطلابك مداليل الآية الكريمة”وتخشون النّاس والله أحق ان تخشوه إن كنتم مؤمنين” والحديث الشريف”قل لواجتمعت الإنس والجن على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وعلى أن يضرُّوك لم يضُرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك” أم أنك اكتفيت بشرح تحريم التوسّل بنبيّنا صلى الله عليه وسلّم؟ ووقّعتُ رسالتي :رأس الشرك:عاشق البوصيري، الحافظ لنهج البُردة!أخوك في الله…………!
في الحقيقة يا صديقي يحزنني كثيراً وضع صديقي وأمثاله،وتمسّكهم بهذا الفهم النّيء والسقيم وإشاحتهم عن أجمل ما في الدّين من لفتات، وما على شجره من ثمرات ،وما في تاريخه من آيات وإبداعات،ساطعة مشرقة،كأنما خُطت بماء الذّهب ،وعلى رأسها قصيدة البوصيري”نهج البردة”!
المصدر:رأي اليوم