انت هنا : الرئيسية » الواجهة » السفسطائيون.. بين الحقيقة والتضليل

السفسطائيون.. بين الحقيقة والتضليل

PHILO

لجينه نبهان

سنتناول في هذا المقال موضوع السفسطة والسفسطائيين؛ أفكارهم، ظروف نشأتهم، أعلامهم، واتفاقهم واختلافهم مع من سبقهم. وكان دافعي في اختيار الموضوع، والبحث فيه، هو الإضاءة على ما لحق بهذه الفئة من تشويه استمر حتى القرن التاسع عشر، حيث تمّ إنصافهم إلى حدّ ما، لكن ورغم ذلك لم تزل الفكرة مغلوطة لدى الكثيرين الذين مازالوا يستخدمون المصطلح بمفهومه المشوه:

(السفسطة هي الحديث بغرض الحديث، أو الكلام الذي لا يفضي إلى شيء).

بداية.. لا بد من تعريف السفسطة، ومحاولة فهم الظروف التاريخية التي تهيأت لظهور السفسطائيين.

السفسطة.. كما تشير أغلب الكتب، هي مذهب فكري فلسفي نشأ في اليونان في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس قبل الميلاد، في مرحلة بدأ فيها انحسار سطوة فلاسفة الطبيعة، متزامناً مع انحسار الأوليغارشيا (حكم الأقليات)، ليتم التركيز على الإنسان والاهتمام به: مكانته، حرية منطقه، مذهبه العقلي، ودوره في المجتمع. حيث قامت شيئاً فشيئاً ديمقراطية في أثينا: مجالس للشعب، وقضاة شعبيون. وكان شرط  هذه الديمقراطية الفتيّة كي تعمّ وتزدهر، أن يكون الشعب متنوراً بالدرجة الكافية، ليستطيع المشاركة في السيرورة الديمقراطية، وهنا تهيأت الظروف التاريخية لظهور السفسطائيين الذين توافدوا من المستعمرات الإغريقية على شكل جماعات، واستقروا في آثينه، وبدؤوا بالفعل تعليم الناس مقابل أجر مالي.

أصل الكلمة

أصلها ينحدر من (سوفيسوس) sofia صوفيا. أي الحكمة والمهارة والأسبقية. والرجل (السوفوس) sofos هو الرجل البارع والعالم والجهبذ والحكيم.

أما السفسطة كـمعنى ومفهوم.. فهي مجادلة تبدو كأنها موافقة للمنطق، لكنها تصل في النهاية إلى استنتاج غير مقبول، سواءً لتعذره أو لاستعماله الإرادي المغلوط لقواعد الاستنتاج، وبالتالي فإنه يمكن اعتبارها قولاً مموهاً، أو قياساً له شكل صحيح لكن نتيجة باطلة!. القصد منه تضليل المحاور. لذلك تم الخلط أحياناً بين السفسطة والمغالطة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما يميز الأولى عن الثانية أن السفسطة هي الرغبة الإرادية لدى السفسطائي بتضليل محاوره بهدف إحداث ارتباك فكري لديه (الآخر) يدفعه إلى التعمق في حججه الفكرية، ومن هنا ربما جاءت مقولة أن السفسطائيين تلاعبوا بالمدارك الفلسفية، لكنهم أفادوا المجتمع في أنهم أثاروا في نفوس الشباب الرغبة بالعلم وطلب المزيد منه.

وبالعودة إلى الفرق بين السفسطة والمغالطة، إذاً السفسطة تضليل إرادي هادف، بينما تبقى المغالطة لا إرادية.

إن هذا التحول الذي حدث في المجتمع الأثيني بالتوجه نحو الإنسان والابتعاد عن الغيبيات والتركيز على المنطق والعقل أثار حنق رجال الدين وذوي التوجهات اللاهوتية ومن ماثلهم بالاستفادة من الوضع الذي كان قائماً قبل هذا التحول، وإن الدور التعليمي والمعرفي الذي قام به السفسطائيين جعلهم يتلقون موجة الغضب والتشويه التي ذكرناها. حيث بدؤوا يكيلون لهم الاتهامات على أنهم السبب في غضب الآلهة على مدينتهم التي طفقت تنهار.

