كتبت المجلّة الفرنسيّة رسالة ثانية تحثّني فيها على الإجابة. السؤال موسمي، متوقّع وبسيط، والإجابة لا تتعدّى الصفحة الواحدة. والرسالة الثانية هذه تنذر بقرب انتهاء المدّة لاستلام الإجابات، وتأسف لفوات فرصة أن “أدلي برأيي”، لأكون في عداد أعضاء “أصحاب الرأي.
بمَ أردّ؟ ليس على سؤال المجلّة، وهو باختصار:” ماذا برأيك أقوى ما طبع السنة المنصرمة 2014 ؟”، بل على السيّد الصحافي موقّع الرسالة. أعني ما تلزمني به في حدّها الأدنى سلوكيّاتُ التعامل المهذّب.
ولأن المجلّة فرنسيّة حاولتُ أن أستوحي “فكرة ما” من اسفتاءات الموسم لدى الفرنسيين. فتبيّن أنّ أهمّ حدث استوقفهم في 2014 هو الصعود الصاروخي لحزب مارين لوبن وما حقّقه في الإنتخابات الأوروبيّة. وساورني شكّ في أن تأتي إجاباتُ من تستصرحهم المجلّة من أمثالي في سياق صعود اليمين إيّاه. وساورني أنّه خطر للمجلّة التي تحرص على التنويع أنني سأكون “تنويعا” ملائما. فإلى جانب ورود اسمي ذي الرنّة العربيّة (لهم: الإسلاميّة) الذي سيعزّز فرص أن أهجم على الإسلاميين، فسوف أشجب وأستنكر ما جنت أيدي هؤلاء من ارتكابات وجرائم خلال السنة التي نودّع، بحق شعوبهم طبعا، وبحقّ شعوب العالم التي ترتعد فرائصها من اقتراب إقامة حدّ “الله” فيها، أو حدّ حكم السّيف في أعناق مواطنيها.ففي ما عدا دعايات تروّج لشركات توزيع الهدايا السريعة وماركات إنتاج كبد الأوز، ليس في كلّ ما يحيط بحياة الفرنسي “العادي” سوى تفشّي ذلك الرعب من قطّاع الرؤوس في جميع أشكال التفشّي، ووقع تلك الخطوات التي تقترب في الليل، حيث بات
الملثّم فوق المخدّة، أو يكاد… هذا، إلى جانب “تنويعة” أخرى ذات قيمة مضافة لكوني إمرأة عربيّة، فقد أعرّج على النقاب، وجهاد النكاح ووأد العذارى وسبي الـ…
أسارع للقول إنّ هذا الرعب حقيقي، ولأنّه كذلك صار بشكل ما مشروعا. وطالما أنّ الناس هنا تشعر به فلا مجال لتدخّل شخص مثلي يعدّل قليلا في مستويات الرّهاب، أو يعترض على ما يُفضي إليه هذا الرّهاب من خلل ذهني ومن سلوكيّات الذهان والفوبيا. فهناك من الفرنسيين من سيذهب حتما إلى تحليل عقلاني و.. لن يسمعه أو ينصت إليه أحد. وإذن لم ينصت إليّ من لن ينصت للفرنسي من أمثاله.
هل هذه حلقة مقفلة من حلقات العبث؟ صحيح. وهل هو تهرّب من أدنى واجبات الإدلاء بشهادة حقّ؟ صحيح. لكنّ المشكلة فرنسية، حتّى لو حشرناها حشرا في حدودها القوميّة ورفضنا النظر إلى استنساخاتها العابرة للحدود. والسبب بسيط، وهو أن مشكلة رهابي أنا أكبر وأعمق وأضخم بكثير. أعني من رهاب الفرنسي. فالفرنسي قد يذهب إلى اليمين المتطرّف، يختبر ما لدى هذا اليمين، ثمّ يصفن، ويفكّر، ويجرّب، وقد يعدّل في رأيه، أو يعود عن هذا الرأي، أو يبحث عن غيره… فيما أنا، وباختصار شديد، لا يمين متطرّف عندي أختبره ثمّ أعود فأغيّر رأيي.. أو شيء من هذا القبيل.
عندي صار الأمر محصورا، والمجال الإختباري ضيّقا جدا. فعدا عن أنّه ليس عندي أحزاب، بل طوائف، فإن هذه الطوائف لا تحبّذ الإنتخابات ولا التجريب، بما أن الأسلحة تحسم “الأمور” من دون وجع راس. أمّا فسحة الإعتراض فهي مفتوحة على مصراعيها. لكن يلزمها وُجهة : لمن تعترض؟ إلى أيّة جهة؟ إذ سيؤول الأمر بسرعة إلى ما يشبه قول العرب المأثور”فيك الخصام و أنت الخصم و الحكم”، وهم كانوا يردّدونه عن المتنبي في عتاب المعشوق، في ما مضى من الأيّام وسالف الأزمان… وإلا فأبواب الهجرة مفتوحة، إمّا لتحرن وحيدا فتقفل نوافذك عن أيّة حركة هواء من الخارج، وإمّا لتنضمّ بجماعة متنرفزة جدا وثائرة، فتركب أوّل طائرة إلى تركيا، ومنها إلى الجهاد في جرود القلمون….
طيّب. سأكتب ردّا إلى المجلّة الفرنسيّة يقول :
“مجلّة كذا،
عزيزي السيّد فلان الفلاني،
بعد التحيّة، والشكر على دعوتي للكتابة في مجلّتكم الغرّاء، يؤسفني ألا أتشرّف بأن أكون في عداد المستصرَحين من عليّة المثقّفين. والسبب هو أنّني لم أعثر، رغم بحثي المضني، عن رأي. ولأنّي كذلك، أي بلا آراء منذ فترة وبحسب شهادة الطبيب، أرجو حذفي من لائحة “أصحاب الرأي” خاصتكم.
ودمتم للمخلصة
يللا
المصدر:المدن