انت هنا : الرئيسية » الواجهة » ستليتو السم في العسل

ستليتو السم في العسل

الكاتبة الصحفية: أمان السيد – أستراليا – خاص بـ ” وكالة أخبار المرأة

لا ينكر عاقل تأثير الفنون الأدبية والجمالية في النفوس، ورفدها المجتمعات الإنسانية بالفكر والثقافة صعودا وهبوطا، ويظهر ذلك على مر التاريخ إن في اللوحات الفنية، وإن في كتّاب أحاطوا ويحيطون بذوي السلطة والنفوذ، وإن بالمسرح ، والسينما.. لذا كانت أداة متحكمة في يد تسلّط مجتمعي ديكتاتوري، ومنفسحا لذوي النفوس الراقية لتنفح ما عندها من طيب تسمو به الأرواح، فترتقي إلى مصاف الآلهة والقديسين.

حديثي هنا عن مسلسل اكتسح الساحة العربية بنسختيه التركية المترجمة للعربية، والعربية بسوريتها المحكية، وبممثليها السوريين أيضا، والتي استنسخت ما في التركي من مضمون تتشاركه المجتمعات الحالية، ودخل متسللا بيوتها العربية.

عنوان مخادع تُلتقط شرارته.. المعروف أن “ستليتو” كلفظة تعني الخنجر، وهي في الوقت نفسه تطلق على كعب الحذاء العالي الذي ترتديه النسوة المتأنقات بخاصة، وهو كعب يساهم في إكساب المرأة الراغبة بالأناقة رشاقة، وحضورا مجتمعيا راقيا.. الاختيار الذكي للعنوان قد أصاب مرماه بشفافية الهدف المبتغى مدمّسا بالمكر الذي يحضر في صنف من النساء يماثل تلك الأداة التي تستخدمها الدكتاتورية لتسجيل أهدافها، فالخنجر/ الكعب العالي الذي يحاكيه، ويظهره المسلسل في نسخته التركية المترجمة للعربية شعارا له يركز على تلك الصفة التي حصرها المسلسل بنسوة انتسبن إلى مجتمع ثري جدا، ويظهرهن لا يحملن من ثقافة الفكر وركائز الأخلاق شيئا، يضاف إليه غياب الإشارة إلى أنهن أنهين تعليما ما أيضا، ولكنهن في المقابل تفانين، وتفنّن في تعليم أنفسهن وتدريبها على المكر والكذب، والتحايل، وأحابيل الخداع والتآمر، والتسلط أيضا، في تعاون وتآزر مكين عليه، أما كبيرتهن التي دعيت في النسخة المترجمة “مروة” فقد كانت تمثل زعيم المافيا الذي يحلل ما يشتهي، ويشطب ما لا يرغب ابتداء بالأشخاص، وانتهاء بالعلاقات الاجتماعية في مجمع سكني تستفيد مروة فيه من كونها زوجة رجل له قيمته وتأصله في المجتمع، لتمارس تسلطها الذي يتبدى أنه عقدة صاحبتها منذ حداثة السن، وكبرت وتعاظمت في نفسها بمرور الزمن، ثم إن لديها جيشا مجندا تمتزج فيه سيدات بيوت تماثلنها جهلا وفراغا، وثرثرة، ومكرا، وانحطاط خلق، ولا تغلب في تجييش من تراه مناسبا لها لتسيير مصالحها، وتلجأ إلى التهديد حين لا ينفع الإغراء بالمال والمنصب.

ولا يُغفل في الوقت نفسه عن ذكاء آخر من مخرج لم يقلّل من الشأن الذي كرسه العنوان بشأن آخر، فخلّى العنان لوسيلة أخرى تدغدغ بما تحمله من مذاق السم في العسل.. قالب حلوى “التشيز كيك” المغطس بالمربى الذي تصنعه مروة، واشتهرت به.. لوحة سريالية المدخل، ألوان، ومذاق، تحتضنهما كفا مروة حين تكون في صدد التخطيط لمكيدة من مكائدها.. ألم يقل سبحانه وتعالى في معرض الوصف لامرأة العزيز بالمكر”… إنه من كيدكنّ إن كيدكنّ عظيم”، وألم تتناقل عوامّ النساء عن الجدات والعجائز “إن الطريق إلى قلب الرجل معدته”، ويبدو لي أن مروة ضفرت الأمرين معا، وعممتهما، فاختلط لديها الحابل بالنابل في مضرب التسويق لمؤامراتها، ورغائبها.

نحن في المسلسل الذي تتوسع به التفاصيل، أمام أمر فادح جلل، أدناه ما شد أعين النساء المتابعات له وتعليقاتهن حول ملابس البطلات التي تظهرهن كدمى سارحات في الصباح المبكر إلى حفل راقص، وليس هو في القصور الفارهة التي يعشن فيها، ولا في المجوهرات فائقة الثمن التي يتزين بها… هناك لعبة خفية، ستيليتو حادّ يعمل حفرا ونسفا في القيم المجتمعية المتعارف عليها بجمعها، ويسوق لحضور فئة تافهة رخيصة من النساء يصطحبن أزواجا مسلوبي الإرادة والتفكير، اللعبة التي أظهرت الطبيبة الراقية بفكرها وبإنسانيتها، وبأسلوبها في الحياة، غبية حمقاء، وما تمتعت به من الطيبة والمغفرة سذاجة وحمقا لا يغتفران، فهي مستسلمة منذ أن كانت في الثانوية لما دبرته لها مروة زميلتها، ومستسلمة للأهل دون أن تتجرأ على مواجهتهم بالظلم الذي لحق بها، ثم إن الانعزال والإعراض الطويل الزمن عن المجتمع، والذي لجأت إليه الطبيبة إثر انتكاستها وطردها مهانة من قبل مدير مدرسة تحكمت به مراهقات خبيثات، لتظهر بعدها نجمة ساطعة.. طبيبة لامعة، وامرأة رؤوفا ورحوما بالفقراء والمساكين، تمارس حياة صحية وتغفر لمن أساء إليها، وتصر على ما تتحلى به من نبل الخلق، وأدب التعامل، كل ذلك فسرته الجهة المضادة التي تتزعمها مروة وجيوشها بالغباء، وضعف الشخصية، بل وانعدامها، فصارت مكبا جديدا لنفاياتها، وحقلا شاسعا مبررا لسهامها، إلى أن سقط سهم مروة الأخير في جعبة الطبيبة الرشيقة الجميلة الهادئة، ولم يكتب له الخروج مطلقا.. كان السهم زوج مروة الذي وجد ما كان ينقصه من حب وسلام في الطبيبة، فعشقها، ليكتشف أنه كان واقعا في قبضة مروة المجرمة التي خططت من قبل طويلا لاقتناصه، وفازت بما أرادته كالعادة.. ولكن الأمر هنا اختلف.!

أعتقد أني كمشاهد غفلت عما انتهى إليه المسلسل، وإن كان على ما أذكر بانتصار الطيبة على الخبث، أو ربما بالاستفاقة المرجوة من عمل كهذا لو اعتبرناه يحمل هدفا توعويا، وبين ضفتين غير متكافئتين طغى الغث فيهما على السمين، انتقلت نقلة مختلفة.. إلى عالم الصفوة والفكر، عالم النخب الذين يعملون الحفر والنحت، والتنقيب عن الحقيقة، عن تخمير النفوس بلذائذ المعرفة، لا بلذائذ الأطعمة، عالم المنعزلين بعقولهم، ولحظاتهم بعيدا عن ترّهات المقاهي، والمحاشر الثّرثرية.. أولئك المتمسكون بالأخلاق في مواجهة عالم رذيل محبط، أولئك الحريصون على الارتواء الحقيقي…..

ترى أيهما المنتظر له التفوّق في حرب ستطول: الخنجر/ الكعب العالي، أم عسل التشيز كيك.. مكائد الجاهلات والسافلات/ سُفر الطعام التي تنشرها مواقع التواصل الاجتماعي تفاخرا وتنافسا، ولا تراعي فيها جائعا أو محروما.. فراغ العقول والأرواح، أما أغلب الظن أن الختام بأفلاطون هنا يكفي ويفي” إنك لم تخلق للبقاء، فاصنع لروحك أثرا طيبا.

الحرب ستطول حقا…

عن الكاتب

عدد المقالات : 1615

اكتب تعليق

الصعود لأعلى