انت هنا : الرئيسية » الواجهة » الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية دفاتر الوراق

الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية دفاتر الوراق

الدكتور كايد الركيبات

المصدر:رأي اليوم

تفجرت القدرة الروائية الفائقة للروائي الأردني جلال برجس في عمله المميز دفاتر الوراق، التي صدرت في عام 2020، وذهبت الرواية مباشرة في طريق الترشح ثم الفوز في جائزة بوكر العربية 2021. أتاحت وزارة الثقافة الأردنية فرصة اقتناء مجلد الرواية من خلال برنامج مكتبة الأسرة الأردنية “القراءة للجميع 17”.

تكاد تكون رواية “دفاتر الوراق” خليطًا من المشاعر الإنسانية المحسوسة والمفتعلة، التي وظفت لبناء تصور خيالي على ركام ثقافة اجتماعية معاشة، واستلهام رقيق لكثير من الحوادث اليومية بنفسية منغمسة بالمشاعر في كل تقلباتها: حزن، كآبة، خوف، رجاء، لتصوير لوحة خيالية مفعمة بعناصر الحركة المعبرة، تضعنا أمام مشاهد تُمثل واقعًا اجتماعيًا للحدود المكانية التي تدور فيها أحداث الرواية.

قسم الراوي سياق الرواية إلى سبعة فصول، وقسم الفصول لعناوين فرعية خدمت السردية الروائية بشكل كبير، ساعد هذا التقسيم في جذب اهتمام القارئ وتشويقه لكشف حبكات الرواية، من خلال فصل مسارات شخصيات الرواية عن بعضها، مع قدرة فنية في الأسلوب الروائي مكنت الراوي من المحافظة على الانتقال السلس بين الأحداث المتقاطعة لشخصيات الرواية.

ختم الراوي كل فصل من الفصول الفردية في الرواية بعنوان فرعي سماه “كابوس” عدا الفصل السابع، الفصل الأخير من الرواية، صور في كل “كابوس” حالة من حالات الفجيعة والمصير الأسود المتخيل لشخصيات الرواية التي ينقم منها في سرديته الروائية، أما الفصل السابع، على اعتبار أنه من الفصول الفردية من الجهة العددية، فقد مثل في إطاره العام حالة من المكاشفة الحقيقة للعيان، فتم التحقق من شخصية بطل الرواية، ومواجهته بواقع عاشه بين حالات الوعي والإدراك، وبين حالات الانفصام واللاشعور، فكانت هذه رمزية جديرة بالملاحظة تحسب للراوي الذي تمكن من إخراج سردية روائية ذكية تلفت انتباه القارئ.

مثلت أحداث الرواية حالة تعاقب ثلاثة أجيال في مجتمع شهد تقلبات ثقافية وسياسية واقتصادية وتطورات مختلفة شملت جميع جوانب الحياة الاجتماعية، عاشت هذه الأجيال حالة من العوز والقلق والتهميش، وتقاطعت مصالح كل جيل منها مع مصالح الطبقة المترفة التي عاصرتها، وفي كل مرة ومع كل جيل، كانت الطبقة المهمشة أكثر عرضة للانكسار.

مثلت شخصية “محمود الشموسي” الجيل الأول من أجيال شخصيات الرواية، انطلقت تفاصيل حياة هذه الشخصية من فاجعة حياته وتحطم أحلامه وخيبة أمله، ومن تراكم هذه التفاصيل، تشعبت أسس سردية الرواية، وظف الراوي شخصية “الصحافية” المنتمية للجيل الثالث من أجيال شخصية الرواية، لتخبرنا بقصته التي تنقلها لنا من دفتر ابنه “جادالله”، صاحب الشخصية القلقة المرتجفة التي قاست مشاعر تحطم الطموح، وكسر الشوكة، واهتزاز الشخصية، وآلت إلى جثة حكم صاحبها عليها بالموت انتحارًا، وكان جادالله هذا بدوره يمثل الجيل الثاني من أجيال شخصيات الرواية.

أما السردية الروائية لشخصيات الرواية من الجيل الثالث، فكانت تمثل حالة من حالات الدخول المباشر في ثقافة اجتماعية حديثة بكل ما وصلت إليه من رفاه وتقنية وانفلات أخلاقي وسلوكي، تنساب أوصافها ونقل أحداثها لنا على لسان “إبراهيم” بطل الرواية، والعقدة العصبية التي ستعود إليها كل خيوط اتصال الرواية التي تشعبت لتلتقي معه وتخدم قضيته. و”ليلى” التي ستكون مفتاح التحقق وكسر الغموض الذي لف شخصية “الملثم”، والذي بدوره كان يمثل الشخصية الانفصامية لبطل الرواية “إبراهيم”. وشخصية “الصحفية” التي لعبت في الرواية إلى جانب هذه الشخصية دور نادلة في مطعم. ومن ثم شخصية غامضة “السيدة نون” والتي تكشف سردية الرواية عند تفكيك حبكتها أنها هي ذاتها السيدة “ناردا” زوجة والد بطل الرواية “جادالله”. لم تقتصر الرواية على هذه الشخصيات، بل كان هناك شخصيات أدت وظائف درامية في سردية الرواية، مثلت حالة انعطافية من حالات التقلب الاجتماعي بكل أوجاعه ومعاناته.

هذه التركيبية في البناء الموضوعي التي اتبعها الراوي في طرحه الموضوعي لسردية الرواية، تقود القارئ إلى التعايش مع البيئة الاجتماعية التي تدور فيها أحداث الرواية، وتجعله على صلة وعلاقة عاطفية مع شخصيات الرواية، فيشفق عليها أحيانا، وينكر عليها أحيانا، ويتفهمها ويعذرها أحيانا أخرى، وذلك بتأثير القدرة المميزة التي أتقن الراوي تصويرها وبث الحركة فيها، وقدرته على دمج القارئ في تخيل مسارات الحياة الاجتماعية كما رسمها أو خطط لها.

يلفت الانتباه في سردية الرواية قدرة الراوي على ترجمة الإشارات الذهنية التي تدور في مخيلته وتوظيفها في النص الذي قدمه، فكان يستقبل الخبر أو الحدث الذي ينتشر موضوعه في المجتمع على حقيقته، ثم يخلخل هذه الحقيقة بصورة متخيلة يوظفها في سردية الرواية، يظهر هذا الجانب في حوادث كثيرة تناولتها الرواية، منها قصة السطو على البنوك. أما الزوايا الخارجة عن حدود الخيال التي تم توظيفها وصفًا في الرواية، فتمثل مشاهد مسترجعة من مخزون حقيقي مدرك في ذاكرة الراوي، يتبين ذلك من أسلوب حديثه عن الوصف المكاني لمناطق في مادبا أو في عمان.

لم تنحصر القدرة الأدبية للراوي في حدود الخيال الذهني في سردية الرواية، بل استطاع استرجاع المخزون الثقافي الذي انغمست فيه روحه الروائية وتوظيفه في خدمة سردية الرواية، دل على ذلك تقمصه شخصيات لعبت دور البطولة في روايات مطبوعة كل تفاصيلها ومشاهدها في ذاكرته.

بدأت حكايات الدفاتر من هدية قدمتها امرأة “للوراق” بطل الرواية، لم يذكر عنها أي شيء سوى أنه لم يخف فورة شعورية اجتاحت روحه بكل أَفضِيتها، “فعرفت أن للحب يداً قادرة على انتشال غريق يلفظ نفسه الأخير في بحر هذه الحياة” (ص: 11).

والدفتر الثاني دفتر مذكرات يعود لمرأة كانت جالسة على حافة الجسر الخشبي الذي كان مفترضًا أن يلقي بطل الرواية بنفسه من أعلاه إلى ماء البحر لينهي حياته، لكن روحانية الانجذاب لهذه المرأة انعكس تأثيرها عليه، فانثنت عزيمته عن الانتحار، هذه المرأة لم يعرف عنها سوى الحرف الأول من اسمها (نون) وأنها كانت تهبط إلى وسط البلد مشياً على الأقدام، ستكون هذه المرأة راوية مذكرات جادالله من خلال دفتر مذكراته الذي وجدته على طاولة المقهى الذي تعمل به، وهو الدفتر الثالث من دفاتر الرواية.

أما الدفتر الرابع فهو دفتر مذكرات بطل الرواية الذي تضمن ما كتبه في ثلاثة مواضع من سردية الرواية تحت عنوان “كابوس”، فكان دليل إدانته أمام القضاء. أما خامس الدفاتر وآخرها فهو الدفتر الذي أهدته له “ناردا” طليقة والده، والذي قال فيه: “ها أنا أفرغت كل ما بي على بياض ورق دفتر وجدته أعظم هدية قدمتها لي ناردا التي تأتي مرتين في الأسبوع لزيارتي… هذا اليوم هو موعد زيارتها لي، سأسلمها هذا الدفتر، مثلما سلمتها باقي الدفاتر. لكنني لست متأكدًا من قناعتي بتسليمها دفترًا دونت فيه كوابيس…” (ص: 366).

كانت الدفاتر الخمس الذاكرة الحية للبنية السردية في الرواية التي تنطق بها شفتا “الوراق” بطل الرواية، وكانت شخصية “ناردا” الروح الإنسانية الوقادة بالأمل في بناء الجانب العاطفي الطاغي في الرواية.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1696

اكتب تعليق

الصعود لأعلى