لك الله يا قاسم!!!
دليلة الحياوي
وأناملي باكر كل يومٍ ببلاد الروم.. تلتمس طريقها ما بين ظلمة الوسادة وطبقات الأغطية والدثارات.. لتخرس رنين ذاك المزعج الذي يتعارف عليه بالهاتف الخلوي.. مع أنه لا يعترف بالخلوة أبدا.. مادام يجعل أدق تفاصيل خصوصياتك رهن مسامع الجميع أقرباء وغرباء.. كنت أقول.. وأناملي تتربص بأزرار المحمول لتسكت رنينه المعلن عن بداية يوم كسابقه وسابق سابقه.. أجد لساني يقول: لك الله يا قاسم يا أمين!.. وملامحي لا أكاد أميزها في المرآة.. من سُمْك ومفعول الكريمات الليلية تلك المعيدة عبثا للنضارة المفقودة من جراء أشعة الشمس ولفح البرد والبرق والريح وحتى النسيم.. ولن أقول تقدم السن!!.. لأن حواء دائما شابة خاصة في شهرها!!.. أجدني أتمتم: أَتراه قصاص من نون النسوة يا أمين؟.. وأنا أضع خطأ شريحة الخبز في الغسالة ومسحوق الغسيل في الفرن!.. أقول: لماذا يا قاسم؟.. وأنا أضغط الأزرار المكونة لرقمي على الهاتف بدل رقم الزميلة التي أنوي إخبارها عن تأخري في الوصول.. وأجد خطي مشغولا.. (أكلمني وأجدني مشغولة وأتهم غيري بالثرثرة).. أقول: أحمدك يا ألله وأثني على نعمائك إذ لم أُرزق بِنْتاً قد تُقاسمني الانجراف وتيار الأمين!.. والقميص أو الفستان المزمع ارتداؤه يحترق مني أثناء كَيِّه العاجل.. أو على أهون تقدير تتلتصق حافته بالمكواة!.. أجدني أغمغم: أتراك راضٍ الآن يا قاسم؟.. وعيناي تسابق قدميّ قبل مبارحتي البيت لتجوب السماء طولا وعرضا من هذه الشرفة وتلك النافذة.. وذاك الخُرم.. استشرافا لحالة الجو بغرض معرفة ما يلزم حمله وما يلزم تركه.. سواء تعلق الأمر بالمعاطف والمماطر أوالمظلات والكوفيات ونحوها.. تجنبا لمفاجآت رومية.. المرء.. عذرا نحن في مارس.. إذن المرأة في غنى عنها!.. أجدني أردد سبع مرات تباعا: حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا ابن أمين!.. وأنفاسي تتلاحق وتكاد تبارح صدري صُبحا ومساءً ما بين صعود وهبوط من وإلى جوف أُمِّنا الأرض.. لأظفر بمقعد في هذا الميترو أو ذاك القطار الحضري.. ولربما شبر يسعُ قامتي شبه مقوسة ولن أحلم بها منتصبة في هذه الحافلة أو ذاك الترام إن لم يضرب موظفو قطاع النقل عن العمل خاصة وإيطاليا ترضع أبناءها الاحتجاج ولا شيء غيره!.. أجدني أتساءل: أهذا ما هداك إليه نَهْلُكَ الوافر من العبقريات والثقافات الإنسانية أيها القاسم؟.. وأنا أتجرع على مضض في العمل الملاحظات الواهية لرؤساء ليسوا جديرين بترؤُّس حتى خواء رؤوسهم.. وبالتالي أكتوي بدسائس ومكائد الزملاء مرة تلو الأخرى لأنني لا ألملم لساني!.. أجدني أقول: مصائب قوم عند قوم فوائد.. أليس كذلك يا ابن أمين؟.. ومعدتي تعتصرها كل ظهر السندويتشات البائتة والباردة وكل عصر المشروبات المعلبة وبالتالي أنواع وألوان وأيضا مذاقات مختلفة كل مغرب شمس من الأدوية المسكنة للأوجاع والحرقة والحساسية والتلبك المعوي!.. أجدني.. أُهَمْهمُ: ما بها حياة الجدات يا عم قاسم؟.. وذاكرتي تقلب في أوراق مفكرتها غير المكتوبة.. لأن الوقت لم يسعفني لتدوين أي شيء.. علها تتذكر ما الذي سدد من فواتير أو أُنجز من أعمال البيت وما الذي يتحتم عمله فور العودة.. وما الذي بوسعه الانتظار حتى عطلة نهاية الأسبوع.. ولم لا نهاية السنة؟.. أجد لساني يَرْطُن وبكل اللغات سواء تلك التي أجيد أم لا: ونِعْمَ الحرية والمساواة!! يا قاسم يا أمين!!.. ونِعم المساواة التي يطمس فيها ظل الواجبات طيف الحقوق!! ونِعْمَ الحرية.. تلك التي تُقيِّدُك بمواقيت معينة ومكررة إن لم نقل مُمِلّة.. لأجل البقاء بين الرعيل الراضي عليه رئيس العمل.. وتَسْلُبُ إرادتك بأعمال يجب تنفيذها بدون جدال لأجل البقاء الشهري بين رعيل الموظفات.. وتُلزمك بأشغال شاقة لا تنتهي.. لأجل البقاء ضمن الرعيل العائلي أو الأسروي.. وإلا أغضبت أفراد المجتمع
أُعل الفكر في تجاويف ذاكرتي البعيدة.. تطالعني مشاهد يطربُ لها الفؤاد حقا وتهتز لها الروحُ جَذلاً.. مشاهد طالما استرقت النظر إليها كل أصيلٍ من نوافذ “المصريّة”.. حيث غرفتي العلوية المشرفة على فناء بيتنا العتيق بمراكش وأنا بعد صغيرةترى.. أكانت جدتي مملوكة في بيتها؟ أم مالكة لكل شبر فيه؟.. أكان جدي مالكا لأمرها؟ أم لقلبها وروحها؟.. أكانت المُؤْتَمَرة؟ أم الآمرة؟ أكانت مجرد حاشية وهامش في القرار العائلي؟ أم موسوعة ينهل من حبها وحكمتها الصغار والكبار وعلى رأسهم المرحوم جدي؟ أو لم تكن ظافرة من قِبَلِه بالرفق واللين؟ وكان يُعتبرها قارورة جد ثمينة تضوِّع بأريجها دُنياه تماشيا ووصية الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه؟..
وأنا.. مشاهد بطلاها جدّاي.. هو يقطف وحدات زهر النارنج ويغسلها في حوض النافورة ليعطر بفوحها كؤوس الشاي المنعنع.. الذي تكون هي خائضة في إعداده مفترشة زربية زمورية تحت الشجرة الوارفة.. هي تناوله الكوب بحنان بادٍ.. وهو يقدم إليها فطائر أو حلويات أُخْرِجَت لتوها من الفرن.. أو وحدات اللوز المملح الساخن بدوره.. لوحات رائعة يكملان فيها بعضهما البعض.. هو بقوة شخصيته وهي بوداعتها.. هو بغيرته وهي بتفانيها.. هو بحَمِيَّته وهي بِوِدِّها.. هو بكرمه وسخائه وهي بامتنانها وعرفانها اللامحدود.. هو برجولته وهي بأنوثتها.. ترى.. ما الذي جنيته أنا الحفيدة ومن قبلي أمي رحمها الله من حفظ شعارات التحرير والمساواة عن ظهر قلب؟.. عدا إتعاب هذا القلب المسكين وإخضاعه مرة بعد مرة للتبضيع والتشييء.. وأيضا الترقيم.. أتراني صائبة أم مخطئة حين أدعو لصديقاتي ذوات القلوب الوحيدة بأن يَهبَهُنَّ المولى عز وجلّ فوارس بمناقب جدّي.. فوارس من الزمن القديم لكن ببدلة وربطة عنق.. أو حتى سروال جينز وتي شيرت؟؟ حسبهم أن الدواخل مأهولة بشيم الفوارس.. وكل مارس وحواء بألف خير.. كما خير الجدات.. بنتا وأختا.. زوجة وحبيبة.. أُمّاً وحماة أيضا.. لم لا؟؟؟
dhiaoui@yahoo.fr