الهام الطالبي: 2017 الأخ الأكبر: رواية لم تكتب بعد
الهام الطالبي
لمن عساه يكتب هذه المذكرات ؟ خطر هذا السؤال في بال بطل رواية 1984 لجورج أورويل ويستون سميث الذي كان حينها أمام خيارات عدة ، من بينها الكتابة من أجل الذين لم يولدوا بعد غير أن واقعه الاستبدادي جعله يتخوف من أن يكون المستقبل شبيها بالحاضر وأن يكون مصير كلماته النسيان .
بيد أن كلماته لازالت الى وقتنا الراهن تصدح بقوة وتفضح اليات الأنظمة الديكتاتورية وحتى لغتها الجديدة ، فيكفي ان تستخدم كيليآن كونواي مستشارة الرئيس دونالد ترامب مصطلح ’حقائق بديلة الأمريكية’ في مقابلة تلفزيونية حتى تعود رواية مؤلف مزرعة الحيوانات لتتربع على عرش المبيعات ،وهذا ما يجعل من كلمات ويستون سميث بطل المؤلف أداة لتفكيك الأنظمة الشمولة وإدراك اوجه اللغة الجديدة للأخ الأكبر في عصرنا الحالي .
يعرض جورج اورويل عقل المواطن الذي تقولبه الأنظمة الشمولية وكيف يجعله خادما للنظام بطاعة عمياء ’كبارسونز’ زميل ونستون في وزارة الحقيقة ،نموذج للإنسان الذي ينشأ في ظل الأنظمة الديكتاتورية حيث يجمعُ بين النشاط والغباء مفعم ’بالحماسة الحمقاء’ يقربنا اورويل من شخصيته قائلا ’انه من اولئك الكادحين المخلصين الذين لا يسألون عن شيء أبدا ،والذين يعتمد استقرار الحزب عليهم حتى أكثر من شرطة الفكر نفسها ’.
صيرورة صناعة وعي اجتماعي للأفراد خاضع ومتوهماً بأن للأخ الأكبر قوة اسطورية ووجود مؤامرات تحاك للإطاحة بالنظام تعتمد بالأساس على صحافة متحكم فيها وعلى اجهزة تمسح التاريخ وتكتبه من جديد وتعدل النصوص والمقالات وتصحح التنبؤات والتصريحات الخاطئة للأخ الاكبر كما يتم رمي الوثائق الاصلية في الفرن لكي لا يطلع عليها الشعب الذي يفضل ان يستهلك احط انواع المواد الاباحية التي يجري ارسالها لهم في مغلفات مختومة بيد أنه يمنع على اعضاء الحزب الاطلاع عليها .
يضيف مؤلف تحية لكتالونيا تصوير مشاهد صناعة الفرد المستلب قائلا انه لا تقتصر وظيفة ونستون عند تعديل وإتلاف المقالات والكتب بل تصل احيانا الى اختراع النصر العسكري او نصر زيادة الانتاج أو خلق شخصية غير موجودة لإحياء ذكراها بغية تكريس الامر اليومي من اجل تخليد ذكرى احد اعضاء الحزب بحيث تصبح حياته وموته مثال يستحق اتباعه ، وتتحول بذلك هذه الشخصية الى مسلمة من المسلمات لدى الشعب تستميلهم عاطفيا وتحرك وجدانهم الى طاعة النظام .
يدأب النظام الشمولي الى خلق لغة جديدة وتدمير كلمات وخاصة الافعال والصفات نظرا لأن اللغة تشكل الوعاء الحضاري لشعوب فنظام الأخ الأكبر لن يسمح باستخدام لغة تساعد على بلورة الفكر النقدي ، و يشير سايم المتخصص في اللغة الجديدة الى أن الهدف من اللغة الجديدة هو الحد من التفكير بحيث تصبح جريمة الفكر أمرا مستحيلا ، وبالتالي سيعبر الناس بكلمة واحدة لتطمس بذلك الكلمات والمعاني المتعددة ويطمس معها التمرد على النظام ’سوف تتناقض الكلمات عاما بعد عام ، مثلما يتناقض الوعي والإدراك شيئا بعد شيء بل ان جريمة الفكر ما عادت تجد سببا أو عذرا يبرر اقترافها …ويصير نوع من الضبط يفرضه المرء على ذاته ’.
يعرف الصحافي والروائي البريطاني الولاء عند النظام الشمولي انه انعدام لتفكير بل يعني أكثر من ذلك انعدام الحاجة لتفكير لأن هناك أجهزة ومؤسسات تفكر عوضا عن الفرد الذي ينبغي أن يعيش حياته وهو يمارس رقابة على نفسه وعائلته وجيرانه وأصدقائه وزملائه، فبمجرد ان يتم رصد التفكير في الخيانة أو الكتابة أو عدم حضور مناسبات الشنق قد يكلف ذلك الانسان حريته وحياته لأن جميع من يحيط به يترصد تحركاته .
لا يفوت الكاتب البريطاني اورويل المصنف حسب صحيفة تايمز في المرتبة الثانية في قائمة اعظم 50 كاتب بريطاني منذ عام 1945 توضيح قواعد الفكر المزدوج في الحزب لافتا الى أن نظام الاخ الاكبر يحرص على ابقاء العامة خاضعين كالحيوانات يفتقرون للمعرفة التي تشكل الهاجس الأكبر لدى النظام الأخوي ، كما لا يكترث الحزب لباقي نشاطات العامة كالتناسل فهم يولدون ويترعرعون ثم يمرون بفترة قصيرة يتفتح جمالهم ورغبتهم الجنسية ويتزوجون ويبلغون منتصف العمر في الثلاثين ثم يموت غالبيتهم في الستين بعد ان كانت انفاق عقولهم منهكة بالعمل الشاق والاهتمام بالمنزل والأطفال والشجارات التافهة مع الجيران والافلام وكرة القدم ، ان حياتهم اليومية خالية من تفكير في المواضيع المهمة أو بالأحرى كما يصفه المؤلف ’الشر الأكبر’،تجعل من النظام لا يجد أي صعوبة في ابقاءهم تحت السيطرة .
يقول جورج اورويل ان المشاعر السياسية لم يكن مرغوبا فيها بل كان مفروضا عليهم ذلك النوع من الوطنية البدائية التي تدفعهم الى العمل ساعات عمل اطول ، وبالإضافة الى أن انتشار الجرائم والمومسات ومروجي المخدرات لم تكن مثل هذه الظواهر تثير غضب النظام بسبب انتشارها بين العامة ، في الوقت الذي ينبغي ان يلتزم أعضاء الحزب بالطهرانية وأن يظلوا بمنأى عن أي شيء يشتت تفكيرهم.
لفت سميث بطل الرواية أن عامة الشعب لو أدركوا مدى قوتهم لما كانت هناك حاجة للتآمر، فكل ما يحتاجه الأمر أن ينتفضوا مثلما ينتفض الحصان لإزاحة الذباب بعيداً عنه. ولو أرادوا لمزّقوا وأحالوا الحزب هشيماً تذروه الرياح بين عشية وضحاها، ولا بد أن يخطر لهم ذلك إن عاجلاً أو آجلاً .
المصدر:رأي البوم