انت هنا : الرئيسية » الواجهة »  د. رزان جدعان: في مَكنُونَات الوَاقِع بين الخَفَاء والتَّجَلِّي

 د. رزان جدعان: في مَكنُونَات الوَاقِع بين الخَفَاء والتَّجَلِّي

د. رزان جدعان

المصدر:رأي اليوم

مِمَّا نَرَى، ومِمَّا لا نَرَى، يَقَع على أرض الوَاقِع مِن أحدَاث طَبِيعَيّة وثَقَافيَّة وبَين-ثَقَافيَّة في الحَاضِر، كَمَا في المَاضِي، وتَستَمِرّ دِينَاميكيَّة التَكَوُّن، والتَّطَوُّر والتَّوَاصُل على الأرض ومَا حَولها فِيمَا نَعرِف وفيمَا لا نَعرف عنه شَيئًا، إلى المُستَقبَل وإلى مَا لا نِهَايَات الوُجُود!

فَالحَضَارات الإنسَانيَّة بِعَظَمَتها -في أعيُننا- ما هي إلّا جُزء مِن الوَاقِع بِكَامله، المُتَأَلِّف مِن مَكَان، وزَمَان، وكَائِنَات  -بِأحيَائها وأموَاتها-، وظُروف، وظَوَاهِر وخَفَايَا تَعيشها المَخلُوقَات، وتُؤَثِّر فيها مَخَاليق البَشَر بِعُقُولها وقُدراتها الإبدَاعيّة في البَنَّاء والهَدَّام بِالأفعَال ورُدُودها على البِيئَة المُحيطَة المَفرُوضَة على الإنسَان والمَعرُوضَة عليه، لِيَعمَل مِنها الأفضَل بِرَأيه. ويَعتَمِد الأفضَل -طَبعًا- على مَدَى الحِكمَة في العَقلانيَّة والمَوضُوعيَّة التي يَملِكها الإنسَان، والتي لا يستخدمها إلّا قِلَّة مِن البَشَر حَاليًّا!

مِمّا يُعرَف، لا نَعرِف إلّا مَا نَلمِس بالحَوَاس الخَمس الفيزيَائيّة، ومَا نُدرِك بالعَقل والرُّوح المَعنَويَّين ومِن زَاويَة الرُّؤيَة التي نَتَوَاجَد فِيها مِن الوَاقِع الوَاسِع الشَّاسِع، الذي تَغيب عن إدرَاك الوعي الإنسَاني بِدَايَته ومَسِيرته ونِهَايته. هذا يَعني أنّ لَيس بِمَقدُور الإنسَان أن يَرَى، ويُدرِك ويَعرِف عن الوَاقِع إلَّا قَليل اليَسِير بِالنّسبَة لِلتَشَكُّل الذي يَصِير إلَيه بِتشَابُكَاته بِاستِمرَار.

إنّ الإشكَاليّة التي تُوَاجِهها مُجتَمَعَات الإنسَان في وَاقِع دُنيَاه هذه، هي أنّه يَختَار سَبيل تَعقِيد تَشَابُكَات تَشَكُّل الكَون بِفِكر عَقله، وفِعل سُلُوكه وتَفَاعُلاتهما بِالفَوضَويّة التي تَخلقها مُيُولاته إلى الأنَانيّة، والطّمَع، والجَشَع، والبُخل، والمَاديَّة والشَرَّانيَّة، تَطبِيقًا لِلعُنف في صُنع الأفضَل مِن المَوجُود؛ مع أهَميَّة ذِكر أنَّ هُنَاك طَرَائِق كثيرة أُخرَى كَان بِإمكَان المُجتمعات اختِيَارها لِصُنع أفضَل جَميل وسِلمِيّ وسَلِيم وكَريم.

لقد اختَار مُجمَل المُجتمَعات الإنسَانيّة التّعقِيد في التَّعَايُش الكَوني، الذي يبِين سَهلاً في ظَاهِره، إلّا أنّه يَتَّضِح مِن التجربَة المَاضيَة والحَاضِرَة أنّ العَالَم يَعيش أقصَى أقسَى ضَرَّاء الحيَاة اجتِمَاعيًّا، وسَيَاسيًّا ودُوليًّا وفي كُلّ مَجَالات التّعَايُش!  أي نَعَم، بَنَى الإنسَان إلى القِمَم، ولكنّه خَرَّب في ذات الوقت طَاحِنًا ذاته وبَشَره إلى الحَضِيض.  فَكُلّما أنجَز مِن نَاحيَة، وَازَاه الفَشَل مِن نَاحيَة أُخرى، وكُلّمَا نَجَح مِن جهَة، وَازَاه السُّقُوط مِن جِهَة أُخرَى، وكُلّمَا تَمّ فِعل الخَير، جَاء الشَّر لِيَغلب عَليه، وكُلّمَا تَطَوَّرَت المُجتَمعَات، رَجَعَت إلى الوَرَاء، وكُلّمَا أعلَنَت الثّقَافات ازدِهَارًا، كَسَّرَتها إخلافَات التَّخَلُّفات، وكُلّما نمَت الحَضَارة، تَحَوَّلت إلى اندِثَار، ومَا إلى ذلك مِن إشكَالات أفعَال الإنسَان مِن العُقَد التي تَجتَاح عقله في تَبسِيط الأُمُور بِوَسِيلَة الجَهل، وُصُولاً إلى العَنَاء مِن صَنَائعه التي قَرَّر هو إلَيها المَصِير؛ مع تِكرَار أهميَّة ذكر أنّه كَان بِإمكَان الإنسَان ومُجتَمعاته اختِيَار وسَائِل أُخرَى لِصُنع أفضَل يَبني على الحِكمَة، والأخلاقيَة، والاحتِرَام والاندِمَاج، بَدَلاً مِن الصَّهر الغَاصِب لِطَبيعَة التَّنَوُّعيّة وحُريَّة الهويَّة.

اكتَشَف الإنسَان القُوَّة وَوَظَّفها في الجبَرُوت -في مُعظَم الأحيَان-، عَرَف عَظَمَة قَدر عَقله، ورَكَّز على التَّبدِيع في التَّشنِيع في طَبِيعَته -في كثير مِن الأحيَان-، أدرَك مَدَى عُمق روحانيَّته، وأَدلَجها إلى القَهر والعُنف بِاسمِ الإله -في الكَثير مِن المَرَّات- أو حَاوَل عَلمَنتها، وأخَلّ بها بِالتّقلِيل مِن شَأنها وتَكَبَّر عليها باعتِبَارها رَجعيَّة، فسَقَط في هُوَّة العَبَثيَّة اعتِقَادًا بِأنَّه أنجَز الحُريَّة وأحدَث نَمَاذج الفِكر التَّطَوُّريّة.  استَنبَط عَظَمَة قُدرَاته على الطِّيبَة والخَير والجمَاليَّات والإنتَاج البَنَّاء، إلّا أنّه تَركَهَا جَانِبًا ويَتجاهلها اليوم، لاعتِقَاده بِعَدَم جَدوَاها في العَالَم الذي بَنَاه بِيَدَيه، بالشّكل والمَضمُون والمَعنَى الذي يُرِيد -أو يَعتَقِد أنّه يُريد-؛ مع أهميَّة التَذكير تَارَّة ثَالِثَة، بِأنّ أبوَاب هذه المُتَغَيّرات المَأمُولَة لا تَزَال مَفتُوحَة، عَاطِيَة الفُرصَة لِلعَقل أن يُحَيّد تَوَجُّهاته الحَالية، إلى تَفعِيل مَنطقه في إيجَابيَّة التّفكِير والعَمَل والبِنَاء، لِتَصلِيح ما خَرَّب الإنسَان حتى الآن، ولِمُواسَاة الخَسَائِر ودَعوة أصحَابها إلى التَّكميل في البِنَاء مِن جَدِيد.

وبين الظَّاهِر والكَامِن في الوَاقِع وتَبَايُن خَفَاياه وتَجَليَّاته، لا يَعرِف الإنسَان إلّا القَليل مِن المَعلومَات عَن حيَاة العَالَم وأحدَاثها، فَالرَّأي العَام العَالَمي يَعتَقِد أنّه في قَلب الحَدَث مِن خِلَال مَا تُقَدِّم له مَنَصَّات التَّوَاصُل الاجتِمَاعي والقَنَوَات الإعلاميَّة التّقلِيديّة والتّكنُولوجيّة بِأنوَاعها.  فَالمُلاحظَة تَرى هُنا أنّه صَحِيح أنّ هُنَاك مَعلُومَة تَدُور حَول العَالَم يَوميًّا وعلى مَدَار السَّاعَة والدّقِيقَة والثَّانيَة، إلّا أنّ تِلك المَعلُومَة تُقَدِّم شَرَاذِم مَعرِفَة عَمّا يَدُور حَول العَالَم من ظَوَاهِر وخَفَايا الوَاقِع.  وتَحتَل هذه المَعلُومَة شَبَكَات التَّواصُل العَالميّة لِتَظهَر عَظيمَة وضَخمَة وفَخمَة، ومِن ثَمّ تُوَهِّم الرّأي العَام العَالمي بِأنّه مُلِمّ بِأكثَريَّة وأهمّ الأحداث، وبِالتَّالي المعرِفَة العَالميَّة وبِجَدَارَة.

وعِند التَّرَفُّع عَن أُطُر التّبسِيط العَالمي المُعتَاد قَلِيلاً، يتمّ إدرَاك أنّ هُنَاك أحدَاث، وَوقَائِع، وأفكَار، وإنجَازات، ومَعَارِف، وابتِهَاجَات ومَصَائِب تَملك حَجم أهَمِيّة المَعلُومَة التي تُضَخَّم عبر شَبكَات التَّوَاصُل وتَقنِيَاتها، إلّا أنّ الإعلام يَتَجَاهَلها لِعَدَم تَلبِيَتها لِحَاجَة المَنفعَة والمَصلحَة والسَّيطَرَة على عُقُول رأي المُجتَمعَات العَالميَّة العام، ولأنّها مُمكِن أن تُخَربِط المَنظُومَة الفِكريَّة العَالميَّة العَامَّة المُبَرمَجَة بِاتِّجَاه واحد دون غَيره، التي تَسعَى إلى إحكَام القَبضَة الأيديولوجيّة العَالميَّة على العَقل وفِعله ورَدّه على أمُور الوَاقِع وقَضَايَاه -مَهما كَانت تَكُون-، ومع إمكَانيَّة عَولَمَة العَالَم بِالشّكل والمَضمُون والمَعنى بِالاتّجَاه المُرَاد له مِن قِبَل مَن يَقدر على ذلك بِنُفُوذه ويُرِيد!

فَهُنَاك إذًا، الرأي العَام العَالمي الحَاضِر الغَائِب، والمَعلُومَة الجَليَّة الخَفِيَّة، والوَاصِل القَاطِع بين المُجتَمعات والواقع وبَدِيهيّاته وصُوَره.  وفي إطَار هذه المُعطَيَات تَأتي أهَميَّة وَعِي الإنسَان والحِفَاظ على صَحوَة الإدراك وحَرَكيَّة التَّفَاعُل، وذلك لِتَرَى المُجتَمَعَات كُلّ زَوَايا رُؤيَة مُحيطها الطّبِيعي والثّقَافي وبَينه، ولِتُدرِك المَعلومَات التي حَولها بِجَدَارَة عُقُولها أوّلاً، مُستَفيدَة مِن الوَسَائِل ومَنصَّاتها بعد ذلك، مُسَيِّرَة إيَّاها في خِدمَتها، بَدَلاً مِن التّسلِيم لِمَعلُومَاتها المُجَهَّزَة والمُدَجَّنَة، والتي هي وَاِحدَة مِن الكَثِير والوَفِير المُتَمَثِّل في المَصَادِر، والتّجَارب والاستِمرَاريّة في التَّوَاصُل المُتَفَاعِل والمُتَبَادَل، المُحَرِّك لِلحِسّ والشَّفَافِيّة بَعيدًا عن الوُجُوم أمَام الشَّاشَات المَعلُومَاتيّة القَائِمَة على الاتِّصَال في اتِّجَاه وَاحد مُوَحَّد بِمُطلَقيَّة!

فَمَا رأي الإنسَان إذا تَفَكَّر بِصَحوَة الوَعي في الوَاقِع؟ بِأيّ اتِّجَاه يُفَعِّل عقله لِيَعرِف عن الوَاقِع بِمَوضُوعيَّة، ولِيَتَوَاضَع أمَام خَفَاياه وتَجَلِيَّاته، لِيَتَعَلَّم بِالمَعرِفَة مِن كُلّ مَصَادر ها قَدَر المُستَطَاع، ولِتَستَنتِج المُجتَمعات أنّ بِإمكَانها صُنع الأفضَل مِن الوُجُود بِإيجَابيَّة عندما تُغنِيهَا تَجربَة المعرفة الأصِيلَة بِالحِكمَة، والمَوضُوعيَّة، والجَمَال، ولَعَلَّ وعَسَى بِالكَمَال!

فَمِن أين يَبدَأ العَالَم، بين الخَفِيّ والجَلِيّ، وكيف يَسير إلى أمَل أيّ مَصِير؟

كاتبة اردنية

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى