انت هنا : الرئيسية » الواجهة » أ.د. فؤاد عبد المطلب: قراءة نقديَّةٌ في روايةِ صبحي فحماوي  “أخناتون ونفرتيتي الكنعانية

أ.د. فؤاد عبد المطلب: قراءة نقديَّةٌ في روايةِ صبحي فحماوي  “أخناتون ونفرتيتي الكنعانية

المصدر:رأي اليوم

أ.د. فؤاد عبد المطلب

الملخص

تتطرقُ هذه الدراسةُ إلى روايةَ صبحي فحماوي “أخناتون ونفرتيتي الكنعانية” بكونِها روايةً تاريخيًة تقرأ الماضيَ قراءة رمزية مؤطرة من خلال نقاطِ معينة ملقيةً ظلالَها على الحاضرِ. وتتضمنُ الدراسةُ قراءًة نقديَّةً للروايةِ من خلال رؤًى حديثة، وبخاصة بعضُ الآراءِ النّقديَّةِ فيما يخصُّ الدِّراساتِ الأدبيَّةَ التي سادتْ خلالَ النِّصفِ الثاني من القرنِ العشرينَ. ويتطرَّقُ البحث إلى هذه الاتِّجاهاتِ النقديَّةِ الرئيسةِ السَّائدةِ في دراسةِ علاقةِ الأدبِ خصوصاً الروايةَ بالتاريخِ، مع التركيزِ على اتَّجاهِ النقد الجديدِ ومدى انسجام الرِّوايةِ بتفاصيلِها مع قواعدِ هذا الاتِّجاهِ، فضلاً عن استجابة القارئ، والنظرات الجنسانية والعرقية، ومن ثم التفكيكية، محاولاً الربط فيما بين هذه الرؤى ومعالجةِ الحدثِ التاريخيِّ وتفاعلاتِهِ بينَ مصرَ القديمةِ وأرضِ كنعانَ فنياً. وتتناول الدَّورِ الذي تضطلعُ به شخصيَّتَا أمنحتب الرابع- أخناتون والأميرة الهام- نفرتيتي في تلكَ التفاعلاتِ والسبيلِ الَّتي تتطوَّرُ فيها العلاقةُ بينهما إلى حبٍّ وزواجٍ واستقرارٍ وإلى بروزِ إنجازِ أخناتون وديانتِهِ الجديدةِ بمساندةٍ من نفرتيتي، ثم سقوطِهِ من خلال سلسلةٍ من التَّداعياتِ، ومن ثم العلاقةِ بينَ الشَّخصياتِ الرئيسة ذاتِها بالإضافة إلى علاقتِها بباقي الشخصيات، وتأثير تلكَ العلاقاتِ بالسرديةٍ الروائية التاريخيَّة، وإيرادِ القراءاتِ النقديةِ الحديثةِ للنُّصوصِ الأدبيةِ وإمكانيةِ تطبيقِها بوسائلِها على النصِّ الرِّوائيِّ. ويتم ذلك كلُّهُ بتسليطِ الضوءِ على علاقةِ أطرافِ السردِ الثلاثةِ: المنظارِ والرَّاوي والقارئِ، وما تثيرُهُ هذه العلاقةُ منِ افتراضاتٍ وتساؤلاتٍ. يتبع البحثُ منهجيةً نقديةً يمكن تحديدها بأنَّها وصفيةٌ وتحليليةٌ تستخدمُ المراجعَ المتوافرةَ بالعربيةِ والإنجليزيةِ حولَ النقاط المثارةِ.

مقدمة نقدية نظرية:

    تحاولُ هذه الدِّراسةِ تقديمَ بعضِ النَّظراتِ المُطوَّرةِ أوِ المنبثقةِ من وجهاتِ النظرِ النقدية السائدةِ خلال القرن العشرين لكي نستكشفَ الطّريقةَ أوِ الوسائلَ الَّتي يمكنُ أنْ نعاينَ بها الرِّوايةَ التَّاريخيَّةَ، ومثالُنا الحاليُّ هنا روايةُ صبحي فحماوي، “أخناتونُ ونفرتيني الكنعانيَّةُ”، الصادرةُ في عمانَ بطبعتِها الأولى عام 2020. يقتضي ذلك أن ندرسُها من خلال مصطلحاتِها الفنيَّةِ والتَّاريخيَّةِ، بتبين طرق قراءة النصوص الأدبية ولا سيما التاريخية منها، نظرياً وتطبيقياً. تفضي دراسة الرواية إلى رسالةٍ إنسانيةٍ عامةٍ تناسبُ الأزمنةَ والأماكنَ كلَّها، وحينَ يقرأُ الروايةَ قارئٌ حصيفٌ، سيفهمُ السؤالَ الوجوديَّ الإنسانيَّ المثارَ فيها، لكن حينَ يقرؤُها قارئٌ متسرِّعُ، سينشغلُ بتسلسلِ الأحداثِ وتقلباتِها والشخصياتِ والمشاهدِ والصورِ ذاتِ السمةِ التاريخيةِ المتخيلةِ وحسب.

إن، الرِّوايةُ ضمنَ هذا المنظورِ النقدي سلسلةٌ من أفعالِ الرؤيةِ أوِ القراءةِ المؤطَّرةِ: فما يراه المنظارُ في البدايةِ أو يعكسُهُ بالصَّوتِ والصُّورةِ عنِ الملوكِ والملكاتِ وأعمالِهمْ وتفاعلاتِهمْ، والرَّاوي الذي ينقلُ ما يشاهدُهُ ويقرؤُهُ في المنظارِ، ورؤيتُنا بكونِنا قُرَّاءً أو نقَّاداً أو دارسينَ أو هواةَ تذوُّقٍ أدبيٍّ، بهذا المعنى يمكنُنا القولُ بأنَّ الرِّوايةَ بالإجمالِ “قراءةٌ أو رؤيةٌ رمزيَّةٌ”: أيْ أنَّها ليستْ فقط روايةً يمكنُ قراءتُها كعملٍ أدبيٍّ، بل هي أيضاً قصةٌ أو نصٌّ فرعيٌّ، يسردُ أحداثاً تاريخيَّةً أيضاً، ترتبطُ أساساً بفعلِ قراءةٍ. ويجبُ ألَّا ننسى أنَّ إحدى القضايا الرئيسةِ المتعلِّقةِ بالقراءةِ، تتمثِّلُ بالسَّبيلِ الَّتي يمكنُنا فيها تسويغُ قراءةٍ معيَّنةٍ للتاريخِ: بمعنى كيفَ يمكنُنا أنْ نتأكَّدَ أو نؤكِّدَ أنَّ هذه القراءةَ المحدَّدةَ أو عمليَّةَ التفسيرِ الَّتي تنطوي عليها القراءةُ الصحيحةُ؟ وتحتلُّ هذه القضيَّةُ، حقيقةً، موقعاً مركزياً في أيِّ حوارٍ نقديٍّ أو نظريٍّ أدبيٍّ، وخصوصاً قراءةَ التَّاريخِ في الأدبِ. وتقدِّمُ الرِّوايةُ، في هذا السِّياقِ، تعارضاً خفيَّاً فيما يسردُهُ الراوي من جوانبِ الأحداثِ الَّتي يراها هو، أيْ ما ظهرَ أو ما تبقَّى من الأحداثِ أمامَهُ، بمعنى أنَّ ما رآهُ هو ما تبقَّى من أعمالِ أخناتون ونفرتيتي من دونِ الدُّخولِ في تفاصيلِ تلكَ الأحداثِ.

لكنْ إنْ كانتِ الحالُ كذلك، فكيفَ يمكنُ للرَّاوي أو لنا، ونحنُ قرَّاءٌ، أنْ ندَّعيَ أنَّ المنظارَ قد تمكَّنَ من الولوجِ إلى أعماقِ شخصياتٍ مثلِ أخناتون ونفرتيتي وسبرِ مشاعرِهما، على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ، وأنَّ ما نقلَهُ كاملٌ وصحيحٌ تماماً كما وقعَ؟ لهذا يمكنُنا الزعمُ بأنَّ روايةَ فحماوي يمكنُ أنْ تُفهَمَ كقصَّةِ تاريخيَّةٍ رمزيَّةٍ بمعنى أنَّها تجسِّدُ إحدى التناقضاتِ الأساسيَّةِ للقراءةِ. فأنْ تُقرَأَ قصَّةٌ معيَّنةٌ قراءةً “صحيحةً” يعني أنْ تنقلَ معانيَ القصَّةِ على نحوٍ دقيقٍ أو أمينٍ أو حياديٍّ، بيد أنَّ مسألةَ أيَّةِ قراءةٍ لنصٍّ روائيٍّ بكونِها القراءةَ الأصحَّ أوِ الأدقَّ هي إحدى قضايا القراءةِ المعقَّدةِ. بهذا المعنى تفتحُ روايةُ “أخناتون ونفرتيتي الكنعانيَّةُ”، البابَ أمامَ سلسلةٍ من الأسئلةِ تخصُّ موضوعَ القراءةِ والقرَّاءِ. فبالإضافةِ إلى المسألةِ الأساسيَّةِ حولَ السَّبيلِ الَّتي يمكنُ التَّأكيدُ فيها أنَّ قراءتَنا صحيحةٌ (أي الطَّريقةُ الَّتي نستطيعُ بها معرفةَ أنَّ القصةَ دقيقةٌ أو حقيقيَّةٌ أو أمينةٌ وأنْ نثبتَ ذلك) تثيرُ الرِّوايةُ تساؤلاتٍ أخرى. فعلى سبيلِ المثالِ: منِ الرَّاوي الذي يسردُ القصَّةَ حقاً؟ وما المنظارُ الزّمنيُّ الصينيُّ، وما صفاتُهُ الأخرى؟ ولمَ قامتِ الإدارةُ المسؤولةُ والمخترعونَ بصناعتِهِ وما غرضُهمْ؟ وهل منظارُ الزَّمنِ أداةٌ تقنيَّةٌ للسردِ فحسبُ، أم أنَّ له وظيفةً أخرى غيرَ سردِ هذه القصةِ؟ فهلِ الرَّاوي والمنظارُ يهدفانِ إلى إضاءةِ قصَّةِ أخناتون وحبِّهِ وزواجِهِ، وصعودِهِ وسقوطِهِ، أو إضاءةِ حياةِ الملوكِ والملكاتِ وقضاياهُم وصراعاتِهم، أو يريدانِ القولَ بأنَّ الدِّينَ يساندُ السُّلطةَ دائماً على حسابِ الشَّعبِ، وأنَّ هدفَهُ النُّفوذُ والسَّطوةُ والثروةُ ليس إلَّا؟ هل هما يرثيانِ أم يسخرانِ أم يتعاطفانِ أم يؤيِّدانِ أخناتون ونفرتيتي أم أنَّـهُما يسردانِ قصَّتَهما وحسبُ؟ إلى أيِّ شيءٍ تقودُنا هذه الأسئلةُ في التفكيرِ فيما يخصُّ علاقاتِ القوةِ المرسومةِ في قراءةِ الرِّوايةِ؟ هلِ استطاعتْ شخصياتُ الرِّوايةِ وأحداثُهاالمتقلبة، أو هلْ كانَ في مقدورِها التَّاثيرُ في القُراءِ الثلاثةِ المذكورينَ آنفاً، أو أنْ تدفعَهمْ باتِّجاهٍ معيَّنٍ فكريَّاً أو عاطفيَّاً؟ وهل سردُ الراوي لِمَا يشاهدُهُ ويقرؤُهُ يختلفُ أو يطابقُ تماماً ما نقلَهُ المنظارُ؟ أو هل يطابقُ النَّقلُ الأحداثَ كما وقعتْ حقَّاً حينَ كانَ أولئك الملوكُ على قيدِ الحياةِ أم أنَّ هناك إضافاتٍ أو تحوُّلاتٍ؟ وهل قراءتُنا نحنُ كقرَّاءٍ محترفينَ للتاريخِ أوِ للقصَّةِ التَّاريخيَّةِ الخياليَّةِ متغايرةٌ تختلفُ باختلافِ الأمكنةِ أوِ الأزمنةِ؟ وهلِ القراءةُ محدَّدةٌ بالتَّاريخِ المعيَّنِ ولا تتغيرُ؟ فما توحيهِ هذه الأسئلةُ مجتمعةً حولَ موضوعِ القراءةِ عموماً جديرٌ بالتَّأمُّلِ والمناقشةِ. وسنحاولُ في الجزءِ الآتي من الدِّراسةِ استعراضَ بعضِ الإجاباتِ المحتملةِ حولَ هذه المسائلِ بالإشارةِ إلى روايةِ فحماوي والتطرُّقِ إلى بعضِ الأفكارِ النّقديَّةِ العمليَّةِ والنَّظريَّةِ حولَ القضايا المُثارةِ.

