انت هنا : الرئيسية » اخبار متنوعة » المرأة العربية المهاجرة تتجاوز أزمة الهوية وتدخل معركة المواطنة

المرأة العربية المهاجرة تتجاوز أزمة الهوية وتدخل معركة المواطنة

باسل العودات – وكالة أخبار المرأة “
تعتبر حركة الهجرة النسوية العربية حديثة نسبيا. وبدأت تبرز كظاهرة تستوجب البحث والدراسة خلال العقدين الأخيرين مع بروز أجيال جديدة من النساء المقيمات في بلدان الاستقبال، مشاكلهن تأخذ طابعا مختلفا عن مشاكل الجيل الأول من المهاجرات العربيات، اللاتي عشن مرحلة انتقالية صعبة وعميقة ذات أبعاد حضارية وثقافية. وقد ساهم تنامي حركة هجرة الكفاءات العلمية من النساء في اكتساب الهجرة النسوية العربية أبعادا اجتماعية وثقافية وسياسية لم تكن مطروحة من قبل.
لماذا تهاجر المرأة العربية من بلدها وتُفضّل الانتقال إلى مجتمعات جديدة وغريبة عنها؟ سؤال يطرح إجابات عديدة تتعلّق بوجود حوافز وأسباب متعددة اقتصادية وسياسية وقانونية واجتماعية بالإضافة إلى الحروب والصراعات والسياسات الدولية التي تترك تأثيرات كبيرة على حركة البشر الجغرافية.
عرض سريع لوضع المرأة في العالم العربي يساهم في الإجابة عن جزء كبير من السؤال، فالأوضاع الاقتصادية في بلدان المنشأ تضع من انسدّت الآفاق أمامهن أمام خيار الهجرة، لكل مغامراتها، ولو عبر قوارب الموت، لتأمين لقمة العيش وبحثا عن فرص لم يجدنها في بلادهن، حيث اندماج النساء في العملية الاقتصادية دون المأمول، عدا عن تواصل التمييز ضدهن في العمل والترقية.
المنطقة العربية قادرة على استيعاب 3 أضعاف حجم سكانها، لو أُحسن استغلال الثروات التي تنعم بها وتمّ توزيعها بشكل عادل (تزخر بثلثي احتياطي العالم من النفط القابل للإنتاج والتصدير، وبنسبة هامة من الغاز الطبيعي الذي يصدّر للعالم، وهي غنية بخامات ضرورية للصناعة كالحديد والألمنيوم والذهب والفوسفات والمنجنيز والقصدير واليورانيوم وغيره). ومع ذلك، تُصدّر أعداد مهولة من النخب والأدمغة إلى جهات العالم الأربع، كما أن مئات المليارات من الأموال العربية تذهب إلى الغرب لتستثمر فيه.
وظلّ البناء الذاتي للدول العربية المصدّرة لليد العاملة (على الرغم من الجهود التي تصدّت إلى مشاكل التنمية) غير قادر على امتلاك المقومات الاقتصادية والاجتماعية للإيفاء بحاجات شعوبها. ولتجاوز العجز والتبعية الاقتصادية للرأسمالية وللشركات متعددة الجنسيات. كذلك عجزت هذه الدول عن استيعاب أبنائها المهاجرين الراغبين في العودة إليها، بعد أن كانت قد فرّطت في الفائض السكاني لديها وتضرّرت من خسارته.
لم يبقَ أمام المهاجرين والمهاجرات سوى القبول بسياسات الإدماج والعيش في مجتمعات تقاليدها تختلف بشكل كبير عن تقاليد المجتمعات العربية.
ورغم وجود اختلافات نسبية تتعلّق بأوضاع النساء بين بلدان المنطقة العربية، وذلك حسب المستويات والمحددات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها داخل كلّ بلد، إلاّ أنّ ذلك لا ينفي وجُود قواسم مشتركة في ما يتعلّق بأوضاعهن كنساء مهاجرات في دول العالم، ويختلف المختصون في تقييم هذه الهجرة بسبب تشابك السلبيات والإيجابيات فيها.
من الناحية القانونية، وقّعت معظم الدول على اتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة. كذلك أدخلت بعض البلدان العربية تعديلات على قوانينها لإحراز هدف المساواة بين الجنسين، ومنها من أسّست للتمييز الإيجابي لدفع عجلة المساواة، مع توصيات بوجوب اتخاذ كافة التدابير لتأكيد المساواة بين الجنسين، بإلغاء الحواجز التي تعيق تقدم المرأة ومشاركتها الفعلية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
لكن رغم ذلك، ترى فيوليت داغر، رئيسة اللجنة العربية لحقوق الإنسان، في إطار ورقة بحثية لها، أن التوقيع على الاتفاقيات يُفيدُ بأنه لا وجود لتحفظات عليها، كما لا يعني أن التطبيق على الأرض يتقيد بهذه التوقيعات.
ويبقى الفرق شاسعا بين التشريعات ومدونات الأحوال الشخصية وبين الواقع المعيش، فالعنف ما زال مستشريا، والسياسات المتّبعة ترى أنّ الضرر الذي يمكن أن ينتج عن التّحرر أكبر من منافعه، وهو ما يحول دون الدفع من أجل تطبيق ما نصّت عليه الاتفاقيات، لذلك بقيت المرأة غائبة عن مراكز صنع القرار، وحتى عندما تصل إلى مواقع قيادية أو إلى مناصب وزارية، فذلك يكون غالبا رمزيا.
مع التقلّبات الهامة التي تشهدها المنطقة العربية، تتجمع في قضية المرأة كل عناصر الأزمة العامة في الدولة والمجتمع. أي انهيار التوازنات الاجتماعية والسياسية التي تضمن للجماعات تجديد إنتاج وجودها المادي والمعنوي. وفي جو الحروب والأزمات تدفع المرأة الثمن الأكبر، خاصة في ما يتعلق بالعنف الجسدي والجنسي. ففرض مشروع قروسطي من خلال انتهاج التكفير والعنف والإقصاء يؤدي حتما إلى تصدّع في البناء الاجتماعي وكذلك إلى الصدام والانقسام واستشراء العنف والتدمير. لقد أحدث سقوط الأقوياء اختلال توازنات، خاصة مع التدخلات الخارجية، وأدى إلى قلق كبير وإيقاظ الوعي القبلي والطائفي والهويات الضيقة، كما مثّل فرصة لنمو التطرف الديني وكسر التوازن الهش في المنطقة. فبرزت حالة ارتكاس للعلاقات العضوية وانتماءات العشيرة والطائفة، باعتبارها الحامي للأشخاص في دولة لا تحمي مواطنيها.
أي حوافز للهجرة؟
الصورة شبه القاتمة عن واقع المرأة في بعض المجتمعات العربية تعتبر أحد الأسباب التي تدفع المرأة العربية نحو الهجرة. كما تعدّ مبرّرا لإدراك أسباب الازدياد المطرّد لعدد النساء اللائي يهاجرن بمفردهن بعد أن كانت هجرة العنصر النسائي من أفراد الجيل الأول من المهاجرين في أغلب الأحوال هجرة زوجات أو إناث يلتحقن بالرّجال.
غير أنّ الجديد اليوم، يكمن في أنّ نشدان الحرية والحقوق الفردية أصبح على سلم أولويات المرأة العربية، وإن كانت المبررات المقدّمة في أغلب الحالات يجب أن تكون مقبولة من قبل العائلة والمحيط الاجتماعي. هذه المبررات تتراوح بين الدراسة أو البحث عن فرص للعمل أو الفرار من ظروف أخرى، وهذا الزحف إلى بلدان الغرب لم يتوقّف، رغم إغلاق هذه الأخيرة لحدودها بوجه من اعتبرتهن فائضا عليها.
في ذات السياق، تدل أرقام حديثة على أنّ نصف المهاجرين في العالم هم من النساء، ونسبة حاملات الشهادات العليا بين النساء أكثر ممّا هي عليه لدى الرجال. كما تدلل إحصاءات البنك الدولي على أنّ قيمة تحويلات النساء المالية، وبنوع خاص في السنوات العشر الأخيرة، كانت أكبر نسبيا من تحويلات الرجال. كذلك الحال في ما يتعلّق بمساهمتهن في تنمية بلدانهن الأصلية، رغم تحصيلهنّ في أغلب الأحوال لأجور تقل عمّا يُحصّله الرجال، وهذه التنمية أثّرت إيجابا في حقل تعليم الأطفال وتقليص الفروق بين معدلات تحصيل الإناث والذكور.
من جهة أخرى، وخلال العقود الأخيرة، لم تعد النساء المهاجرات الأميات اللاّئي التحقن بأزواجهن بعد غلق الحدود الأوروبية تمثّلن النسبة الأكبر من مجموع المهاجرات، بل باتت فئة كبيرة منهن من بين المتعلمات القادرات على التفاعل بشكل أكثر إيجابية مع البلد الأم ومع بلد الاستقبال.
وإذا كان حاجز اللغة بتأثيراته السلبية على تفاعل النساء مع المجتمعات المستقبلة، معطى أساسيا في مسألة الاندماج، فهذا العامل لم يعد بنفس الوطأة، مع ازدياد نسبة المتعلمات وحاملات الشهادات العليا بين النساء المهاجرات. لكن هذا لا يعني أنّهنّ يعملن وفق كفاءتهن ومستوياتهن العلمية، فالمرأة تتحمّل في الهجرة أعباء أكبر من تلك الواقعة على الرجل، خاصة عندما تكون مسؤولة عن عائلة أو تنتقل من محيط ثقافي واجتماعي يختلف في تقاليده وسماته عن المجتمع الجديد، وعليها أن تزرع في أبناءها وتحافظ في صلب عائلتها على تقاليد مجتمعها وعاداته.
نسبة كبيرة من النساء العربيات في المهجر، وبنوع خاص بنات الجيل الأول، هن “ربّات بيوت” في بلدانهن الأصلية وغير مساهمات في القوة العاملة. وقد أدى افتقارهنّ لأي تأهيل مهني مناسب إلى عدم التحاقهنّ بسوق العمل في البلد المُضيف. هذا بالإضافة إلى ضعف اهتمام الدول المضيفة، في أوروبا الغربية بالخصوص، باعتبارها القبلة الأقدم للمهاجرين العرب، بتنمية مؤهلات ومهارات المرأة الوافدة، وقد وجد كلّ ذلك له ترجمة في انطواء المرأة في شكل شبيه بما كانت تعيشه المرأة في مجتمعها حيث لا همّ لها سوى أسرتها وتفرّغها لتربية الأولاد وتدبير شؤون المنزل.
هذا الوضع بمجمله يبرر وجود صراعات بين أنماط تربوية في بلد الاستقبال وموروثات ثقافية متناقضة أو على الأقل غير متآلفة. هذا المناخ الضاغط، يتعزز في ظل بروز الكثير من الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تتضمن برامجها وتصريحات قادتها مواقف جدّية من المهاجرين العرب أو الأفارقة مرفقة بالدعوة إلى إبعادهم عن أوروبا، وفي أقل الحالات، التضييق عليهم وإبقائهم في مستوى متدنّ من الوظيفة والعمل والعيش اللائق وغياب التأمين الاجتماعي، مع مظاهر من التفرقة في السكن والتعليم والصحة. وضمن هذا الجو، تتحدد إمكانيات المرأة المهاجرة، من بين حاملات الشهادات، وفق الحاجة إليها في سوق العمل بالبلد المضيف، ولا يمنعها تدني مستوى الوظيفة من القبول بها عندما لا تتمكن من الحصول على ما هو أفضل ومتناسب مع كفاءتها. مقارنة بمثيلاتها من الدولة المضيفة اللاّئي ترفضن العمل في وظائف، تجدُ المهاجرة نفسها مجبرة على القيام بها من أجل تحصيل قوت عائلتها.
أين تكمن معضلة الاندماج؟
قد يستغرق التأقلم مع الثقافة الجديدة العمر بكامله، وقد تحدث معه تغييرات جمة لدى المهاجرة (نفسية وبيولوجية واجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية). وسيرورة هذا (التثاقف) تشكل قاسما مشتركا بين المهاجرين جميعا على تنوع أجناسهم وجنسياتهم، رغم أنّ حركيّة التغيير داخل ما يُسمّى بالمجتمعات التقليدية تكون أكثر بطءا بالمقارنة مع المجتمعات الصناعية.
في المجتمعات التقليدية هناك ثقافة مهيمنة تفرض نفسها على سائر شرائح المجتمع ولا تسمح غالبا بالتفرد وبنقد نموذجها، تحت طائل التهميش، خاصة عندما يكون المعني بالأمر امرأة، في حين أنّ المجتمعات الصناعية تسمح بثقافات مُتعدّدة ضمن ثقافة كُبرى سائدة، حيث يتحلّى الفرد بقُدرة أكبر على اختيار ونقد ما هو مقدم له من نماذج، بالتالي، فإن الانتقال من مجتمع تقليدي إلى آخر أكثر حداثة، يُضاعف لدى المرأة المهاجرة العناصر المؤثرة سلبا على الاندماج.
في بداية رحلة هجرة المرأة، غالبا ما تعيش حالة من الشعور بنشوة الانتصار على ما سلف، تحدوها رغبة مضاعفة في الوصول إلى المبتغى، فبلد الحلم أصبح حقيقة. والصورة المنسوجة عنه في المخيّلة باتت واقعا ملموسا. والأحلام أضحت في متناول اليد. ولن تشعر المهاجرة في البداية بألم الانسلاخ عن الجذور وفقدان الوطن كما ستشعر بهما فيما بعد. ففي المرحلة التالية، ستواجهها مشكلتا الخسارة والحداد على ما لم يعد (عملية الحداد هذه قد تطول أو تقصر وقد لا تنتهي، وإن ظهرت بأشكال مختلفة باختلاف الأفراد)، لذلك تجد المهاجرة صُعوبة قُصوى في وضع الماضي على الرّف والتركيز على الواقع المعيش بالتفاعل مع المحيط الجديد بكل ما يحمله من تجديد وتحدّ للمستجدات والصعوبات. من ثمّة ستجد أنّ الصورة المثالية التي رسمتها في مخيلتها للمكان المأمول لا تتطابق مع الواقع الذي اكتشفته، فمع عامل الوقت تتم غالبا عملية انتقال صورة “البلد ـ الحلم” من البلد المستقبل إلى البلد المتروك. وهذه المرحلة المؤلمة والمكلفة نفسيا، يمكن أن نشهد فيها سلوكيات من نوع الاكتئاب والعدوانية تجاه النفس والآخر.
ما الوضع بالنسبة إلى الجيل الثاني؟
بما أن الخلية الأسرية هي بمثابة وعاء يتلقى تعبيرات أفرادها وسلوكياتهم، وعلى اعتبار أنها تتألف من أفراد يختلفون في ما بينهم، ويعيش كل منهم أزماته الخاصة، فقد يزيد ذلك بالتالي من احتقان المجموعة بدلا من استيعاب المرحلة وتفهم التجارب المستجدة. وهذا الوعاء الحاضن قد يتشقق وتختل التوازنات بين محتوياته إلى حد يمكن أن يفجّر فيه ما بداخله، وهذا يترك بدوره انعكاساته على الأولاد خاصّة من هُم في عمر صغير، وتنتقل المعاناة باللاوعي من ثمّة من جيل إلى آخر، حتى عبر الأشياء التي لا تُقال، وفي مرحلة المراهقة تحديدا تتباعد العلاقة بين اليافع وأهله.
وغالبا ما تتم نشأة أبناء المهاجرين في مكان وزمان مختلفين عن منشأ أهلهم. الأمر الذي يجعلهم يتعاملون مع المجتمع الذي استقبل الأهل من خلال مرجعيات وعوامل تعمل على إدماجهم في النسيج الاجتماعي بشكل مغاير لتلك التي تفاعل معها أهلهم، شأن المدرسة واللغة، اللتان تساعدان على التعامل مع الثقافة السائدة من داخلها وانطلاقا من منطقها ومحتوياتها، أي من نفس الموقع الذي يتعامل به أبناء البلد الذين ينتمون إلى المجموعة الأصلية.
هذه العوامل مجتمعة لا تُسهم في إدماج أبناء الجيل الثاني فحسب، بل تعمل كذلك على تنشئتهم ضمن منطق الثقافة التي ينتمون إليها. وهذا الانتماء يكون أكبر بكثير من انتمائهم إلى ثقافة أهلهم الّتي تعرفوا عليها غالبا عبرهم، حتى ولو زاروا بلدهم وكانوا في تواصل معه. وهو الأمر الذي يسمح لهم بأخذ مسافة كافية من هذه الثقافة.
وحتى عند إطلاقهم للأحكام التي يرونها منطقية، فهم يعتمدون في ذلك على مرجعياتهم الثقافية التي تكونت في البلاد التي نشأوا فيها على خلاف المرجعيات التي ترعرع أهلهم وفقها، وهو ما يفسّر أن يصبح أبناء وبنات المهاجرين أكثر حساسية من أهلهم بسبب ما يُظهره المجتمع المُستقبل من مؤشرات سلبية تجاههم، شأن أن يتعاملوا وفق ردود أفعال حدّية أحيانا، مطالبين بأخذ مكانهم وتمتيعهم بحقوقهم كباقي المواطنين، في حين أن الجيل الأول قد غضّ الطرف عن انتهاكات كثيرة لحقوقه، ولم يجرؤ دوما على المطالبة بها، رغم علمه بها.
العرب
الحوار المتمدن


 

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى