بشير عمري: الحرية كأساس مرجعي للفاعل السياسي العربي
بشير عمري
المصدر:رأي اليوم
أثار مقالي الأخير، الذي عقبت فيه عما أبرزه المفكر السياسي الكويتي الدكتور عبد الله النفيسي في لقائه التلفزيوني الأخير مع قناة الجزيرة، بشأن افتقار الحركة الإسلامية للمفكر “الاستراتيجي” كسبب لانتكاساتها السياسية المتتالية، بعضا من التعليقات تفاوتت بين التنطع وصل أحيانا إلى حد الانحراف عن عرف وأدب النقاش الفكري والثقافي من بعض متعصبي الحركة الإسلامية، والموضوعية من بعض المتبصرين المتحلين بأدب وموضوعية النقاش الثقافي والفكري، ومن هؤلاء المستنيرين، الناقد والكاتب الكبير عبد الحفيظ بن جلولي والدكتور محمد كامل، هذا الذي أشار في معرض تعليقه الراقي، إلى فكرة مهمة كمرجع محدد للمشروع السياسي التيارات الدينية والعلمانية العربية تاريخي، ولا أجهز وأنجع حسب الدكتور في ذلك من الالتفاف حول الفضية الفلسطينية.
لكن قبل الحديث عن مسألة المرجعية المقترحة من قبل الدكتور محمد كامل، تقتضي طبيعة التعاليق وردود رصينة دون تلك العدوانية و”التنطعية” أن أوضح بعضا مما حسبته سوء فهم في إشارتي لمسألة طغيان المنزع الأخلاقي في التدبير السياسي على التفكير الإسلامي، إذ لم أرم أبدا بذلك إلى القول بضرورة تجاوز الأساس الأخلاقي الذي هو من أعمدة البناء في عمارة النموذج الحضاري الاسلامي، أنا أتحدث عن الحس الأخلاقي المستتر في الأعماق النفسية للمسلم كعائق للعبور والحضور في فضاءات الفعل التاريخي اليوم، فمثلا غياب النموذج الإسلامي في باحة الفنون الكبرى لا يزال محل نقاش على داخلي لا على مستوى أجهزة تفكيك المفاهيم وبناء الاستراتيجيات، بل على مستوى أجهزة إنتاج القرار العلمي، المعرفي وأعقدها جهاز الإفتاء الذي لا يزال يترنح مثلا في جزئية حرمة الموسيقى وادواتها من حلالهما، هل التماثيل الفنية اليوم هي أصنام الأمس التي كانت تعبد؟ الأدب نفسه محل نقاش أخلاقي في مضمونه بين مستجيب ومستريب، في سياق كهذا يتجلى بألق سؤال الدكتور محمد كامل عن كيف سنربي الأجيال المستقبلية؟ والجواب عنه في ظني هو كامن في مضمون سؤال تأسيسي آخر، كيف تربت الأجيال السابقة، على أي نموذج؟ وهل حركات الإسلام السياسي، التي يدعي بعض “متنطعيها” أنها ألمت بكل أسئلة العصر، استحضرت هذا النموذج وأخرجته للناس يوم تبوأت الحكم في بعض بلدان الربيع العربي؟
بحسب معرفي المتواضعة غير الجازمة كما هو حال حملة الحقيقة من هؤلاء المتنطعين، لا، الدليل أن أبرز سوح هزيمة الاخوان في مصر كانت الفنون والاعلام وصناعة الخيال الذي ظل على هامش العقل الحركي ينظر إليه على أنه من سفاسف الأمور، ويأتي متنطع كان غارقا سنين عددا في الكتابات “النظرية المجردة” عن الإسلام الحضاري في مجلات وصحف خليجية، حيث درس بالجامعات، ليحتج بالقول أن الإسلاميين واجهوا الفكر المعاصر بالندية المثلى وقدموا بدائل وصلت حد طرح البدائل في عنصر البيئة!
بالعودة إلى الشأن السياسي في جزئية المرجعية الجامعة للتيارات السياسية العربية التي اقترح الدكتور محمد كامل أن تكون القضية الفلسطينية أساسا لها، فلا أدري إن كان هكذا تجسيد سيغدو حلا للتجريد الذي يطبع الرؤى ومشاريع السياسة في حقولها الجرداء بالعالم العربي، فحتى القضية الفلسطينية كأساس لتلاقي الأهداف هي أبعد فيما يبدو لي من أن تكون أساسا لوحدة التمشي والاختيار السياسي للنخب العربية.
وما يفاقم من مسافة حلم هذا التلاقي، هو الشأن القطري الداخلي الذي لا يزاله أبعد ما يكون من التسوية التاريخية الموروثة عن الاستعمار في أكثر من إشكالية، سواء المتعلق منها بالحريات، أو الهوية، أو الحكم والحوكمة، فكل بلاد العرب اليوم غارقة في جدل بناء الذات القطرية تتسأل وتتقاتل نخبها وشعوبها ومكوناتها العضوية حول قضاياها من أهمها إلى أتفهها، في ظل حضور سلبي لتلكم نخب علمانية كانت أم اسلاموية تدعي امتلاك الحقيقة.
وعليه أرى شخصيا أن أهم ما يمكن يؤسس المرجعية السياسية للفاعلين في حقل فن إدارة الممكن، هو الحرية، إذ مثلما كان التحرير عنوانا لأهم الحركات الوطنية في العالم العربي زمن الاستعمار، تغدو اليوم حرية الانسان العربي من كل سلط الضغط والقمع والاكراه بكل أشكالها أساسا للتحول في الخطاب السياسي العربي، وهو ما غاب عن نخب الربيع الغربي التي بعضها ارتمى في وهم خياله الحركي، فأودى به إلى المحرقة، والسبب كما أشرنا غلواء فكر الحركة على حساب ثقافة الدولة وحسبان الأول بديلا موضوعيا وناجعا عن الثاني، يقول مستشار الرئيس الراحل محمد مرسي الدكتور عبد الفتاح سيف أنه لما باشر مهامه القصر إلى جانب الرئيس طالب بالملفات الفساد التي أعدها رجال الحركة عن نظام مبارك، ولما فتَّح الرزمة لم يجد سوى قصاصات الجرائد !!
في الجهة الغربية من التجربة، لم يكن أحد ليتصور أن يتم التطبيع مع الكيان الصهيوني على يد الإسلاميين الاخوانيين في المغرب، وهم الذين طوال عقود وعهود نشاطهم السري ثم العلني لم يفتؤوا يلعنون في قوى اليسار الالحادي الانحلالي والتغريب الفرنكفوني والتخريب اليهودي وينظمون الصالونات والندوات حول بروتوكولات حكاء صهيون، والعذر الذي كان أقبح من الذنب بحسب القولة العربية الشهيرة هو ما بدر من قادتهم (حزب العدالة والتنمية) من أن عدوانية الجزائر على وحدة بلدهم الترابية هي من دفعتهم للتطبيع !
إذن فالواضح في الأمر هنا هو أن النخب السياسية العربية وعلى رأسها الاسلاموية تفتقر فعلا إلى المفكر الاستراتيجي الذي ينقلها من التجريدات النظرية وكتاباتها اللا تاريخية المستأنسة بإفراط في نصوص الماضي مستبشرة بإمكانية انقلاب الحاضر وانتحار الزمن والتاريخ معا، أن تقبل بإعمال المبضع النقدي على جسدها وروحها، دون تنطع ومكابرة ومعاداة لكل من وجه لها سهام الملاحظة كما صاحب الملاحظات الذي يرى كل ملاحظة عليهم مغالطة في تعصب للحركة فاق التعصب للإسلام !
كاتب جزائري