انت هنا : الرئيسية » الواجهة » الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية  الحشر

الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية  الحشر

المصدر:رأي اليوم

الدكتور كايد الركيبات

أصدرت دار الينابيع للنشر والتوزيع والإعلان في العام 1993، رواية “الحشر” للكاتب الأردني محمد عبدالله القواسمة، تقع الرواية في 96 صفحة من القطع المتوسط، جاءت سردية الرواية على لسان شاب عشريني اسمه صالح، كان أحد أفراد أسرة فلسطينية استقر بها الحال في مخيم للاجئين في منطقة من مناطق الضفة الغربية، الذي تأسس لمراعاة ظروف الأُسر التي هُجّرت من قراها بعد الهجمات اليهودية عليها، والتنكيل بهم، وإخراجهم منها بقوة السلاح، ففروا أشتاتاً لا يحملون معهم إلا ما يكسو أجسادهم.

أشارت الرواية إلى التغيرات التي حدثت في بنية المخيم، الذي تأسس في البداية من خِيَم متلاصقة، استبدلت بعد زمن بوحدات سكنية بُنيت من الطوب والأسمنت، وخصصت كل وحدة لأسرة من الأسر النازحة، تولى مسؤولية الإدارة المباشرة في المخيم ــ التابع في تنظيمه وإدارة مرافقه إلى وكالة الغوث ــ شخصية وظيفية اسمه مدير المخيم، وأنيطت مسؤوليات الأمن برئيس المخفر، وأسندت مهمة التواصل بين إدارة المخيم ومجتمع اللاجئين في المخيم للمختار، الذي يُعيّن من قبل إدارة المخيم، تشير الرواية إلى تنوع سكان المخيم، حيث ينحدرون من مختلف أنحاء الوطن، ويتعايشون بانسجام تام، متحدين بهمومهم المشتركة. “غريب أمر هذا المخيم، فيه أناس من شتى بقاع الوطن، كلهم متناغمون مع همهم…” (ص: 63).

كشفت الرواية عن الممارسات السلبية التي كانت تصدر من إدارة المخيم بحق النازحين الذين يعانون من ظروف معيشية قاسية، فكل الأسر في المخيم تعتمد في سد رمقها على المؤن التي يتم توزيعها من قبل المنظمات الإنسانية ووكالة الغوث، في حين استغل مدير المخيم سلطاته ونفوذه ما أمكنه استغلالها، حتى وصل به الأمر إلى التعدي على حرمات الناس، وردت هذه المقاربة في الرواية باختلاء مدير المخيم بزوجة المختار مستغلاً غيابه عن المخيم، لم تحتمل نفس الراوي مرارة الموقف فانفجرت الشفاه متلفظة: “المختار يستحق ما جرى له. اطمأن إلى مدير المخيم، وفتح له بيته… رجع المختار إلى البيت، وجد زوجته جميلة مع مدير المخيم…” (ص: 42، 43). قدمت الرواية هذه المقاربة كنموذج مُخجل للمسؤول الذي لا تهمه مصلحة المجتمع، ولا ظروفه البائسة، بل يسعى لتحقيق مآربه الشخصية دون أي اعتبار للأخلاق أو القيم. لتُثير مشاعر الغضب والاستياء لدى القارئ، وتُسلط الضوء على ظاهرة خطيرة يُمثلها المسؤول الفاسد الذي يُشكل عبئاً على المجتمع في كل زمان ومكان.

في مقاربة ثانية بعيدة عن الحرمات، كان مدير المخيم يمارس سلطاته الإدارية لعرقلة تأسيس النادي الشبابي المزمع إنشاؤه في المخيم، ذُكِر ذلك على لسان صديق بطل الرواية: “هل سمعت كذب المدير؟ لن يألو جهداً في مساعدة الشباب. تناسى أنه وقف حجر عثرة وصديقه رئيس المغفر أمام إنشاء النادي” (ص: 33). وفي مقاربة ثالثة تدل على استغلال السلطة والنفوذ من قبل مدير المخيم ورئيس المخفر عند تعارض مصالحهم مع مصالح أعوانهم في المخيم، نجدهم لا يترددون في اتخاذ قرار عزل المختار “جمعة” عن المخترة ــ بعد افتضاح علاقة مدير المخيم بزوجة المختار ــ ومنحها لشخصية انتهازية تملق لرئيس المخفر حتى يكون مختاراً للمخيم، وحيث إن المختار الجديد هو والد زوجة “صالح” بطل الرواية، نصحه صديقه “نعيم” قائلاً: “انصح عمك ألا يثق لا بمدير المخيم ولا برئيس المخفر. الاثنان لصان كبيران، لا يهمهما غير مصالحهما…” (ص: 49).

المرحلة الزمنية التي دارت بها أحداث الرواية مثلت النصف الثانية من سنة 1966 والنصف الأولى من سنة 1967، تناولت السردية الروائية الحديث عن حالة عدم الرضا عن مجمل إدارة المشهد السياسي من قبل الحكومة، مما نتج عنه تحركات حزبية ومعارضة سرية للحكومة، شارك فيها بطل الرواية “صالح”، وتم القبض عليه خلال محاولته نقل منشورات البيان الختامي للحزب من المخيم إلى المدينة، في المعتقل تعرض صالح للتعذيب وأودع في زنزانة انفرادية، لكنه أصر على عدم الاعتراف بالتهمة الموجهة له، استمر اعتقاله في ظروف مهينة حتى صدور عفو عام، بعد الهزيمة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب حزيران 1967. قدمت الرواية من خلال هذه الأحداث نقداً لاذعاً للسلطة القمعية التي حاولت إسكات أي صوت معارض، وبرز صمود البطل في وجه الظلم والاضطهاد. وسلطت الرواية الضوء على تداعيات الهزيمة العربية وانعكاساتها على الواقع السياسي والاجتماعي.

عند لحظة الإفراج عنه، وقف صالح موقفاً غاضباً ومشمئزاً من ضباط الأمن الذين اعتقلوه وحققوا معه وأوسعوه تعذيباً في معتقله، بعد قولهم له: “الآن نحن في الهوى سوا، يا صالح. يجب أن ننسى الماضي، ونفكر في العدو… الآن تستطيع أن تفعل ما تريد: توزع منشورات، تحرك مظاهرات، تقلب الكرة الأرضية. كل شيء مسموح به الآن. اذهب يا صالح. اذهب ودافع عن الوطن” (ص: 59)، هؤلاء الضباط الذين كانوا يحرصون على إثبات التهمة عليه ليتعفن في السجن، يطلبون منه اليوم ممارستها لإنقاذ البلاد التي ضيعوها بسياساتهم ونهجهم البوليسي العقيم.

عاد صالح إلى المخيم بعد إطلاق سراحه، فوجد أن زوجته تريد الطلاق، وأن والدها الذي تولى مسؤولية المخترة في المخيم أصبح يرى أن ارتباط ابنته بزوجها صالح لا يناسب مكانته الاجتماعية التي وصل إليها، سيما أن صالحاً أصبح في نظر البعض عدوا للحكومة، متناسياً المختار المتملق أن الحكومة سقطت بعد الهزيمة، وأن البلاد كلها واقعة تحت الاحتلال الإسرائيلي، وأن الكل أصبحوا اليوم في الحال سواء، تحمل هذه المقاربة التي قدمها الكاتب في ثناياها الإشارة إلى تجذر روح الخيانة عند المختار، الذي يحاول جهده في المحافظة على مكانته الاجتماعية التي وصل إليها، حتى لو تطلب الأمر تعاونه مع قوات الاحتلال.

حاول الكاتب في سردية الرواية أن يكشف الواقع العربي المُؤسف، ويُثير الجدل حول مسؤولية الهزيمة، ويُصوّر هول النكسة، ويُؤكد على وحدة المصير العربي، ويُثير مشاعر التعاطف مع اللاجئين، ويُؤكد على أهمية مقاومة الاحتلال، ويُثير مشاعر الأمل والتفاؤل بمستقبل أفضل، ولم تخل الرواية من الإشارة إلى تحميل جمال عبد الناصر مسؤولية هذه النكسة، وإن علت بعض الأصوات في الرواية ملتمسة له العذر، جاء في حوار بين والدة بطل الرواية ووالده عن مآل الأحداث قولها (الأم): “النصر من عند الله يا ابني، والهزيمة من عند عبدالناصر” (ص: 82). وقوله (الأب): “أنت لا تعرفين في السياسة ثلث الثلاثة وتقولين عن عبدالناصر إنه سبب الهزيمة. الله يعلم ماذا يحدث لنا بعده” (ص: 82)، لكن ما الفائدة إذا كانت النتيجة التهجير والنزوح، وسقوط البلاد بيد الاحتلال. تم تدمير المخيم بعد اقتحامه من قبل العدو الصهيوني، الذي فتح النار على سكانه فقتل من وقف عاري الصدر في مواجهة بنادق جنوده، وشرد من نجا بحياته إلى المناطق التي لم تصلها بعد قوات العدو، أو إلى شرق الأردن.

جاء اسم الرواية من المواقف الصعبة التي مر بها بطل الرواية، أو اعترضت بعض شخصياتها، فأولها قوله عن حاله في زنزانة السجن: “منذ حشرت لم أستيقظ وحدي غير هذه المرة” (ص: 3). وفي الحافلة يقول: “في المقعد الذي أمامي حشرت امرأة سمينة…” (ص: 5). وعند اعتقاله من قبل رجال الأمن قال: “وأدخلوني سيارة صغيرة، حشرت في المقعد الخلفي بين جنديين…” (ص: 11). وحين أوسعوه ضرباً وتعذيبا في المعتقل قال: “حاولت أن أتلو سورة الحشر، انطلقت الآيات تحت ضربات السياط مبتورة…” (ص: 20). : وعن واقعهم المعيشي في المخيم قال: “بعد انحشارنا في غرفتي اللبن والإسمنت…” (ص: 23). وعن الإصرار على تأسيس النادي جاء على لسان صديقه: “سأظل محشوراً في جلدي، وأواجه المسؤولين حتى يتم إنشاء النادي” (ص: 56). تشير الرواية إلى أن الأمة دخلت المحشر، وأنها باقية فيه حتى تغير من سلوكها السياسي، وتعدل من نهجها العملي في مواجهة التحديات التي تواجهها، وأن تتعالى الأصوات التي تقدم المصالح العامة على المصالح الخاصة، وأن تبتر الأيادي المتخاذلة والمتعاونة مع العدو. الحشر” عنوانٌ يُجسّد واقعاً مريراً، ورمزاً قوياً يُمثل الواقع العربي المُعاصر، ويُؤكّد على أهمية التغيير من أجل مستقبل أفضل.

kayedrkibat@gmail.com

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى