انت هنا : الرئيسية » اخبار متنوعة » نيّالهم !

نيّالهم !

هدى بركات

غداة صدور الكتاب، أي في الثامن من الجاري، بدت الحكومة الفرنسيّة منشغلة بـ”قضيّة” إيمانويل تود أكثر من انشغالها باحتفالات ذكرى نصر الحلفاء على ألمانيا النازيّة. نشرات الأخبار والشاشات المتخصّصة أعلت التراشق بين تود ورئيس الوزراء إلى عناوين الصدارة، وراحت تتابع الردّ والردّ على الردّ بين الإثنين في باب الخبر العاجل
ذلك أن إيمانويل تود، المؤرّخ وعالم الاجتماع والديموغرافيا والأنتربولوجيا، وأحد أهمّ مثقّفي فرنسا المستقلّين، بل والأحرار، أصدر كتابا موجعا يراجع فيه بالعمق تظاهرات الاستنكار بعد مقتلة شارلي إبدو، التي للتذكير نزل خلالها أكثر من أربعة ملايين فرنسي شاجب ومتضامن مع “حريّة الكلمة والتعبير”. اليسار الفرنسي، الذي كان ينزلق انحدارا في استطلاعات الرأي، مدفوعا بخيبة أمل جارفة لم تعرفها فرنسا من قبل في تاريخها الحديث، وجد في التفاف “الشعب” حول حزبه الحاكم مصلا يحيي العظام… وبالطبع تلت ذلك انتقادات كثيرة، لم تصل إلى الراديكاليّة المؤذية التي ضمّنها تود في كتابه: “من يكون شارلي. سوسيولوجيا أزمة دينيّة” الصادر إذن يوم السابع من الجاري عن دار “سوي”.”

تحفّظ تود طويلا على إبداء الرأي في ما جرى، جحافل المثقّفين الفرنسيين، إن صحّ التعبير، وجدت في أغلبيتها الساحقة الماحقة ما يستدعي الفخر والثناء على “يقظة الروح” الفرنسيّة وولعها بالحريّة والمساواة وهي تحمل شعار “أنا شارلي” عاليا متدفّقة في شوارع المدن الكبرى. لم نسمع صوت تود. انتظر أربعة أشهر، ثمّ كتب كتابه الأخير إذن بظرف شهر واحد.

لايمكن اختصار ما جاء في الكتاب. لكن قراءة عاجلة استدعتها ردود فعل فرنسا الرسميّة الغاضبة والشاجبة وأيضا تلك المستعرة “الموالية لروح شارلي” دفعت بي إلى إحدى المكتبات النادرة غير المقفلة في العطلة. سبب آخر شخصي هذه المرّة هو أنّ كاتبة السطور كانت كتبت نصاً – بطلب من إحدى أكبر الصحف الفرنسيّة – لم يحتف ولم يهلّل ولم يتضامن كما كان ينبغي لكاتبة عربيّة… المهمّ أن كتاب إيمانويل تود كان ضرورة ملحّة. وأنا، إذ أورد القليل من أفكاره، أُبقيها دون رأيي أو أي تعليق.

– أن تسخر وتمسخ بالكاريكاتور دين من هم الضعفاء، والمهاجرين تحديدا، ليس من الحريّة في شيء. ملايين الناس الذين نزلوا في التظاهرات هم من الطبقة الوسطى المدينيّة، العمال وأوساط المهاجرين لم تكن “أنا شارلي”. المناطق الأقل تعلّقا بالقيم الجمهوريّة وتلك المتحجّرة في الكثلكة، هم في أكثريّة من تظاهر دفاعا عن العلمانيّة.. علمانيّة استنطاق أطفال المدارس في الضواحي، واستدعاء أهاليهم إلى المخافر لأنّ هؤلاء لم يلتزموا بدقيقة الصمت حدادا.

– اليسار الإشتراكي ومنذ وصوله إلى السلطة، قسم فرنسا إلى إثنتين. واحدة عليا وحّدها بضمّ المتعلّمين من أبناء الطبقة الوسطى مع كبار السنّ؛ وأخرى تركها تدبّر طبقتها العاملة، وفقرها وجهلها وشبابها من الأصول المهاجرة. النيوجمهوريّة هي من خلَق اليمين المتطرّف، وهي من يذكّر مسلمي فرنسا كلّ يوم بأنّهم مسلمون وليسوا مواطنين عاديين، وفي هذا علامة إفلاس مجتمع كاثوليكي تخلّى هو نفسه عن الدين ولا يفهم أن يكون الأمر مختلفا عند غيره… فراح يبحث عن ضحيّة تلوح فيها أبسط الشعارات الدينيّة، دافعا دفعا بشباب المهاجرين إلى فقر وبطالة وعزل لا يُبقي أمامهم سوى الانتماء الديني. فيما المناطق المسيحيّة تقليديا، والتي ترأف بها علمانيّة الحكومات، استطاعت إنشاء روابط شعبيّة تضاميّة تخفّف بعض الشيء من وطأة الأزمة الاقتصادية والبطالة والفقر… وإلاّ ما الذي بدأ حتى اليوم من المشاريع التي أعلنت عنها حكومة فرنسا لكسر عزلة الضواحي غداة مقتلة شارلي؟ الجواب: صفر.
– إن مشاعر الإسلاموفوبيا أو كره الإسلام، التي طبّعها وشرعنها “فلاسفة التعصّب” وهم من أمثال فنكلكروت أو زيمور – الإثنان يهود – سهّلت ما صار ردّة للأقليّات الدينيّة كافة. فتأجّجت مشاعر العدائيّة ضد اليهود بالفعل نفسه. فالسياسة، السياسات الحكوميّة الاشتراكية هي المسؤولة ب”يساريتها” المزيّفة عن تأليب الأقليّات، وعن عدائيّة إحداها للأخرى.
الكتاب بمجمله مقاضاة لجمهوريّة فرنسا الحديثة. وهو رؤية شديدة التشاؤم بإمكانيّات المجتمع الفرنسي للخروج من أزماته الكبرى، التي أصبحت مع قضيّة شارلي في عداد الأزمات الوجوديّة بنظر إيمانويل تود.

رئيس الوزراء الاشتراكي الفرنسي، الذي وصفه تود بالجاهل واللامسؤول إذ ينشغل بالهجاء المقذع لكتاب أوعز لمعاونيه بـ”اختصاره” له، فيما البطالة تتجاوز العشرة بالمئة. أكثر من هذا يصف تود “تفاؤل” إيمانويل فالس بالتزييف القصري للحقائق كمثل ما كانت عليه مواقف الماريشال بيتان المتعاملة مع النازية! فالس يكرّر المطالبة باعتذارعلني من تود! دوافع فالس سياسيّة طبعا، لكن ردود تود عليه أغرقته في الطين وبلّته.

يستطيع أيّ كان أن يناقش تود ويردّ ربما حججه وما فيها من مغالاة. لكن لا أحد يستطيع أن يتهمه بكره بلاده إذ كان كتب الكثير في “حبّها” وإيمانه بميّزاتها.
نقد هفوات الأوطان هو تحديدا حبّ الأوطان بالثمن المستحّقّ… نيّالهم.
المصدر:المدن

عن الكاتب

عدد المقالات : 1688

اكتب تعليق

الصعود لأعلى