وقد سادتْ بعضُ الآراءِ النّقديَّةِ فيما يخصُّ الدِّراساتِ الأدبيَّةَ خلالَ النِّصفِ الثاني من القرنِ العشرينَ تحتَ مبدأِ أو مصطلحِ “نقدُ تلقِّي القارئِ”. وفُهِمَ هذا المصطلحُ وما يعنيهِ على أنَّـهُ ردَّةُ فعلٍ تجاهَ تيارِ “النَّقدِ الجديدِ” الأنجلو-أمريكي الذي انتشرَ منذُ بدايةِ القرنِ العشرين إلى ما بعدَ الحربِ العالميَّةِ الثانيَّةِ. وقبلَ التحدُّثِ عن “نقدِ تلقِّي القارئ”، يمكنُنا الإشارةُ إلى موقفِ النَّقدِ الجديدِ حيالَ قراءةِ النُّصوصِ التَّاريخيَّة خصوصاً نظراً لصلتهِ بموضوعِ البحثِ. فالنَّقدُ الجديدُ، بأفكارِ أقطابِهِ الأمريكانِ والبريطانيِّينَ يُصرُّ على قراءةٍ محدَّدةٍ تركِّزُ على الشَّكلِ – أي قراءةِ ’الكلماتِ المكتوبةِ في الصفحاتِ‘ – مع إغفالٍ واضحٍ لعواملَ مثلِ المؤلِّفِ ومقاصدِهِ، والمؤثِّراتِ أوِ السِّياقاتِ التَّاريخيَّةِ والاجتماعيَّةِ الَّتي أدَّتْ إلى إنتاجِ النَّصِّ الأدبيِّ. ورأى النقَّادُ الجددُ أنَّ هذه القضايا لا علاقةَ لها بدراسةِ النَّصِّ، الذي يتألَّفُ من وحدةٍ مستقلَّةٍ وافيةٍ وقائمةٍ بذاتِها تتضمَّنُ أشياءَ جماليَّةً تشكِّلُها كلماتُهُ([1]). وناقشَ هؤلاءِ النقَّادُ أنَّ التعويلَ على استجاباتِ القُراءِ وردَّاتِ أفعالِهمْ، في سياقِ قراءةِ روايةٍ أو قصيدةٍ إنما هو بمنزلةِ إدخالِ ركنٍ خارجيٍّ وغريبٍ في القراءةِ. واستعملُوا مصطلحاً يعبِّرُ عن هذا الفعلِ النَّقديِّ ’الخاطئِ‘ في الحديثِ عنِ استجابةِ القارئ في قراءةِ النَّصِّ، وعبَّرُوا عنه بمصطلحِ “المغالطةِ الانفعاليَّةِ”, فالنقَّادُ الجددُ يهمُّهمُ التدقيقُ الزائدُ في كلماتِ النَّصِّ نفسِها، وبهذه التقنيَّةِ يمكنُهمْ تفادي الانطباعاتِ الذاتيَّةِ للقُرَّاءِ. وبشيءٍ من التخصيصِ، يصعبُ النَّظرُ إلى صبحي الفحماوي ورواياتِهِ ونقَّادِهِ ضمنَ نشاطِ هذا التقليدِ النَّقديِّ. ولا نطلبُ هنا العودةَ إلى سيرتِهِ ورواياتِهِ والنَّقدِ الذي كُتِبَ عنها لإثباتِ ذلك، بل نقولُ إنَّ روايتَنا المدروسةَ مقروءةٌ إلى حدٍّ بعيدٍ وتكادُ تفصحُ ربَّما عنِ الكثيرِ ممَّا تريدُ أنْ تقولَهُ. فهي تتَّسمُ بالوضوحِ والمباشرةِ في رسمِ الشَّخصياتِ، وتتقدَّمُ في أحداثِها نحو نهايةٍ محدَّدةٍ، بدلالةِ أحداثِها نفسِها، وبالقصَّةِ التَّاريخيَّةِ أيضاً. وصعوبةُ انتماءِ الرِّوايةِ لقراءةٍ “نقديَّةٍ جديدةٍ” يعزِّزُها غيابُ المفارقاتِ والتَّعارضاتِ والغموضاتِ كعناصرَ أساسيَّةٍ في مشروعِ رؤيةٍ نقديَّةٍ جديدةٍ خاصَّةٍ بالقُرَّاءِ الثلاثةِ الآنفي الذِّكرِ في الرِّوايةِ. فنحنُ نرى ثلاثةَ مستوياتٍ للنظرِ فيها: المنظارُ الزَّمنيُّ والرَّاوي المعلوماتيُّ والقارئُ النَّاقدُ. ومن الواضحِ إلى حدٍّ كبيرٍ أنْ يكونَ الراوي هو المؤلِّفَ العارفَ تماماً لشخصيَّاتِهِ الَّتي كتبَها وأرادَها أنْ تتحرَّكَ بشكلٍ واسعٍ وفقَ رسومِهِ الفنيَّةِ، أي حدودِهِ ومقاصدِهِ. ومن الصَّعبِ ربما التحدُّثُ عن غموضٍ أو مفارقةٍ أو تعارضٍ بينَ القُرَّاءِ الثلاثةِ فيما يتعلَّقُ بقراءتِهمْ لشخصيَّتَي أخناتون ونفرتيتي وغيرِهما من الشَّخصياتِ وأحداثِ الرِّوايةِ أيّضاً. بيدَ أنَّ هذه الشَّخصياتِ والأحداثَ ذاتَها قد تثيرُ آراءً وعواطفَ متباينةً لدى القارئِ الثالثِ والأهمِّ، حيالَ ما قامَ بهِ الملكُ مثلاً في السِّياسةِ والدِّينِ والحربِ وما يثيرُهُ ذلك من تداعياتٍ في الزَّمنِ الحاضرِ والمكانِ المُشَخَّصِ على نحوٍ معيَّنٍ، مع كلِّ ما يحملُهُ التَّاريخُ من معانٍ حيالَ الشَّخصياتِ المؤثِّرةِ والذينَ سيطويهمُ النِّسيانُ عاجلاً أم آجلاً. وجاءتِ استجابةُ القارئ لتقدِّمَ إجابةً مهمَّةً للغايةِ في هذا الصَّددِ. فثمَّةَ قراءةٌ ترى الرِّوايةَ قصَّةَ حبٍّ خالصةً، وقراءةٌ أخرى تراها روايةً في السِّياسةِ والحكمِ؛ ويكتبُ أحدُ النقَّادِ بعدَ رؤيةٍ تحليليَّةٍ متأنيةٍ: “فإنَّـهُ إذا اجتمعَ المالُ والسُّلطةُ والجشعُ واللهوُ والتسيُّبُ فقدَ الحاكمُ توازنَهُ. والعاقبةُ ستكونُ وخيمةً. وإنْ قِيسَ إلى الرؤيةِ الخلدونيَّةِ الَّتي تحدَّثتْ عن مراحلِ سقوطِ الدَّولةِ، فإنَّ ظفرَ أخناتون بالحكمِ، وتعالِيَ “أناه” في سياقِ منصبِهِ الذي تفرَّدَ بهِ وتنعَّمَ بخصائصِهِ، مهمِّشاً بذلكَ مَنْ صارُوا فيما بعدُ خصومَهُ الذينَ استغلُّوا الفراغَ الذي دفعَ به إلى حياةِ الدَّعةِ والبذخِ واللهوِ والإنفاقِ بغيرِ حسابٍ من مالِ الدَّولةِ، فانقضُّوا عليه بقسوةٍ؛ كانتْ نهايةُ الدَّولةِ الهلاكَ.”([2])

وراحتْ طريقةُ استجابةِ القارئِ النّقديَّةُ في الربعِ الأخيرِ من القرنِ الماضي خصوصاً تُبدِي شكوكَها حولَ مبادئِ “النّقدِ الجديدِ” في القراءةِ. وأخذَ روَّادُ هذا النَّقدِ يؤكِّدونَ دلالةَ الدَّورِ الذي يضطلعُ به القارئُ في تناولِ النَّصِّ، ولو وُجِدتِ اختلافاتٌ بينَ القُراءِ في خُطى مقاربةِ النَّصِّ الأدبيِّ، إلا أنَّـهُمْ يشتركونَ جميعاً في فكرةِ أنَّ معنى النَّصِّ يتولِّدُ في القراءةِ. والذي أكَّدَهُ هؤلاءِ النقَّادُ أنَّ النَّصَّ يتمتَّعُ بمزيَّةٍ خاصَّةٍ أو بمعنًى محدَّدٍ موجودٍ فيه على نحوٍ متأصِّلٍ ينتظرُ قارئاً أو ناقداً حصيفاً كي يكتشفَهُ ويشيرَ إليه. ولمَّا وضُحَتْ روايتُنا في خيوطِ سردِها ومباشرةِ معانيها انضوتْ ربَّما تحتَ ذلكَ الفهمِ أيضاً. فهل يعني ذلكَ أنَّها يسيرةٌ وسهلة، الأمرُ ليسَ كذلك بل ينبغي فهمُهُ على نحوٍ مختلفٍ. وههنا يمكنُ القولُ إن الرِّوايةَ تلجأُ إلى التَّاريخِ كي تتحدَّثَ بصورةٍ غيرِ مباشرةٍ عن واقعٍ راهنٍ، بلغةٍ أدبيَّةٍ سلسةٍ، لأنَّ ثمَّةَ تعقيداتٍ خارجيَّةً تحُولُ دونَ التخصُّصِ والتَّحديدِ والتسميَّةِ. فما نحاولُ اقتراحَهُ هنا أنَّ الرِّوايةَ تحتاجُ إلى طريقةٍ مختلفةٍ في القراءةٍ، ولو سهُلَتْ لغتُها، فثمَّةَ تلخيصٌ وتعدُّدٌ في دلالاتِها. فالفكرةُ العامَّةُ القائلةُ إنَّ ثمَّةَ معنًى أو معانيَ موجودةً في الرِّوايةِ تحتاجُ إلى اكتشافٍ يضطرُّنا دائماً للبحثِ عن معنًى قابعٍ هناكَ ينتظرُ من يستخرجُهُ ويفنِّدُهُ. بيدَ أنَّ الطَّريقةَ النّقديَّةَ الَّتي تركِّزُ على استجابةِ القارئ تفترِضُ على نحوٍ معقولٍ أنَّ معنى النَّصِّ يستندُ بنحوٍ حيويٍّ إلى ما يقومُ به القارئُ من تفسيرٍ في القراءةِ وبعدَها، يتمُّ وفقَ خطَّةِ قراءةٍ ينتظمُ فيها دورُ القارئِ.

([1]) لمزيدٍ من التفاصيلِ، انظر، صالح هويدي، المناهجُ النّقديَّةُ الحديثةُ: أسئلةٌ ومقارباتٌ (دمشق: دار نينوى، 2015)، ص106-122؛ ريتشارد داتون، مقدِّمةٌ لدراسةِ النّقدِ الأدبيِّ الإنجليزيِّ (عمان: دار زهران، 2014)، ترجمَهُ وقدَّمَ له فؤاد عبد المطلب، ص95-99.

([2]) بكر السّباتين، “إسقاطاتٌ خلدونيَّةٌ وسقوطُ الحكمِ في روايةِ “أخناتون ونفرتيتي الكنعانيَّةُ””، رأي اليوم – لندن، 22 يونيو، حزيران 2020.

جامعة جرش- الأردن

عن الكاتب

عدد المقالات : 1615

اكتب تعليق

الصعود لأعلى