انت هنا : الرئيسية » الواجهة » سعاد خليل: اللغة الشعرية والغموض

سعاد خليل: اللغة الشعرية والغموض


 سعاد خليل

المصدر: رأي اليوم

ان الغموض خاصية داخلية ، ولا تستغني عنها كل رسالة تركز علي ذاتها ، وباختصار ، فانه ملمح ملازم للشعر ، ومكائد الغموض عنده (توجد في جذور الشعر نفسها   ، واذا كان الدفاع عن غموض الشعر ميزة من ميزات المحدثين في عصرنا نقادا او شعراء فقد كان من قبل مجالا للنقاش والمحاجة بين اصحاب الاتباع واصحاب الابداع ..

 ياكوبسون

هناك من يقول بان الشعر العربي المعاصر يميل الي الغموض  ولذلك نجد بعض الاحيان نحن كقراء بعض الصعوبة في التعامل مع بعض النصوص  ، وهذا بعض الاحيان يدعو الي العزوف والتمنع عن القراءة .

وهذا سبب بعض التباعد بين المرسل الذي هو الشاعر وكذلك القاري الذي هو المتلقي . وهذا السبب لم يمنع الدارسين والباحثين ان يتعمقوا في هذا الشأن بغية الوقوف عند هذا الامر  ليبينوا الغموض واثره الايجابي والسلبي في ذا الوقت والسلبي في ان واحد في النصوص الشعرية .

يري الجاحظ ان  الشيء من غير معدنة اغرب ، وكلما كان اغرب ، كان ابعد في الوهم، وكلما كان ابعد في الوهم كان اطرف ،وكلما كان اطرف ، كان اعجب ، وكلما كان اعجب ، كان ابدع.

بمعني ان الناس موكلون بتعظيم الغريب واستطراف البعيد ، ودافع ابو اسحاق الصابي عن غموض الشعر ، وراي فيه قيمة اساسية تميزه م النثر حيث قال : ان طريق الاحسان في منثور الكلام يخالف طريق الاحسان في منظومه ، لان الترسل هو ما وضح معناه ، واعطاك سماعه في اول وهلة ما تضمنته الفاظه ، وافخر الشعر ما غمض، فلم يعطيك غرضه الا بعد مماطلة منه .

الدكتور علاء المعاضيدي كتب عن الغموض في اللغة الشعرية البناء والهدم . ويعطي مثالا لقول العديد من المهتمين بهذا الشأن كما قال البحتري :

والشعر لمح تكفي اشارته  وليس بالهدر طولت خطبه .

وكذلك الجرجاني الذي يقول : من المركوز في الطبع ، ان الشيء اذا نيل بعد الطلب له او الاشتياق اليه ومعاناة الحنين نحوه ، كان نبله احلي . وبالمزية اولي ، فكان موقعه من النفس اجل والطف ، وكانت به اضن واشغف ، ولذلك ضرب المثل لكل ما لطفه موقعه ببرد الماء علي الظماء كما قال:

وهن يندبن من قول يصبن به مواقع الماء من ذي الغلة الصادي .

واشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاج اليه ، وتقدم المطالبة من النفس به فالشيء، واذا علم انه لم ينل في اصله الا بعد التعب ، ولم يدرك الا باحتمال النصف ، كان للعلم بذلك من امره من الدعاء الي تعظيمه واخذ الناس بتفخيمه ما يكون لمباشرة الجهد فيه وملاقاة الركب دونه.

والغموض هنا ، ليس التعقيد او التعمية او الابهام او ما لا طائل وراءه ، وانما هو القدر  الذي يحتاج اليه الشاعر ليعبر عما يريد.

ويعرض صوره بثوب بديع وهو يعطي النص تفسيرات مختلفة تذهب النفس فيها كل مذهب ، فالغموض الشعري الذي هو غموض العمق ، لا يراد به ان يكون كأشكال الفيدس والمجسطي والكلام في الجزء ، بل ان يكون بحيث اذا ورد علي الاذهان بلغت منه معاني غير مبتذلة ، وحكما غير مطروقة ، فالنقد العربي القديم ادرك ان الغموض الشعري مقوم رئيس في الشعر ، والاهم من ذلك انه فطن لي ان النوع الايجابي من الغموض ، ذلك الذي يكون وليدا للشعر ومولدا له في الوقت نفسيه ، ولا يتنافى مع الوضوح والبيان ، بل هو الذي حققهما ويقود المتلقي اليهما .

ومن الجدير بالذكر انه لما عالجن جان كوهين موضوع الغموض الشعري ، في كتابه (الكلام السامي) كان كما لو انطلق من نقاش العرب  المذكور ، مستثمرا حصيلته في بناء نظرية متكاملة ، تعد اليوم ثورية في بابها .

ولغرض بيان علاقة الغموض الشعرية وانماطه في الدراسات القديمة والحديثة ، وكذلك بيان أهميته في الشعر الحديث علي وجه خاص ، نحاول هنا استعراض  جانب من الآراء النقدية التي وقفت عند حدوده ودوره ..

تذهب نازك الملائكة الي القول: ان الشعر لابد له من مسحة من الغموض ، تجعل المعاني مثيرة للتعطش في نفس القاري، فيحس وهو يقرأ انه يلمس المعاني ولا يلمسها في الوقت نفسه ، فالأفكار تزوغ ولا تثبت ، وفي القصيدة ايماء الي المعني يبقي الدهن متطلعا ، ويريد ولا يلمس ما يريد ، وينال شيئا وتفوته اشياء.

والحقيقة ان مشكلة الايصال والغموض ا لذي يعني عدم الايصال، من مشكلات الشعر القديمة جدا ، فالغموض ليس خاصية ينفرد بها الشعر الجديد ، وانما خاصية مشتركة بين القديم والجديد علي السواء وكل ما في الامر مهمو ان الغموض  قد صار ظاهرية واضحة في الشعر الجديد تدعونا الي التأمل .

لاسيما ان الغموض الذي بدأ يكتنف النص الشعري الجديد، قد ولد حاجزا  بين النص والقاري ، حتي اصبح القراء المثقفون يشكو شكوي تنقطع من انهم يقرؤون قصائد كاملة لا يدركون لها معني علي حد تعبير نازك الملائكة التي تري ان السبب يكمن في مبالغة الشعراء في اضفاء الابهام علي شعرهم .

والحق ان المسالة ليست جديدة ، فقد اثيرت مع كل حركة تجديد فني ، وقد واجهها الشعر العربي من قبل ، لاسيما في اوائل العصر العباسي ، وتواجهها اليوم حركات التجديد المعاصرة ، ومهما كان السبب الذي يدفع الشعر باتجاه منطقة الغموض – اذ اصبح من الواضح تماما ان الشعر عموما وعبر تاريخه ، وفي مستوي الممارسة والنظر ، يسير في اتجاه الغموض – اقول : مهما كان السبب ، فليس هو المهم ، فالمهم ان نحدد معني لغموض .

اولا: لكي نجيب بعدها عن السؤال الاهم ، اذ هل يصد ق ان يكون الغموض عاملا خلاقا يولد الطاقة الشعرية في النص ؟؟ وهل النص الجديد الغامض اكثر شعرية من النص القديم ؟ وهل ثمة ضرورة جمالية تجعل الغموض عنصرا جوهريا في الشعر؟؟

ولكي نسرع في تقديم مفاتيح الإجابات، نري ابتداء ضرورة الوقوف عند ضروب الغموض. فالغموض ضروب ، منها ما ه واجب الوجوب في الشعر ، وهو بالنتيجة يمكن ان يعد غموضا ايجابيا في الكتابة الجمالية ، ومنها ما هو غير واجب الوجود، وهو بالنتيجة غموض سلبي يسيء الي جمالية النص ، لأنه لن يكون اكثر من عبث في الكلام، ولتسير البحث نحاول هنا استعراض انماط الغموض تحت عنوانين جانبية قدر الامكان وسنقسم الغموض الي ضربين رئيسين هما : الايجابي والسلبي ، ثم نلحق بكل منهما صفة اخري ملازمة له لتبين إيجابيته أو سلبيته .

اولا : غموض التعمية والتضليل :

وهو اول مظاهر لغموض في الشعر ، وهو الغموض الحاصل من قصد التعمية والتضليل الذي يقصد اليه كتاب وشعراء بدعوي ان هذه سبيل من سبل الشعرية في حين انها لا تعدو ان تكون تصرفا من قبيل الالغاز المجرد. هذا غموض محض ويدخل في هذا الباب قسم كبير من ادب الملاحن والالغاز والاحاجي ، وهذا الادب غالبا ما يكون ضعيف القيمة الجمالية ، لأنه وان لم توظف فيه اللغة توظيف عاديا ، غير داخل في باب الابداع راسا . ذلك لان الغموض  في تقد ير رواد  هذا الادب غاية في حد  ذاته ، لا معني من معاني الشعر السامية ، ولا دليلا من ادلة الحدة في قوة الطاقة الشعرية في الكلام . وهذا الضرب من الغموض علي شيوعه في الشعر القديم وندرته في الشعر الحديث ، لا ينطوي علي ابداع شعري ، فغالبا ما يضحي فيه الشاعر بشعرية النص توسلا الي اغماض اللغز او الاحجية وما الي ذلك.

ثانيا : غموض الايهام بالحداثة :

وهذا الغموض يحصل في كتابة اولئك الذين يفرطون في  طب الشعر افراطا مخلا .فينغلق شعره بمقتضي تجريدهم الشعر من كل اطار غير شعري يخرج فيه ، معتقدين ان الشعر يبرز بذاته لا بالقرائن غير الشعرية التي قد تجاوره في النص ، كأساليب الوصف والقص وضورب الحكاية والتوجيه.. الخ . فهؤلاء عندما يخلصون نصوصهم من جميع العناصر التي تمثل مفاتيح الكلام ، والعلامات الهادية للمقصد منه ، يسبغون عليها صفة الابهام ، فيشفعونها بما لا  معني له من القول . في حين ان منطلقهم وغايتهم جعلها وافرة المعاني .

وهذا الضرب من الغموض يكاد يشكل سمة رئيسة من سمات التجارب الشعرية الحديثة التي تحاول زج نفسها تحت مظلة الحداثة ، وتقديم نفسها علي انها نصوص حداثوية بكلام غامض مبهم لا قدرة للشاعر نفسه علي فك طلاسمه ، لأنه ليس اكثر من نتاج العجز عند الشاعر في احكام الصلة بين ما يريد من الشعر ، وبين ما يريد الشعر منه.

وهذا بلا شك هو النمط الذي التفتت اليه نازك الملائكة وغيرها ، وهو بلا شك ايضا وليد عدم استقرار رؤية الشاعر ، وحيرته ازاء التيارات والاتجاهات المتعددة وارتباكه في التعامل مع ادواته الشعرية ..

ثالثا: غموض القصد والتطفل علي الشعر

وهذا الضرب من الغموض ، يتأتى من تعاطي الشعر مع الجهل بحقيقته وقواعده وقوانينه ، وهو علي قلة نماذجه في النقد القديم ، الا انه ضرب قديم بلا شك ، وقد جاء من  الموشح  :مثلا: كان المهدي قعد للشعري ، فدخل عليه شاعر ضعيف الشعر ، طويل اللحية ،فانشده مديحا فقال فيه (وجوار زفرات )فقال المهدي : أي شيء زفرات ؟؟فقال: ولا تعلمه انت يا امير المؤمنين؟؟ قال : لا قال ك فانت امير المؤمنين وسيد المسلمين وابن نعم رسول رب العالمين صلي الله عليه وسلم،لا تعرفه اعرفه انا.

كلا والله  فقال له المهدي ينبغي ان تكون هذه الكلمة من لغة لحيتك .

ويبدو ان هذا الضرب، علي قلة نماذجه الواصلة الينا من الشعر القديم ، قد اصبح شائعا الي درجة  كبيرة في الكتابات الحديثة ، مما اساء الي الشعر عموما  لاسيما انه اخذ يربك المبتدئين في تعاطي الشعر ، بعد ان خلط لديهم الجيد بالرديء ، ولا نبالغ اذا قلنا انن طائفة من النقاد المتطفلين علي النقد قد اساؤ بدورهم الي الشعر حين بدأوا ينظرون ويبشرون بهذا النمط من الشعر (غريب اللحية)  تحت دوافع المجاملة وحب الانتشار علي حساب المبدأ النقدي السليم ، وهنا تكممن بذور الكارثة التي اصابت اشعر العربي الحديث، حيث راح النقد هو الاخر يبحث عن غموض مماثل للانضواء تحت مظلة الحداثة.

والانماط الثلاثة المتقدمة ، هي ما نسميه بالغموض السلبي ، لأنه غموض فصل لا وصل ، أي غموض يجعل من اللغة اداة للفصل بين النص والقاري وليس اداة للوصل بينهما ، وهذا الغموض هو الذي يجذر منه النقد العربي القديم فضلا عن النقد الشعري الحديث ..واذا ان الانزياح سببا مباشرا من اسباب خلق الغموض  ولا غني لشعرية النص عنه ، لأنها تتصاعد بتصاعده فينبغي ان يعلم ان الانزياح لا يكون شعريا الا اذا كان محكوما بقانون يجعله مختلفا عن غير المعقول  بمعني ان شعرية النص تنتهي حيث يصل الانزياح الي درجة اللامعقول ، او اللامعنى، ولوكان مطلقا كما يتوهم ذلك بعضهم ، لخرج باللغة الي محض الهذيان ، وهذا ما هو حاصل ومتحقق فعلا في كثير من النصوص الشعرية المعاصرة هذا من جهة ومن جهة ثانية ، فان الغموض السلبي هو الغموض الذي يشكل صفة قارة من صفات الكلام ، وهو المتجسد في الانماط السابقة .. اما الغموض الايجابي فهو ضرب واحد ، وهي يمثل سمة عارضة في الكلام ، يمكن ان تزول او تتبدد بإدامة التأمل واعادة القراءة ، او يمكن ان يؤول الكلام معه تأويلا لا يقود الي غير المعقول ، بحيث لا يكون عنصر هدم بقدر ما يكون عنصر بناء . هذا لان الغموض الشعري خاصية في طبيعة التفكير الشعري ، وليس خاصية في طبيعة ، التعبير الشعري ، وهي لذلك اشد ارتباطا بجوهر الشعر . فهو غموض ناتج عن الحدة الشعرية ، او كثافة الطاقة الشعرية ، علي نحو يجعل النص الشعر قابلا لتعدد القراءات قابلية تبرهن علي ادبيته ، وفي الوقت نفسه تكشف  عن خصوصية الغموض الذي داخله ،وتبعده عن كل صيغة سلبية او معني تهجيني ، فتجعل منه علامة من علامات سمو الكلام في النص وشعريته الملحوظة وخلوده المؤمل ،. والشاعر الذي يتعامل مع الغموض من هذا المطلق ، أي من نطلق الوعي بدوره الشعري هو الشاعر المبدع حقيقة ، ف بهذا الطراز من الشعر  ، يمكن انت تغني اللغة وتزدد ثراء من جهة . كما يمكن مع الزمن تكوين حاسة شعرية صادقة لذي القاري ، تختلف عن الحاسة التي يكونها النمط الاول الذي لا يقوي سوي غربة القاري عن النص ، ولا يؤذي الا ال فقدان النص لهويته الادبية والجمالية معا.

والذي يجب ان ننبه اليه ، هو ان ظاهرة الوضوح في الشعر ليست ظاهرة سلبية تماما . لان الوضوح ايضا قد يحقق للنص شعرية مساوية لتلك التي يحققها الغموض الايجابي ، فالغموض والوضوح ، يلتقيان في الايجاب والسلب، والعبرة في كل ذلك ، نوع الغموض او نوع الوضوح الذي يطغي  علي الكلام وموقعه ووظيفته ، فالمرفوض ادن، ليس الوضوح وانما المباشرة والسطحية..

وعلي العموم يمكن ان نجعل هنا علامات الغموض الناء في العناصر الاتية :

1 ان يكو الغموض راجعا الي المدلول لا الي الدال في حد ذاته، فغموض الخطاب الشعري غموض يعلق بالمدلولات ذاتها لا بالدوال المستخدمة لها ، وليس معني الغموض فيه ان يخفي المدلول وإنما معناه : انه يحيل القاري الي مدلول غامض ،أي علي مستوي من المفاهيم والمعاني في حد ذاته غير متبلور ا بالوجه الذي يمكن الشاعر من الكشف عنه واجلائه .

2  ان يتبدد الغموض بمفعول القراءة ، لاسيما بتعدد القراءات ، ويترك محله لمعن سامية ليست هي معاني الكلام في مستواه الاخباري المباشر:

3  ان تتعد ترجمة الكلام ولذي يكون قوامها الغموض ،مع الوفاء لمختلف معانيه .

4  ان يجتمع في النص الواحد الغموض البناء مع نوع اخر او اكثر من نوع من انواع الغموض السلبية .

5  ان لا يحطم الغموض المنطق في مقولاته ولا اللغة في قواعدها ، ولا تقاليد النظم فيما عرف منها ، فيعطل كل السنن المشتركة للتواصل بين الباث والمتلقي ، لا ليشيد فيما بعد ذلك صروحا من الكلام جديدة يوظف فيها المنطق واللغة وتقاليد الفن توظيفا جديدا ، فيه يتضح ان الهدم كان للبناء وان التحطيم كان وسيلة لغاية اسمي، وان صلة الباث بالمتلقي لم تنقطع الا لتتصل من جديد وتقوي .

ومن هنا ندرك اهمية القول بالقرينة الذي تتطلبه الدراسات البلاغية  العربية القديمة ، فالقرائن وحدها هي القادرة علي توجيه القارئ الي المعني السامي المنشود.

وعليه فلا بد للغموض اذن ، اذا اريد له ان يكون ابداعيا ،ان يحتوي علي شيء من الوضوح، يمكن ان تلوح به اللغة وتشع به مفرداتها ، وكذلك الشأن مع الوضوح فاذا اريد له ان يكون ابداعيا ، فعليه ان لا يجئ سطحيا او مباشرا ، ولابد له ان يمتلك عمقا يجعل منه وضوحا شعريا .

عن الكاتب

عدد المقالات : 1687

اكتب تعليق

الصعود لأعلى