أفلاطون.. يقلل من شأنهم

ولقد كان أفلاطون على رأس المناهضين لهم، حيث ألّف عنهم خمس كتب عمد فيها إلى تشويه صورتهم والإساءة الشديدة لهم، ومن أهم التعريفات أو النعوت التي ألصقها بهم وضمّنها كتبه، أن السفسطائي صياد نفعي للشبان ذو طمع وجشع يشتري ويبيع أنواع التعاليم والمعارف دون علمٍ منه هل بضاعته صالحه أم فاسدة!، وأنه صغار مرتزقة ومناضل في حلبة الرياضة والخطابة، وماهر في المشاحنة والمعارضة والمناقضة، وهو مشعوذ ووحش ضار يلجأ إلى فن المخاتلة والصيد والاتجار.

وقد قال أفلاطون عن السفسطة أيضا: أنها الإيحاء أو الإيهام وخطابها مليء بالسحر والشعوذة، وبوجيز العبارة هم أدعياء معرفة يحاولون محاكاة الحكماء وهنا يمايز بين ثلاث فئات:

فئة السفسطائيين

فئة السياسيين

فئة الفلاسفة

وكأنما يقول أن هؤلاء ليسوا بمفكرين، ولا هم بفلاسفة!

سقراط.. يلتقي ويختلف معهم

أما عن الفيلسوف الأول سقراط وعلاقته بهم فقد التقى معهم في نقاط واختلف بأخرى. حيث كان هو الآخر يمتهن التعليم واهتم بالإنسان وركز عليه، لكنه اختلف معهم في أنه بيّن أن بعض القواعد والنواظم مطلقة، أهمها: الحق والباطل، والخير والشر. (بعكس نظرية أهم أعلام السفسطائيين بروثاغوروس الذي تحدث بالنسبية في النظر إلى الأمور وتقييمها).

وجعل سقراط جداله محاذياً للمنطق، فامتاز في الجدل بأنه جعل رد  السؤال بسؤال من جنسه حتى يستنبط الجواب من السائل نفسه. وربما كان متأثراً في ذلك بأمه التي كانت تعمل قابلة. فالجواب هو الجنين الكامن في كلّ منا، نملكه لكننا نحتاج أحياناً لمن يساعدنا على ولادته. لا شيء يأتي من خارجك.

أهم أعلام السفسطائيين

 بروثاغورس (480-411): كان من أهم أعلام السفسطائيين. وكان أول من فكر في قوانين النسبية (كما ذكرنا سابقاً) ويعتبره البعض الملهم لإنيشتاين. حيث قال من ضمن نظريته القديمة في النسبية ‘‘أن قيمة الأشياء نسبية، فليس ثمة خير من نفسه، أو شر في نفسه، وإنما هو خير وشر، عدل وظلم’’.

وقد كان هو الآخر مستوحي رفضه كل حقيقة مطلقة من هيراقليطس والقول بمبدأ التحول. فالإنسان في نظره كان مقياس كل شيء، حيث أنه مقياس الموجود من الأشياء واللاموجود منها. وما يجدر ذكره أنه عندما سُئل عما إذا كان يؤمن بآلهة الإغريق اكتفى بالقول: ‘‘إن هذه المسألة دقيقة وحياة الناس قصيرة’’.

أيضا هناك غوريغاس (485 – 380) ق. م الذي كان يؤمن بأن الكلام قادر على إقناع الإنسان بأي شيء يريده المتكلم، فقط عندما تتوفر قوة الإقناع لديه (وهذا ما حاولوا أن يعلموه فعلاً).

أهمية السفسطائيون وما قدموه للغة والفكر:

وبعد أن سلطنا الضوء على رأي كل من أفلاطون وسقراط في السفسطائيين، وأشرنا إلى أهم إعلام السفسطائية وما قدموه، على سبيل المثال لا الحصر، من سبق في قوانين النسبية، وكونهم ألهموا إنشتاين، كما يعتبر البعض. سنسعى في النقطة التالية للمقال لإثبات  تأثير السفسطائيون في اللغة والفكر.

فبالرغم من كل ما تعرض له السفسطائيين من تشويه في كل ما يخصهم، ورغم إحراق كتبهم، محاولةً لطمس وجودهم وليس فقط فكرهم، فقد كانوا أول من اخترع علم الاشتقاق (اشتقاق الكلمات) أو الاتيمولوجيا، ووضع القواعد اللغوية، كما أنهم أول من حاول دراسة مختلف أنواع البراهين والحجج بغض النظر عن معرفتهم في هذا المضمار أو ذاك.

فقد كانوا سادة فن الكلام، يكتبون الخطب في كل المناسبات حتى وإن كان ذلك بغرض الكسب والمال، وبالتالي فإنه يمكن اعتبارهم بحق مؤسسي فن الخطابة، وما كانوا ليترددوا أبداً في استعارة الحجج والأمثال من مفكرين سابقين، أو حتى من الأساطير (التي كان بروذيكوس) المُحبذ للنقد الديني يقول بأنها مجرد سير ذاتيه مُجمّله، وربما كان هذا من الأسباب التي أثارت الغضب عليهم أيضاً.

إذاً.. وبسبب موقفهم النقدي من جهة وغير الامتثالي من جهة أخرى، قام السياسيين بتبنيهم وكسبوا عداء الاثنين المتدينين من جهة أخرى.

كان السفسطائيون يحبون التجوال في العالم، عامدين إلى المقارنة بين مختلف نماذج الحكومات ملاحظين الاختلاف، وهكذا انطلقوا بالاعتماد على ملاحظاتهم يطرحون النقاش حول قضايا مهمة، كالتمييز بين ما هو محدد من قبل الطبيعة، وبين ما هو مكتسب وناشئ عن المجتمع. وهكذا أقاموا أُسس نقد المجتمع في إطار النظام الديمقراطي الأثيني، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يلاحظوا أن عبارة (الحياء الطبيعي) مثلاً لا تقابل دوماً أشياء حقيقية!، ذلك أنه إذا قيل عن إنسان أنه خجول بصورة طبيعية، فإن ذلك يعني ضمناً أن هذا الخجل فطري، مع أن الحقيقة غير ذلك.

فالخجل ليس بالأمر الفطري، وليس خوف الإنسان من الظهور عارياً أمام الناس من عدمه، إلا أمر يتعلق بعادات وأعراف المجتمعات.

مما سبق ومن بعض ما سيأتي يصح القول أن السفسطائيين كانوا من أوائل المذاهب الفكرية التي تعرض أتباعها للتنكيل والنفي والقتل لمجرد كونها تخدم مصلحة الضعفاء، وتشكل انقلاباً على المسلّمات. فقد قتل أغلب قادتها وشُرد الباقون مثل ما حصل لــ(هيبياسي) الذي كان من أشهر قادة الديمقراطيين والذي تعرض فيما بعد للإعدام. و(بروتاجوراس) الذي أوكلت إليه مهمة وضع دستور للبلاد الإغريقية إبان الحكم الديقراطي الجديد، فأحرقت كتبه ونفي عن أثينا. و(بروديقوس) الذي عذب وحوكم بشرب السم بتهمة إفساد عقول الشباب.

وهكذا فقد تم بالفعل تشويه صورة هذه الفئة الفكرية الفلسفية واستمر الحال كذلك حتى القرن التاسع عشر، والثورة الألسنية التي استهلها (فردينان دي سوسور) الذي أشار وركز على فضل السفسطائيين والدور الذي لعبوه، حيث أكدت هذه الثورة أن السفسطائيين كانوا فلاسفة، بل أساتذة في فن القول والخطابة والبلاغة.

كاتبة سورية

_________________________________________

المراجع:

– كتاب السفسطائي لأفلاطون

– كتاب عالم صوفي لغوستاين غاردير

– موسوعة ويكيبيديا

المصدر:رأي اليوم

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى