انت هنا : الرئيسية » الواجهة » الجذور القروسطية للانقسام الأوروبي

الجذور القروسطية للانقسام الأوروبي

ترجمة:

L’origine médiévale de la désunion européenne

المصدر: The Unz Review عبر La Cause du Peuple

Laurent Guyenot

لتحرير نفسها من براثن الناتو ، ليس لدى أوروبا حاليا، بديل آخر سوى التحالف مع الإمبراطورية الروسية ، لأن الاتحاد الروسي هو بالفعل حضارة وإمبراطورية ، وريث الحضارة و الإمبراطورية البيزنطية التي دمرتهما البابوية. القائلون ،ومنهم العديد من( المحسوبين على  “اليمين الجديد” الفرنسي ) إن على أوروبا أن تخاف من روسيا قدر خوفها من الولايات المتحدة) ،هم أضعف منطقا و أكثر خطورة من القوميين الذين يتوقون إلى سيادة قوميتهم. الواقعي لا يرى بديلا لأمريكا وروسيا ، لأنه لا يوجد بديل. الواقعي لا يتخلى عن أوربا و لكنه يراهن على أن النظام العالمي المتعدد الأقطاب الذي تروج له لروسيا سيكون أكثر ملاءمة لأوروبا من الهيمنة الأمريكية.

لقد كانت أوروبا حضارة وكانت الحضارة الأوروبية تعني المسيحية” من فترة شارلمان حتى القرن السادس عشر. عبر هيلير بيلوك (1) عند ذلك بقوله: الإيمان هو أوروبا ، وأوروبا هي الإيمان”.

 كانت روما عاصمة المسيحية الغربية ومقرالبابوية وكانت اللاتينية لغة الكنيسة التي تكلمتها أقلية صغيرة . لذلك كانت أوروبا تتمتع بوحدة دينية و روحية من الناحية النظرية ، لكنها لم  تعرف وحدة سياسية. على عكس كل الحضارات الأخرى، لم تشكل أبدًا كيانا سياسية موحدا. بعبارة أخرى، لم تكن أوروبا أبدًا إمبراطورية بأي شكل من الأشكال.

بعدما  فشلت الإمبراطورية الكارولنجية ، التي لم يسمح عمرها القصير وغموضها من التمييز بين واقعها وأسطورتها ، تبلورت تدريجياً في فسيفساء من الدول القومية المستقلة.

كانت الدول القومية في الواقع اختراعًا أوروبيًا، حيث تشكلت أجنتها الأولى في القرن الثالث عشر. قبل العصور الوسطى ، كان هناك نوعان فقط من الدول: الدول- المدن والإمبراطوريات. “فإما أن تصبح الدولة المدينة نواة إمبراطورية (كما الحال مع روما)… أو أنها تظل صغيرة وضعيفة عسكريًا وتصبح عاجلاً أم آجلاً ضحية للغزو” (2).

بالإضافة إلى المسيحية ، اتحدت الإمارات الأوروبية ، طوال العصور الوسطى ، من خلال القرابة بين ملوكها  نتيجة الدبلوماسية القائمة على العلاقات الزوجية. لكن مجتمع الدم والإيمان هذا لم يمنع الدول من أن تكون كيانات سياسية متميزة عن بعضها البعض، تغار على سيادتها وتسعى دائمًا لتوسيع حدودها.

في غياب سلطة إمبريالية عليا ، ولّد هذا التنافس حالة حرب شبه دائمة. أصبحت أوروبا ساحة معركة مشتعلة باستمرار.” إن كنت تعتبر أوروبا حضارة ، فعليك اعتبار حروبها حروبًا أهلية.” هكذا حلل المؤرخ الألماني إرنست نولت الصراعين الأوروبيين في القرن العشرين (3).

لم يمنع الدين المشترك ولا الروابط الأسرية الحضارة الأوروبية من تمزيق نفسها بكراهية وعنف غير مسبوقين. للتذكير ،فقبل الحرب العالمية الأولى ، كان الملك جورج الخامس والإمبراطور غليوم الثاني والقيصر نيكولاس الثاني أبناء عمومة و مدافعون عن العقيدة المسيحية.

كان الهدف المعلن للبناء الأوروبي” منذ الخمسينيات هو جعل هذه الحروب الأوروبية مستحيلة أو على الأقل غير محتملة. لكن هذا المشروع لم يكن على موعد مع التاريخ، حيث بدأ في وقت كانت فيه الحضارة الأوروبية قد ماتت بالفعل و بدون طاقة حيوية لمقاومة استعمار الإمبراطورية الأمريكية الجديدة.

لا يستند الاتحاد الأوروبي على أي “وعي حضاري” – بمعنى “الوعي الطبقي”. يشعر الكثيرون بالارتباط بأممهم ، ويمكنهم أن يقولوا  قول إرنست رينان : “الأمة روح ، ومبدأ روحي”(4 ).

لكن لا أحد يرى أوروبا كائنا روحيا يتمتع بـ بخصوصية ووحدة مصير.

لم توجد أبدا رواية أوروبية عظيمة ترويها بفخر جماعي كل هذه الشعوب المتراكمة في شبه الجزيرة الأوروبية. لكل دولة جنسيتها الرومانية الصغيرة، تتجاهلها أو تناقضها الروايات المدرسية لجيرانها. هناك بالتأكيد أساطير مشتركة، كشارلمان مثلا. لكن الخلاف الدائم حوله يؤكد ما قيل ؛ كما لو كان عليه أن يكون فرنسيًا أو ألمانيًا. الأسطورة الأوروبية الأخرى هي الحروب الصليبية. لكن الحروب الصليبية توضح بنفس الدقة عدم قدرة الأوروبيين على بلورة مشروع لأوروبا. خلال الحروب الصليبية، قال لهم الباباوات إن مهد حضارتهم هو مدينة بعيدة في عالم آخر،متنازع عليها بين حضارتين: بيزنطية وإسلامية، وطلبوا منهم القتال من أجلها كما لو كانت حضارتهم قائمة عليها. لا يمكن أن يوجد مشروع أكثر عداء لأوروبا من هذا. في الواقع ، لم تحقق الحروب الصليبية سوى تصدير المنافسات القومية إلى الشرق الأوسط وصنعت بالتأكيد رواية جميلة  ولكنها كانت على الأرجح كذبة كبيرة .

في كل الأحوال ، تشكل العصور الوسطى بداية ونهاية السرد الأوروبي العظيم و لا يحيل “مفهوم الحضارة الأوروبية على شيء آخر غير العصور الوسطى.

منطقيًا ،كانت أوروبا حضارة رائعة خلال العصور الوسطى الكلاسيكية (القرنان الحادي عشر والثالث عشر). ولكن، لأنها فشلت في تشكيل كيان موحد فقد انقسمت إلى عدة حضارات صغيرة ، تلعب كل منها  لعبة الإمبراطورية ضد الآخرين. لذلك كانت لدينا، في القرن التاسع عشر، إمبراطورية فرنسية، ثم إمبراطورية بريطانية وإمبراطورية ألمانية، تحاول تدمير بعضها البعض. لقد كانت إمبراطوريات استعمارية.

 ونظرا لأ نهم فشلوا في إنشاء إمبراطورية في الداخل ، قام الأوروبيون بتصدير منافساتهم في غزوات مفترسة أنجبت في النهاية  الإمبراطورية الأمريكية ، التي خرجت من رحم الإبادة الجماعية والعبودية ،وكان مصيرها أن تصيب بالطاعون من خلقها.

ومن هنا جاءت الفرضية التي طرحها المؤرخ كاسبار هيرشي والتي تقول إن التاريخ الأوروبي يتميز بالتنافس بين مراكز القوة التي تصارع من أجل السيادة الإمبريالية دون القدرة على تحقيق ذلك:

ثقافة سياسية امبريالية  من إملاء قوة عالمية موروثة من العصور الرومانية القديمة ، تتعايش داخل هيكل إقليمي مجزئ ، حيث تتمتع كلها بنفس القوة (الإمبراطورية ، البابوية ، فرنسا ، إنجلترا ، وأراغون لاحقًا). أدى هذا الوضع في العالم المسيحي الروماني إلى منافسة شديدة غير محدودة على السيادة ؛ كل الملكيات العظيمة تهدف إلى الهيمنة العالمية ، ويمنع بعضها البعض من تحقيقها.

لذلك فإن الأمم ، بحسب هيرشي، “نتاج مفارقة تاريخية دائمة وقوية”. والقومية ليست سوى “خطاب سياسي أنشأته إمبراطوريات محتمَلة تفشل بشكل مستمر، عالقة في معركة لإبقاء نفسها على مسافة مأزق أو في منأى عن  آ خر.

لم يحدد هرشي الآلية التي منعت هذه القوة أو تلك من الفوز في هذه المنافسة. فلنتساءل: ماذا حدث؟ أو بالأحرى ما الذي لم يحدث؟ في جهات أخرى ، تميل الحضارات إلى الوحدة في شكل من الأشكال السياسية ، حول مدينة أو مجموعة عرقية مهيمنة. فقط في العالم المسيحي الغربي توجد حضارة بدون دولة، أي جسد بدون رأس.

ما الذي منع أوروبا أن تصبح إمبراطورية؟

ليس بسبب قلة الإرادة – وهيرشي محق في هذه النقطة: كانت أوروبا تتطلع بشدة إلى أن تصبح إمبراطورية ، لكنها فشلت. وتطلعت الشعوب نفسها إلى هذا المثل الأعلى المرادف للوحدة والسلام والازدهار.

هنا،لا ينبغي أن تؤخذ الإمبراطورية بمعناها الحديث. كما يشرح إرنست كانتوروفيتش في سيرته الذاتية لفريدريك الثاني هوهنشتاوفن:

لم تخضع الإمبراطورية العالمية المثلى في العصور الوسطى الشعوب لحكم واحد. كانت تمثل كل الملوك والأمراء من جميع بلدان وشعوب العالم المسيحي تحت حكم إمبراطور روماني واحد الذي لا ينبغي له  أن ينتمي إلى أمة و يظل في منأى عن جميع الأمم، والذي يجب أن يحكم على الجميع من عرشه في المدينة الفريدة الخالدة.

حتى بعد سقوط سلالة هوهنشتاوفن  Hohenstaufen، التي  اقتربت من تحقيق هذا المثل الأعلى ، استمر الحلم. كانت الإمبراطورية كائنًا ميتافيزيقيًا ،يمثل انعكاسا لصورة الله ذاته ، كما أكد دانتي أليغييري في مؤلفه  باللاتينية “De Monarchia: الملكية(حوالي 1310):

 يكون الجنس البشري أشبه بالله عندما يكون موحدا، لأن مبدأ الوحدة  لا يسكن غيره ، والظاهر أنها حالة مستحيلة ما لم تخضع البشرية كلها لأمير واحد ، وبالتالي تتوافق إلى حد كبير مع تلك النية الإلهية التي أظهرناها في بداية هذا الفصل بأنها الخير ، بل أفضل تصرفات البشرية “(8).

لذلك تفتقر نظرية كاسبار هيرشي إلى أدلة على العامل المثبط  لوحدة أوروبا ، على الرغم من الاندفاع الجماعي الذي يمكن وصفه بالعضوي.

 هيرشي يخطئ أيضًا في وصفه للديناميكية الأوروبية. لم تكن هناك  منافسة على الإمبراطورية  كما كتب ، بين “الإمبراطورية الألمانية والبابوية وفرنسا وإنجلترا وأراغون فيما بعد”.

حتى منتصف القرن الحادي عشر، لم يستطيع  غير الأول  المعروف رسميا بإسم  إمبريوم  رومانيوم (الامبراطورية الرومانية.) ادعاء السيادة الإمبراطورية، ثم ظهرت البابوية كقوة تقوض ادعائه. سيطرت المنافسة  على السياسة  الأوربية بين الامبراطور و البابا لمدة ثلاثة قرون.

من الجدالات الفكرية إلى ساحات القتال ، دخلت أوروبا بالكامل إلى هذا الصراع. لا يوجد عامل آخر يمكن مقارنته من حيث الكثافة والتأثير بالعصور الوسطى الكلاسيكية.

منع الباباوات عن عمد وبعناد توسع الإمبراطورية الألمانية، التي كانت، لأسباب جغرافية وتاريخية، القوة الوحيدة القادرة على توحيد أوروبا سياسيًا. لا يمكن أن يبدأ توحيد أوروبا إلا بوحدة ألمانيا وإيطاليا، لكن هذا هو بالضبط ما قاومته البابوية بكل قوتها وقواها الخارقة للطبيعة.

في هذه العملية، عززت البابوية الممالك الناشئة الأخرى، مع منع أي منها من السيطرة. في نهاية المطاف، لم يستطع لا الإمبراطور ولا البابا حكم أوروبا. عندما فقدت الإمبراطورية الألمانية زخمها في القرن الرابع عشر ، بدأت فرنسا ، ثم إنجلترا وأخيرًا إسبانيا ، في إظهار ميولها الإمبريالية ودخلن في منافسة فتحت على طريق مسدود و تقسيم نهائي.

لذلك ، فإن العمل السياسي للباباوات ، منذ بداية الإصلاح الغريغوري في منتصف القرن الحادي عشر ، هو السبب الوحيد لعدم تحول أوروبا إلى إمبراطورية بمعناه القر وسطى: “مملكة الممالك” – كما كانت الامبراطورية البيزنطية – و لم تستطع بالتالي وضع الأسس لوحدتها الثقافية واللغوية والسياسية المستقبلية. هذا ما سأحاول إظهاره في هذا المقال.

 حولت البابوية أوروبا إلى مجموعة من الدول المتنافسة التي لا يوحدها أي قانون غير قوانين الحرب، من خلال قص أجنحة الإمبراطورية الألمانية وتقليصها في نهاية المطاف إلى أمة من بين الأمم.

إن ما يسمى أحياناً “السياسة المتوازنة” للبابوية، وهي تأليب دولة ضد أخرى، وخاصة فرنسا ضد ألمانيا، كان وسيلة وليس غاية. لم يكن الهدف المنشود للباباوات إنشاء “أوروبا الأمم” ، ولكن حكمهم للإمبراطورية. كان هذا المشروع تصوا  لمجموعة من المثقفين بقيادة الراهب كلونياك هيلدبراند الذي

لقبه الكاردينال بيير داميان ، وكان يعرفه جيدًا ، ب”القديس الشيطان «،والذي سيصبح البابا غريغوريوس السابع في 1073.تضمن سجله المعروف ب:

مراسيم البابا” أو “أقوال البابا” أو “إملاءات البابا(Dictatus papæ) 27   مقترحا أهمها:

 لا بمكن لغير البابا:

 أن يكون عالميًا،

-أن يستخدم الشارة الإمبراطورية

-على كل الأمراء ان يقبلوا أقدامه

يُسمح له أن يُطيح بالأباطرة

  ظل هذا البرنامج إطارا للبابوية لمدة ثلاثة  قرون. بعد مائة وثلاثين عامًا من غريغوري السابع ، ادعى إنوسنت الثالث أنه يتربع فوق سلطة  الملوك لأن: “الرب لم يمنح بطرس السيادة على الكنيسة العالمية فحسب ، بل على العالم بأسره أيضًا”. في نفس يوم تكريسه عام 1198 ، أكد حقه في صنع الملوك والأباطرة والإطاحة بهم، لأنه:” لقد قيل له بلسان النبي “(إرميا 01: 1)

 قد وكلتك اليوم… )على الأمم وعلى الممالك :

 لتقلع وتهدم،

 وتهلك وتنقض،

 وتبني وتغرس

 من الخطىء  الفادح اعتبار هذه الكلام مجرد مجاز. الوسائل المستخدمة لتنفيذها توضح أنه يجب أن تفهم حرفيا. لقد شملت الحرمان الكنسي وإسقاط أي ملك متمرد. كان سلاحًا قويًا للغاية في العصور الوسطى ، لأن معظم الناس آمنوا أو تظاهروا، بقدرة البابا على إرسال الناس إلى الجنة أو الجحيم.

 يتضمن سجل إنوسنت الثالث حرمانا كنسيا لإمبراطور وسبعة ملوك وعدد لا يحصى من اللوردات. يبدو إنوسنت الثالث في الواقع للعديد من معاصريه على أنه محارب حقيقي. لقد نهج سياسة خارجية لا يمكن وصفها إلا بالإمبراطورية: “لقد كان طموحه… أن يربط بعلاقة تبعية سياسية أكبر عدد ممكن من ملوك أوروبا بالبابوية.”( 10)

على عكس إمبراطورية الملوك الجرمانيين ، لم يكن للمشروع الإمبراطوري للفاتيكان أي فرصة  لتحقيق النجاح ، حيث لم تكن له شرعية سوى كذبة هبة قسطنطين الكبيرة.

تمثلت نكسته الأولى  في الصفعة  التي تلقاها بونيفاس السابع في 1303  ، الذي أعلن ببساطة: أنا القيصر أنا الإمبراطور.

انتقض ملك فرنسا فيليب لو بيل وحاكم  البابا بتهمة اللواط والسحر والبدعة. ثارت بوهيميا في القرن التالي (ثورة هوسيت). ثم استجاب الأمراء الألمان لدعوة لوثر (“إلى النبلاء المسيحيين للأمة الألمانية”،  في 1520).

فشلت الإمبراطورية البابوية، لكنها حققت إنجازا دائما   حيث عطلت مشروع الإمبراطورية الوحيدة التي يمكنها أن تنجح، وتركت أوروبا مقسمة بشكل مزمن بسبب الطموحات الوطنية والمعتقدات الدينية.

لكن لماذا الحديث عن “الفشل”؟

يمكن اعتبار النظام الأوروبي للدول القومية  نجاحًا كبيرًا. لذلك يجب التمييز بين سؤالين. الأول: هل كانت الوحدة السياسية لأوروبا ممكنة،بل حتمية ، لولا معارضة البابوية؟ يمكن الإجابة على هذا السؤال بدراسة تاريخية موضوعية. هذا ما سأفعله.

السؤال الثاني ذاتي: هل كانت الوحدة الإمبراطورية الأوروبية مرغوبة؟ تعتمد الإجابة عن وجهة على وجهة نظر شخصية. سيقول القومي بأنه مسرور أن أوروبا لم تكن إمبراطورية حتى لا تحول دون الأمم والتي إن ظهرت، كانت قليلة. وهكذا يمكن لتوماس توت أن يكتب: “صراع البابوية والإمبراطورية … جعل من الممكن نمو الدول القومية الكبيرة التي شكلت “خلاص أوربا النهائي ” في القرن الثالث عشر.(11)

لكن عن أي خلاص نتحدث؟ هل يعني أوروبا المحترقة والدامية خلال حرب المائة عام (1337-1453) ، والحروب الإيطالية (1494-1559) ، ثم حرب الثلاثين عامًا (1618-1648)؟ التي تم تدبيرها من قبل الكاردينال ريشيليو الذي مول وسلح البروتستانت (اللوثريين و الكالفينيين) من أجل تدمير إمبراطورية هابسبورغ الكاثوليكية بادعاء  مصلحة الكنيسة والمسيحية ، لأن الملكية العالمية  التي يطمح إليها ملك إسبانيا [آل هابسبورغ] ، كانت ضارة جدًا بالمسيحية والكنيسة والبابا”. (12)

في الواقع، شكلت حرب الثلاثين عامًا ولادة أوروبا التي لا علاقة لها بالمسيحية نهائيا.

كتب أرنو بلين: “في غضون ثلاثة عقود ، تغير العالم الجيوسياسي الأوروبي بالكامل. أفسحت فكرة العصور الوسطى لأوروبا المسيحية الموحدة المجال أمام رقعة شطرنج سياسية تحكمها آلية جديدة للعلاقات الدولية تقوم على تضارب المصالح وتوازن القوى ولا أخلاقيات السياسة الواقعية.

بعد قرن ،سيتطرق مونتسكيو بعد قرن في كتابه “L’Esprit des Lois“روح القوانين “لما أسفر عنه سلام ويستفاليا (1648) .

انتشر مرض جديد في أوروبا: أصاب حكامنا وجعلهم يحافظون على جيوش مبالغ فيها. المرض متكرر وسرعان ما ستصبح معديا  لا محالة ، لأنه بمجرد أن تزيد دولة من عدد قواتها ، كما يقال ، فإن الدول الأخرى تفعل نفس الشيء على الفور ، وبالتالي يحدث  الخراب العام .. يحافظ كل ملك بشكل دائم على جيوش ضخمة بأكبر عدد ممكن إذا كان شعبه في خطر محدق بالإبادة ؛ وصراع الكل ضد الكل يسمى السلام.

تطلب دفع أجور هذه الجيوش المزيد من الضرائب والمزيد من الديون بشكل مستمر ، حتى استعبدت أوربا بعد الحروب النابليونية  من قبل الرابحين من الحرب ، وفي مقدمتهم  آل روتشيلد كأبطال.

بعد اختراعها للدولة القومية ، اخترعت  أوربا الحرب الصناعية.

على افتراض أن الأمم الأوروبية استطاعت أن تحرر نفسها يومًا ما من المال الطفيلي؟ هل يمكن أن تعيش في سلام مع بعضها البعض مع تمتع كل منها بالسيادة؟ لا يمكن، ولسبب بسيط: يتكون العالم الآن من إمبراطوريات، ولا يمكن لأمة أن تنافس إمبراطوريات. بدون وحدة سياسية، ستظل أوروبا دائمًا خاضعة لإمبراطورية أو لأخرى.

لتحرير نفسها من براثن الناتو ، ليس لدى أوروبا ، كما هي الآن ، بديل آخر سوى التحالف مع الإمبراطورية الروسية ، لأن الاتحاد الروسي هو بالفعل حضارة وإمبراطورية ، وريث الحضارة والإمبراطورية البيزنطية التي دمرتها البابوية. الذين يقولون إن على أوروبا أن تخاف من روسيا بقدر ما تخشى الولايات المتحدة (كما يفعل العديد من المنتسبين إلى “اليمين الجديد” الفرنسي) هم أكثر تفاوتًا وخطورة من القوميين الذين يتوقون إلى سيادة أمتهم. الواقعي لا يرى بديلا بين أمريكا وروسيا، لأنه لا يوجد بديل. الواقعي لا يتخلى عن أوروبا، لكنه يراهن على أن النظام العالمي متعدد الأقطاب الذي تروج له روسيا سيكون أكثر ملاءمة لأوروبا من الهيمنة الأمريكية.

أخيرًا ، يوافق الواقعي على أنه على الرغم من العديد من العقبات ، تظل ألمانيا الزعيم الطبيعي والشرعي لأوروبا. يمكننا مناقشة سبب ذلك ، لكن لا يمكننا إنكار ذلك. لا يتعلق الأمر بالاقتصاد فقط. الحضارة الأوروبية هي الألمانية في أعظم إنجازاتها. لن يحدث شيء إذا لم يكن لدى ألمانيا الشجاعة للتنديد والإرادة لمقاومة ابتزاز واشنطن وتشكيل تحالف حقيقي ودائم مع روسيا.

بعد هذه الملاحظات التمهيدية ، سأقوم الآن بسرد تاريخ أوروبا بغرض إظهار النظرية القائلة بأن البابوية في العصور الوسطى كانت السبب الرئيسي لفشل أوروبا في الحصول على الوحدة السياسية ، وبالتالي السبب النهائي لإخضاعها الكامل من قبل واشنطن. (في الواقع ، ما تفعله واشنطن بأوروبا الآن يشبه إلى حد كبير ما كانت تفعله البابوية بأوروبا منذ قرون ، كما قال أظهر مايكل هدسون ببراعة).

سيتم اعتبار البابوية هنا فقط كقوة سياسية، وهو ما كانت عليه بلا شك. لن يكون هناك مناقشة للمسيحية كنظام عقائدي أو ممارسة دينية. البابوية ودين المسيح شيئان منفصلان ، قد يقول البعض متضادان. في الواقع ، حتى غريغوريوس السابع ، “كانت البابوية شبه غائبة عن الحياة المسيحية خارج روما” 15.

  1. Hillaire Belloc, « L’Europe et la Foi », 1920.
  2. Joseph Reese Strayer, « Sur les origines médiévales de l’État moderne », Princeton UP, 1973, p. 11.
  3. Ernst Nolte, « Der Europäische Bürgerkrieg 1917-1945. Nationalismus und Bolschewismus, Herbig », 2000. Le titre se traduit par « la guerre civile européenne ».
  4. Ernest Renan, « Qu’est-ce qu’une nation ? » 1882.
  5. Caspar Hirschi, « Les origines du nationalisme : une histoire alternative de la Rome antique à l’Allemagne moderne », Cambridge UP, 2012, p. 14.
  6. Idem, p. 2.
  7. Ernst Kantorowicz, « Frederick the Second (1194-1250) », (1931) Édition Frederick Ungar, 1957 (sur archive.org), p. 385.
  8. « De Monarchia de Dante Alighieri », trad. Aurelia Henry, Boston, 1904, Livre I, chapitre VIII, pp. 26-27, sur libertyfund.org/files/2196/Dante_1477.pdf.
  9. Malcolm Barber, « Les Deux Cités : l’Europe médiévale 1050-1320 », Routledge, 1992, p. 106.
  10. TF « Tout, L’Empire et la papauté (918-1273) », quatrième édition, Rivingtons, Londres, 1903, p. 325.
  11. « Tout, L’Empire et la Papauté », op. cit., p. 6 et 2.
  12. Cité in Arnaud Blin, 1648, « La Paix de Westphalie, ou la naissance de l’Europe politique moderne », Éditions Complexe, 2006, pp. 70-71.
  13. Blin, 1648, « La Paix de Westphalie », op. cit., p. 5-6.
  14. Montesquieu, « Esprit des Lois », Livre XIII, chap. xvii, cité dans Bertrand de Jouvenel, « On Power : Its Nature and the History of Its Growth », Beacon Press, 1962, p. 383, sur us.archive.org/34/items/onpoweritsnature00injouv.pdf
  15. Jacques Van Wijendaele, « Propagande et polémique au Moyen Âge : La Querelle des Investitures (1073-1122) », Bréal, 2008, p. 111.

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى