بين تِلال الحنين
رواية «بين تِلال الحنين» للروائية العراقية المقيمة في بريطانيا “بدور زكي محمد” تقع في 252 صفحة من القطع المتوسط، وتستعرض حياة “سلمى” بطلة الرواية وهي تجمع شتات أهلها في رسائل تُقدِّم عبرها اعترافًا بجميلهم، في ذكراهم، وتُردِّد بين الحين والحين؛ تراتيل الندم، وتأسف لأنها لم تدرك نعمة الغفران.
الرواية التي يرويها “عاير سبيل” عثر مُصادفةً على هذه المذكرات في محطة قطار؛ تستعرض مرحلة شباب “سلمى” وزهوها بشخصيتها وأنوثتها، إلى أن تمتد بها السنين بلوغًا مرحلة منتصف العمر، فتأنس لحلو ماضيها وتُلقي بمرارته في غياهب الندم، فتبدأ في سرد القصص عن الأقربين إلى قلبها، تُضمِّنها مودتها، وتُراودها الأمنيات أن تكون بينهم، وأن تمد أواصر قُربى انقطعت منذ سنوات، ويؤرقها التساؤل: “ماذا لو لم أرحل عن الوطن؟“
هذه المذكرات عبارة عن أوراق وأحداث متناثرة، تدخّل “عابر السبيل” فيها حتى جعل منها رواية مكتملة، كما ذكر أنها لا تهتم كثيرًا بالتأريخ للأحداث، ولكنه يعتقد أن أحداثها وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين على أرض العراق، ومن ثم فإنها تستحضر حروبه المدوية في هذه الفترة.
يظهر الزمان في هذه الرواية بطريقة خاصة، فقد استغرق الزمن منذ العثور على هذه المذكرات مصادفةً في محطة قطار حتى نهاية الرواية عامًا تقريبًا، حيث تمَّ التعارف بين الشخصيتين المحوريتين “عابر سبيل” و”سلمى”، ثم نما هذا التعارف ليصبح حُبًّا ملتهبًا بين الطرفين في النهاية. وكان لقاؤهما في لندن موطن هجرتهما هربًا من الضغوط الهائلة في العراق بلدهما الأصلي. ويكشف التعدد المكاني في هذه الرواية عن حالة الشتات التي تعيشها شخصياتها.
تُكرِّس الرواية لثيمة الحنين، حيث الذات الساردة تعيش في لندن بعيدة تمامًا عن الوطن/ العراق، وتكتب عن ذكريات مَرَّ عليها زمن بعيد، وتنفض نفسها على الورق وتُقلِّب ذكرياتها عليه. ولذا لا يستطيع القارئ أن يُفلت من مُرسلات الحنين التي تبثها الذات الساردة، وهي في بثها لهذا الحنين تلمس ببراعة الفنان مدى الحب للوطن الذي يتسرب إلى كل ذرة من كيانها، وفي الوقت نفسه تُجسِّد مدى الغصة التي لاقتها، ولاقتها معها شخصياتها المتنوعة ممن حكموا هذا الوطن.
تكشف الرواية بوضوح شديد عن سياق اجتماعي تهيمن عليه سمة التفسُّخ والقهر، وكأن الرواية تنكأ الجرح في منطقتنا، فالعلاقات الاجتماعية في الأغلب الأعم متفسخة وكل شخصية من شخصيات الماضي التي لمستها الذات الساردة لا تخلو حياتها من مأساة، وهذه المأساة تتعاون عوامل كثيرة في صنعها بلا رحمة، حتى كانت الهجرة سمة مهيمنة في حياة الكثير من الشخصيات. وهذه العوامل الصانعة لمأساة الشخصيات؛ مرةً النظام السياسي، ومرةً التقاليد المُهيمنة، ومرةً رؤية العالم التي تجعل المرأة في منزلة أقل من الرجل؛ مما يجعلها تلاقي الأمرَّين، ومرةً نظام الزواج الفاشل كما توضِّحه الرواية.
وهناك سياق آخر تلمسه الرواية بوضوح شديد وهو سياق العلاقة بين الشرق والغرب، وكثيرًا ما تُطل في البنية العميقة في الرواية مقارنات تكشف عن قهر المرأة في الشرق وحُريتها الكبيرة في الغرب.
في قصص وحكايات “سلمى” صلاة من أجل من رحلوا وخلّفوا في الفؤاد حسرةً: جدّها ورفيقه العارف الصوفي، والدتها عاشقة الورد، عمّتها حضنها الدافئ وملاذها… تنوَّع العاشقون في فصول الرواية، وتباعدتْ أوطانُهم، كما تنوَّع م يختلف فيه الناس من نظريات في الحب والسياسة والحرب.
“بين تَلال الحنين” هي حزمة من المرويات والمشاعر والأفكار؛ ألقت بها “سلمى” بين سطور الرواية.