الحلم العثماني”: “ندوة” انعكاسات الأزمة السورية على السياسات الإقليمية التركية
كان لاندلاع الثورة السورية منذ ما يقرب من العامين، وما ترتب عليها من تصاعد عمليات العنف والاقتتال بين النظام السوري ومسلحي المعارضة، تداعيات عدة، ليس على الداخل السوري فحسب، بل على مجمل الأوضاع بدول الجوار الإقليمي، لاسيما على الصعيدين الاقتصادي والأمني، خاصة بعد تردي الوضع الإنساني، وتدفق مئات الألوف من اللاجئين السوريين على حدود تلك الدول، ومنها تركيا، والتي لم تقتصر انعكاسات الأزمة عليها على هذين الصعيدين فحسب؛ بل تختطهما لتلقي بظلالها على الصعيد السياسي أيضاً، وهو ما بات واضحاً في تحول دفة العلاقات بين أنقرة ودمشق من سياسة الوفاق إلى مرحلة الشقاق والتأزم.
في إطار ذلك، عقد مركز عصام فارس في بيروت مؤخرا ندوة بعنوان ” تداعيات الأزمة السورية على تركيا” بمشاركة الوزير اللبناني السابق، كريم بقرادوني، ومسئول صفحة قضايا على صحيفة النهار، الأستاذ جهاد الزين، والخبير في الشئون التركية، الدكتور ميشال نوفل، ونخبة من المتخصصين والمهتمين بالشئون التركية، وعدد من المعنيين بالأزمة السورية وتطوراتها.
بداية، تحدث السفير عبدالله بوحبيب، مدير المركز، عن العداوة القاسية التي وصلت إليها العلاقات بين أنقرة ودمشق،مرجعا ذلك إلى الصراع الحاد الدائر قرب الحدود بين البلدين ، الأمر الذي انعكس جليا على الداخل التركي ونسيجه المتنوع، مثيراً اعتراضات لدى فئات مذهبية، خاصة في إقليم “هاتاي”.
الموقف التركي في حال سقوط النظام السوري:
وفي إطار تناوله للأزمة السورية، حذر كريم بقرادوني من “عودة العثمانية الجديدة في حال سقوط النظام السوري”، لافتا إلى أنه “في هذه الحال ستندفع أنقرة إلى العمل بنظرية العمق الاستراتيجي، التي ينادي بها وزير خارجيتها، أحمد أوغلو، لملء الفراغ السوري بدعم من العرب.
وأشار بقرادوني إلى أن سقوط النظام السوري هو السيناريو الملائم لتركيا، مما يسهل بسط نفوذها وتمددها إلى لبنان، والأردن، وفلسطين، وهو ما يشكل بدوره “تبدلا استراتيجيا” يجعل من تركيا عاصمة الإسلام السياسي، بدلاً من مصر والسعودية، معتبرا أن حلم الإمبراطورية العثمانية لا يزال قائما ولا يأتي من فراغ، بل يقوم على معطيات جغرافية وديموغرافية واقتصادية.
وفي حديثه عن تصوره للوضع المستقبلي السوري ،عرض بقرادوني ثلاثة سيناريوهات للوضع في سوريا ، قائلا إن السيناريو الأول هو استمرار الاقتتال السوري لفترة طويلة، مما يضع أنقرة أمام احتمالات تصعيد التوتر مع دمشق، نتيجة دعمها للجيش الحر، وهذا ما استدعى طلب أنقرة نشر بطاريات “الباتريوت”، لافتا إلى أنه “في حال حصول تسوية سياسية إقليمية دولية ترعاها موسكو وواشنطن، قد لا يكون لتركيا فيها دور أساسي، نتيجة تدهور علاقاتها مع دمشق، وستحل محلها السعودية ومصر.
أما السيناريو الثاني، فيتمثل في “التسوية وتهدئة الوضع”، ويصب هذا السيناريو في صالح الدور العربي، لكنه لا ينهي الخلافات بين دمشق وأنقرة. ورأى أن السيناريو الثالث هو انتصار النظام السوري، وهو السيناريو الأسوأ لأنقرة، نظراً لأنه سرعان ما سيرتد على تركيا مباشرة، مشيرا إلى إمكانية تحريك دمشق للأكراد الذين سيرون أن الأزمة توفر فرصة تاريخية لهم لتقرير مصيرهم، ناهيك عن مشكلة العلويين داخل تركيا، موضحاً أن الأزمة السورية شكلت منطلقا لدور جديد وكبير لروسيا في المنطقة.
تداعيات الأزمة السورية على صانعي القرار التركي:
وأوضح جهاد الزين، مسئول صفحة قضايا بصحيفة النهار، أن هناك تخبطا في السياسة الإقليمية التركية، معتبرا أن الوضع السوري أحدث حالة من الارتباك لدى رئيس الحكومة، رجب طيب أردوغان، ووزير الخارجية، أحمد داود أغلو، إلا أنهما يحاولان إظهار تماسك السياسة الخارجية، لافتا إلى تصريح لأردوغان تحدث فيه عن الأزمة السورية ومخاطرها على تركيا، قال فيه “إن الحياة مليئة بالمجازفات” .
وأشار إلى أن الأزمة السورية نتج عنها متغيران مهمان، أولهما بروز الأهمية الاستراتيجية للملف الكردي كأحد انعكاسات الأزمة السورية، وثانيهما انهيار علاقة أنقرة مع المركز الشيعي في العراق، في الوقت الذي ظلت فيه العلاقة مع الإقليم الكردي العراقي رهن قادة الإقليم.
وأشار إلى أن الأكراد يرون أن ما يجري في المنطقة وسوريا يشكل فرصة تاريخية لتأسيس “كيان ذاتي” لهم، لافتا إلى أن “تركيا اكتشفت أن دخولها في الملف السوري أدى إلى دفع القوة الكردية إلى الداخل التركي بدلاً من إضعافها وتشتيت جهودها نحو الخارج”.وفي الشأن العلوي، أوضح الزين أن “العلويين العرب في تركيا لا يختلفون كثيراً في المعتقدات مع العلويين الأتراك”، مشيراً إلى “النسبة الكبيرة للعلويين في الجماعات الكردية ومنها العراقية”.
وطرح الزين تساؤلاً عما إذا كان “تبني تركيا للإخوان المسلمين وانخراطها في الأزمة قد يقود إلى تأسيس طريق ثالث للتعاطي مع الواقع السوري، يتمثل فى كل من السعودية وإيران، باعتبارهما مركز ثقل التنافس السني – الشيعي”، معتبرا أن “أحد أوهام تركيا اعتقادها بإمكانية وراثة النفوذ الإيراني في سوريا وليس السعودية”.
انعكاسات الأزمة السورية على العلاقات الإقليمية:
وفي إطار رؤيته لانعكاسات الأزمة السورية، أشار الدكتور ميشال نوفل، الخبير في الشئون التركية، إلى إمكانية تغير الوضع الجيوسياسي بالمنطقة، في حالة تفكك الدولة السورية، أو تفاقم الصراع الطائفي فيها، بالنظر إلى المعطى الانفصالي الكردي، معتبراً أن استمرار الأزمة قد يفاقم المسألة الكردية في تركيا ذاتها، لافتا في هذا السياق إلى أن “تركيا لا تريد التورط مباشرة فى المستنقع السوري، ولا تريد رؤية سوريا مفككة على الطريقة العراقية”.
ورأى أن انفجار الثورة السورية زاد التوتر والشك بين أنقرة والأكراد، بفعل عودة الارتباط الأمني بين حزب “العمال الكردستاني” والأجهزة الأمنية السورية، وتكثيف الحزب هجماته في جنوب شرق الأناضول. إلا أنه مع تسليم سوريا بمنطقة الجزيرة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي -الذي يراه البعض الوجه السوري لحزب العمال- باتت للأخير حسابات استراتيجية شاملة حول الحكم الذاتي.
وأوضح نوفل أن إظهار الدبلوماسية التركية في الآونة الأخيرة واقعي في التعامل مع الواقع الكردي في سوريا”، لافتا إلى أن “علويي تركيا من العرب الذين يقطنون لواء الإسكندرون، والذين يبلغ عددهم نحو 500 ألف نسمة، يتعاطفون علناً مع النظام السوري، دون أن يعني ذلك استعدادهم للانخراط مباشرة في النزاع، مميزا إياهم عن العلويين الأتراك في وسط الأناضول، والذين تبلغ نسبتهم نحو 20 في المائة من عدد سكان تركيا البالغ 74 مليونا، ويختلفون عن العلويين العرب باللغة والقومية، وبعض المعتقدات، ويتعاطفون بدرجة أقل مع النظام السوري.
ورأى نوفل أن نصب تركيا “بطاريات باتريوت”، يعد حاجزا لإمكانية تدخلها المباشر في الصراع السوري، لافتا إلى أنه من الصعب تصور نزاع مكشوف في العلاقات السنية – العلوية داخل تركيا.
ختاما، أجمع المشاركون على خطورة ما يحدث في سوريا على السياسة الإقليمية التركية، وعلى الداخل التركي أيضاً، واتفقوا على وجود تخبط في المقاربة التركية لجهة التعاطي مع النزاع الدائر. وفي المقابل، استبعدوا إمكانية اندلاع نزاع داخلي سني علوي في الداخل التركي بسبب الأزمة السورية، وأن ذلك لا يعني تنامي التوترات والمخاوف لدى أنقرة من الملف الكردي، وما يمكن أن تصل إليه الطموحات الكردية.